عن عمد، ومع سبق الإصرار والترصد، تهاجم كتائب الذباب الإلكتروني، وأبواق الإعلام الموجه، المعارضين السياسيين والمختلفين، بل المستقلين، في مصر بلا هوادة. ويمثل هذا جزءًا، لا يستهان به، من أدوات العقاب ووسائله، التي تتدرج من النفي إلى تلويث السمعة، مرورًا بالسجن وقطع الرزق.
ابتداءً، لم يخل تاريخ أي دولة أو مجتمع من ممارسة درجات متفاوتة من البذاءة السياسية، التي لا يقتصر القيام بها على أشخاص تافهين غير مسؤولين عن أفعالهم، أو قابعين في أدنى السلم الاجتماعي والسياسي. بل طالما نطق رجال دولة كبار بما لا يمكن وصفه إلا بأنه نوع من "البذاءة"، بعضه كان "زلات لسان" وبعضه مقصودًا. وانطوى على قدر هائل من المبالغة التي تصنعها العبارات الزاعقة والجارحة والصادمة للذوق العام والمناقضة لما يتوقعه أغلب من بيدهم مقاليد الأمور، أو من يشكلون الرأي العام، وقد يفعل هؤلاء هذا بأنفسهم أو بتجنيد ميليشيات في الواقع أو في العالم الافتراضي تسب معارضيهم بأفظع الألفاظ وأقذرها.
وافتقاد التعبيرات البذيئة لأي أخلاقيات وانعدام جدواها أحيانًا، لا يمنع من النظر إلى ما تنطوي عليه من مجاز، سواء في ألفاظها أو إشاراتها، لا سيما أن ما ورائها من ضغائن يجعلها تأتي مشبعة ببلاغة زاعقة من حدة الوصف، وقسوة التشبيه، ففي النهاية لا تخلو الكلمات حتى لو كانت بذيئة من إيحاء.
فالتعبيرات المكشوفة الجارحة لم تجعل بوسعنا أن نتجنب المجازات العفية الموجودة في أعمال أدبية مثل أميات نجيب سرور، والخبز الحافي لمحمد شكري، وفاصل للدهشة لمحمد الفخراني، وكتابات جان جينيه، وهنري ميللر الذي يقول في روايته ربيع أسود "كتابي هو الإنسان الذي هو أنا، المضطرب، المتهاون، المتهور، الشهواني، داعر، عاصف، مفكر، شكاك، كذاب، رجل متمسك بالحقيقة بشكل شيطاني أنا"، أو بطل رواية الليبي محمد الأصفر سرة الكون التي يقول فيها "أشعر أنني رجل من عكس، شربت قهوتي من القاع، سكرت من الصحوة، أنام مع الصداع، أبدأ بالنهايات، أصل في الوقت بدل الضائع، أتقيأ الصدق، وأرقص للرياء والنفاق، أقدم التعازي في الولادة، وأهني العرسان في الطلاق".
أمثلة البذاءة
لكن ما يمكن تبريره في الأدب والفن ليس بوسعنا أن نمرره في السياسة ببساطة، لا سيما في وقت صارت أمثلة البذاءة السياسية في علاقات الدول تصل إلى أسماع كثيرين في ظل ثورة الاتصالات. فمثلًا بلغت البذاءة السياسية حدًا جارحًا حين سب الرئيس الفلبيني رودريجو دوتيرتي نظيره الأمريكي باراك أوباما بـ "ابن العاهرة"، في ركاب نقده لموقف الولايات المتحدة الرافض لقتل الحكومة الفلبينية تجار المخدرات بالرصاص من دون محاكمة.
وانتقلت البذاءة السياسية إلى مستوى آخر من المبالغة بين الرئيس الكوري الشمالي كيم جونج أون والأمريكي دونالد ترامب، حين وصف الأول الثاني بأنه "العجوز المختل" فرد ترامب "لماذا يهينني كيم جونج أون؟ ويصفني بالعجوز المختل، بينما أنا لم أدعوه بالقصير السمين، لقد حاولت بشدة أن أكون صديقه، ومن الممكن أن يحدث هذا في يوم من الأيام". وهذان وصفان مختلفان، الأول ينصرف إلى العمر والعقل، والثاني إلى الطول والوزن.
واستعمل الجمهوريون اصطلاح "البذاءة السياسية" في وصفهم للأساليب التي اتبعها ضدهم الديمقراطيون في معرض اتهامهم لحملة الرئيس السابق ترامب بأنها تلقت دعمًا من روسيا الاتحادية، وسعيهم لإثبات ذلك من خلال مكتب التحقيقات الاتحادي ووزارة العدل الأمريكية، حيث قال ديفين نونيس العضو الجمهوري بمجلس النواب ورئيس لجنة المخابرات بالمجلس "يفهم الشعب الأمريكي الآن بوضوح أن مكتب التحقيقات الاتحادي استخدم البذاءة السياسية التي جاء بها الحزب الديمقراطي للتجسس على مواطن أمريكي من الحزب الجمهوري".
هناك من يلجأ إلى البذاءة كرد فعل لظلم قاس، كنوع من التنفيس عن الذات
وصاحبت "البذاءة السياسية" الحملة الانتخابية الرئاسية التي تبارى فيها ترامب ضد هيلاري كيلنتون، ووصلت الشتائم المتبادلة والتراشق بألفاظ عنصرية بين المرشحين حدًا غير مسبوق في الحياة السياسية الأمريكية.
فجيوفري سكيللي أستاذ العلوم السياسية في جامعة فرجينيا، رأى ما جرى "أقبح حملة رئاسية، بين اثنين من المرشحين يمتلكان تاريخًا غير مشجع"، أو حسب وصف كريستيان فيري مدير سابق لحملة ليندسي جراهام "هذه حملة لا يختلف اثنان على أنها الأقذر في التاريخ الأمريكي".
ففيما وصف ترامب هيلاري بأنها تمارس "عنصرية وقحة"، ردت عليه قائلة "ترامب شخص ذو تاريخ طويل في التمييز العنصري وفي الترويج لنظريات المؤامرة التي يلتقطها من الصحف الصفراء في السوبرماركتات ومن دهاليز الإنترنت، ومثل هكذا شخص لا يصلح قطعًا لإدارة الحكومة أو قيادة الجيش".
وبينما نشرت حملة كلينتون فيديو يتحدث عن علاقة ترامب مع مجاميع كو كلوكس كلان التي توصف بالعنصرية البشعة، ردت حملة ترامب بنشر مقتطفات من تصريحات لكلينتون عام 1996 وصفت فيها بعض السود الأمريكيين بأنهم "وحوش مفترسة".
البذاءة العارية
لا تقتصر البذاءة، التي تعني وفق قاموس أكسفورد الوقاحة وقلة الاحترام، على اللغة الخشنة المتجاوزة التي تبالغ في وصف الخصم للحط من كرامته، فقد سبق أن استعمل الرئيس السوفيتي نيكيتا خروشوف حذاءه بطريقة بذيئة خالية من أي دبلوماسية أو كياسة، حين وضعه على الطاولة أثناء خطبة له بالأمم المتحدة، ليقول إن الدول الصغرى التي تحاول أن تدس أنفها في شؤون بلاده ليس لها سوى حذائه.
ورغم أن الزعيم الروسي كان يتصرف بمنطق تلقائي لمزارع بسيط، لكن البذاءة استشرت في السلوك السياسي والدبلوماسي وانتقلت من البذاءة إلى الخلاعة. وبعدها رأينا الأحذية تُرفع في برلمانات ومؤتمرات سياسية، أو تُقذف في وجه الخصوم، مصحوبة بسيل من الشتائم شديدة الوقاحة.
هناك من يلجأ إلى البذاءة رغبة في لفت الانتباه، وأحيانًا تكون رد فعل لظلم قاسٍ يتعرض له فرد أو جماعة، ولا تجد لها من سبيل للمواجهة سوى التنفيس عن الذات، والكيد للخصم، أو إظهار شجاعة زائفة عبر العنف اللفظي، والطاقة العدوانية الكلامية، التي يظن أصحابها أنهم قادرون بها على تعويض الخسارة، وعبور المحنة. لكن ازدادت الخطورة من دخول إعلاميين على خط البذاءة السياسية، خالطين إياها بالدعاية المسمومة التي تنضح بالعنصرية والسجال العقائدي والتحريض، ودعوات للاحتراب الأهلي.
إن المبالغات التي تنطوي عليها البذاءة السياسية لا تصنع جمالًا لغويًا أبدًا
وتبدو البذاءة السياسية، التي تفتقد إلى القبول والاحترام، مثيرة للشفقة بمن ينتهجها وسيلة للدفاع عن نفسه أو مهاجمة منافسية وخصومه، فما تحويه من "تعبيرات استطرادية" زاعقة، تخلق حالة من النفور، حتى لو كانت تدور حول احتياجات ومعاناة حقيقية وتستخدم مفردات ناتجة من قيم العدالة والسيادة. لكنها في النهاية تسقط في فخ العدمية السياسية والثقافية والاجتماعية، وترتد بلاغتها، إن وجدت، على أصحابها.
فالبذاءة أشبه بالنفايات، وهي استعارة لا تتجاوز الواقع، إذ إن كثيرًا من سيل الكلام البذيء سرعان ما تجرفه الحقائق، أو الأفعال التي لا تلتفت للشتامين. فنفايات الكلام، تطلق أساسًا على نوع من الكتابة السيئة والتي لا قيمة لها.
وتمتد البذاءة من وصم أبناء طبقة معينة مثل وصف بعض المهمشين في الولايات المتحدة في وقت من الأوقات على أنهم "معربدون وغجريون وآفاقون ومتسكعون وفاشلون ونشالون وحثالة"، إلى وصف معارضين في بعض دول العالم الثالث بأنهم "خونة أو طابور خامس ومرتزقة ومأجورون وخوارج .. الخ".
إن المبالغات التي تنطوي عليها البذاءة السياسية لا تصنع جمالًا لغويا أبدًا، مهما كان إحكامه، لأن الصور القبيحة التي تصنعها في الأذهان والمخيلات بعض الألفاظ الجارحة لا تجعل أحدًا يلتفت إلى بلاغة الشتامين، ولا تشجع الكثيرين على استعارتها واستعادتها حتى في مجال البرهنة على قسوة العلاقات الدولية والمخاتلات التي تتسربل بها السياسة التي لا يزال هناك من يصر على أن ينظر إليها برمتها على أنها "لعبة قذرة".