انهمرت معلومات وتسربيات وتخمينات وتهويمات وشائعات غزيرة ومختلطة ومتضاربة، في فوضى إعلامية، عن الطائرة التي ضبطتها السلطات في زامبيا وقالت إن على متنها ملايين الدولارات وذهبًا مغشوشًا وأسلحة، وتسعة رجال؛ خمسة مصريين وإسباني وهولندي ورجل من لاتفيا وآخر من زامبيا، سيقوا، ومعهم زامبيون آخرون ساعدوهم، إلى محاكمة بتهمة التجسس.
منذ أن وقعت الواقعة، ونحن في مصر عُرضة لما تنقله وسائل إعلام خارجية عن الصحافة الزامبية، وعن إعلاميين ومحققين ومحللين من زامبيا وغيرها، يفيضون في الحديث والتحليل، فلا ينجلي لقولهم الأمر الملتبس، ولا يجد المتابعين إجابات كافية شافية لأسئلتهم التي اشتعلت في الرؤوس كالجمر.
دعك من المعلومات، التي لا تحل اللغز حتى الآن، ولننظر إلى ما وراء هذه الواقعة، إلى ما هو أجدى أن نُمعن فيه النظر ونستخلص منه العبر.
نُظم الحكم الفاسدة لا تخلق مشكلات لشعبها داخل الحدود وحسب، بل سرعان ما يطال الأذى آخرين
هنا يمكنني أن أسوق آراء تنطلق من الحادث؛ لا تقف عند التفاصيل إنما تنظر إلى المسألة برمتها، أو في عللها البعيدة وآثارها العميقة، ومآلاتها التي تمتد إلى غيرها. أصيغها في النقاط التالية:
1- أعطتنا هذه الواقعة فرصة جديدة للمقارنة بين إعلام انتُزع بعض حريته، وآخر مقيد تمامًا. فبينما غاب الإعلام المصري تقريبًا عن المتابعة، وإن تابع فهو مقيد برواية السلطة أو رغبتها في التعمية، وجدنا الإعلام الزامبي يتحول إلى مصدر معلومات بالنسبة لمتابعي الواقعة في العالم أجمع، وفي مقدمته مصر.
2- وجدنا فرصة أيضا للمقارنة بين معارضة حيوية حاضرة في زامبيا، تملك هامش حركة، ومن ثَمَّ أمكنها أن تقوم بدور المتابع والمراقب للواقعة، وتسأل السلطة عما تفعله بخصوصها، والأخيرة تحسب حسابها، ومعارضة خامدة مغيبة في مصر، لم تتمكن من مساءلة السلطة عن حقيقة هذه الواقعة، ودفعها إلى مصارحة الشعب بالحقائق منذ أول وهلة.
وهنا يتبيَّن من التجربة أن وجود معارضة تتمتع بقدر من الحيوية مفيد للدولة، وليس خَصْمًا منها حسبما تتوهم السلطة في مصر. فالمعارضة الزامبية، ورغم أنها تعمل في ظل تعددية مقيدة، دافعت عن المصلحة العليا لبلادها، ووقفت حجر عثرة أمام تلاعب السلطة أو تنكرها للإرادة الشعبية. نقيض من هذا جرى في مصر، إذ لم تتلقَّ المعارضة داخل البلاد ردًّا من السلطة على مطالب الشفافية حيال الواقعة، أو إجابة على أسئلة جوهرية مطروحة.
3- نُظم الحكم الفاسدة أو الفاشلة أو المستبدة، أو التي توصم بالثلاثة في آن، لا تخلق مشكلات لشعبها داخل الحدود المتعينة جغرافيا للدولة وحسب، إنما تسيح هذه المشكلات من الداخل إلى الخارج، وسرعان ما يطال الأذى آخرين، لا يقعون تحت سلطان هذه النظم.
4- تؤكد الواقعة ما تعارف عليه من أن العالم قد صار غرفة صغيرة، ومن العبث أن يظن أحد أن بوسعه أن يخفي الأسرار فيه إلى الأبد. فما جرى في زامبيا، سارعت إلى نقله وسائل الإعلام، بما فيها الإعلام الجديد في السوشيال ميديا. وقد وجدنا مصريين يقفزون على الفور لمتابعة مستخدمين من زامبيا، يكتبون باللغة الإنجليزية، وهي اللغة الرسمية في البلاد، أو باللغات المحلية التي تسهل ترجمتها عبر تويتر أو قاموس جوجل.
5- إن المصالح المتبادلة بين أنظمة الحكم في إفريقيا، ومراعاة الرؤساء والمسؤولين خواطر بعضهم البعض، تعمل كثيرًا في اتجاه أي مشكلات تطرأ بين حين وآخر.
أي سلطة فقدت مصداقيتها وثقة شعبها تدفع الثمن باهظًا حين يصدق الناس غيرها
وفي إطار هذه المعاني الخمسة، يمكن القول أيضا إن واقعة الطائرة، بينت عدة أشياء أيضًا، هي:
1- أي واقعة أو حدث مثير جاذب يخلق حوله أسئلة وحالة من الحيرة والتطلع والفضول. ومع نقص المعلومات أو الإجابات التي تلبي حق الناس في المعرفة، يُخلق فراغ، إن لم تملؤه السلطة السياسية بتصريحاتها ومعلوماتها وامتثالها للحق في المعرفة، يقفز آخرون؛ سواء كانوا هواة أو جناة أو بغاة، لملء الفراغ، بمعلومات متسرعة، أو مغرضة، أو مجرد تخمينات وتحليلات قد تعوزها الدقة.
2- أي سلطة فقدت مصداقيتها وثقة شعبها، تدفع الثمن باهظًا حين يصدق الناس غيرها، سواء من مناوئيها أو من باحثين عن المعلومات بأي ثمن.
3- لم يعد التذرع بالحفاظ على الأمن القومي مقبولًا من فئات عريضة من الشعب، لا سيما أن السلطة السياسية تتوسع في حشر كل صغيرة وكبيرة تحت لافتته وطائلته، وتقوم بتأويل مفرط لمختلف القضايا والمسائل كي تنتظم في إطاره، بما جعل "الأمن القومي" يبدو حقًا يراد به باطل، أو صوابًا يقود إلى أخطاء جسيمة، في أغلب الأوقات.
وأيًا كانت النتائج التي ستسفر عنها هذه الواقعة الغريبة، فإن ما فيها من دلالات وتحليلات عميقة، أكبر بكثير مما يعرضه تناولها السريع والعارض الذي يركز على ظاهرها، ويغفل جوهرها، وهو الأبقى والأجدى، إن كنا بصدد تحليل سلوكيات أنظمة حكم، أو مشكلات مجتمع، تبحث عن حلول ناجعة، أبعد من عبور أزمة هذه الطائرة.