في الصورة الشهيرة التي يظهر فيها، وهو المصري المسيحي، يحمي المتظاهرين وقت ثورة يناير حتى ينتهوا من الصلاة، تعريف وافٍ بچورچ إسحق. هو المخلص دائمًا، والشجاع الذي يدافع عن اختيارات الناس. وإذا أردنا اختصار سيرته الذاتية في كلمة واحدة تصف سنوات طويلة من النضال السياسي والحقوقي المشرّف، ستكون "الحرية".
في نهاية العام 2004، انتبه الناس لصيغة سياسية نخبوية جديدة اسمها الحركة المصرية من أجل التغيير، شكّلها عدد من السياسيين والمثقفين، وتم اختصار اسم الحركة الوليدة في كلمة: كفاية.
اختار مؤسسو الحركة چورچ إسحق منسقًا عامًا لها، وفي وقت قصير تحولت "كفاية" إلى حركة سياسية جامعة تضم غالبية النخب السياسية والتيارات الشبابية الوليدة الداعية للتغيير، وخرج منها جماعات أخرى مثل: شباب من أجل التغيير، وعمال من أجل التغيير، ومحامون من أجل التغيير.. الخ
القضية الأهم
ليس من الصعوبة تخيُّل كم الضغوط التي مارسها نظام مبارك وأجهزته الأمنية وإعلامه وحزبه الحاكم، ولا من الصعوبة توقع درجة الصلابة التي تمتع بها چورچ إسحق منذ قبوله مهمة المنسق العام لحركة سياسية ترفع شعار لا لتمديد ولا للتوريث، في إشارة لحسني مبارك ونجله جمال.
لكن المؤكد أن إخلاص چورچ لقضيته الأهم هو ما دفعه لقبول المهمة الصعبة، ولتحمل الضغوط الكبيرة. فالحرية هي القيمة الأكثر إلهامًا لدى العم چورچ كما كنا نناديه، وهو على استعداد دائم للتضحية من أجل هذه القيمة الكبرى التي كان يرى أنها الخطوة الأولى في طريق تقدم مصر .
قاد إسحق "كفاية" في زخمها الأول، ووصل اسم المناضل الذي تولى هذه المهمة "الانتحارية" إلى الآفاق، وبقدر ما تحمل من ضغوط وإساءة لاسمه بقدر ما أخلص للفكرة وللحركة على السواء.
لكن إسحق الذي ألهمته قضية الحرية عاد بضميره الوطني اليقظ ليصبح معارضًا للسلطة الحالية
شاء القدر أن تشكّل "كفاية" الإرهاصات الأولى لثورة يناير الخالدة، وأن يكون الحجر الذي ألقاه إسحق ورفاقه في بحر السياسة المتجمد، هو الذي يفيض بأمواج البشر بعدها بسنوات في ثورة شعبية عظيمة أطاحت بمبارك ونظامه، وليرتبط اسم إسحق بالحركة التي كسرت حاجز الخوف، ورفعت سقف المعارضة السياسية، وطالبت للمرة الأولى في تاريخنا الحديث بتغيير جذري في الوجوه والسياسات، ثم ليصبح الرمز المصري چورج إسحق أحد أهم رموز الثورة المصرية.
من "كفاية" إلى الجمعية الوطنية للتغيير، التي قادها الدكتور محمد البرادعي بعد عودته لمصر، واصل إسحق نضاله من أجل التحول الديمقراطي، ليصبح أحد ألمع وأهم القيادات بالجمعية، وليواصل حركته وكتاباته ومشاركاته في الحراك السياسي والاجتماعي الذي ازداد واشتد في مصر وقتها، حتى لحظة استجابة الشعب لأحلام التغيير وخروجه النبيل إلى الميادين في 25 يناير 2011.
بعد يناير
في أعقاب ثورة يناير كان إسحق في صفوف المعارضين لحكم الرئيس الراحل محمد مرسي، ليشارك القوى السياسية في أحداث 30 يونيو 2013، ثم بعدها يصبح داعمًا لحمدين صباحي في انتخابات الرئاسة عام 2014، مدافعًا عن الحكم المدني الديمقراطي.
بعد صعود الرئيس السيسي للسلطة، لم يكن إسحق معارضًا له بشكل كبير، وارتضى أن يراقب السلطة الجديدة من بعيد. خلال هذه الفترة تعرض لانتقادات من قوى سياسية وشبابية محسوبة على ثورة يناير، بعد اتهامات طالته بأنه لم يتخذ موقفًا واضحًا من التضييق على الحريات وإغلاق المجال العام.
لكن إسحق، الذي ألهمته قضية الحرية، عاد بضميره الوطني اليقظ ليصبح معارضًا للسلطة الحالية، ورافضًا بشكل قاطع لكل صور التضييق على الحريات العامة وملاحقة النشطاء السياسيين، وغيرها من التفاصيل التي حملتها النسخة الجديدة من الديكتاتورية التي ناضل ضدها لسنوات.عاد حالمًا بدولة مدنية ديمقراطية تصون الحرية والكرامة وتكفل احترام حقوق الإنسان وتداول السلطة.
واصل إسحق نضاله ضد الاستبداد بكل صوره، وانتقد الانتهاكات التي تحدث ضد أصحاب الرأي والنشطاء السلميين، ولم يستسلم للواقع السياسي الجديد الذي فرضته السلطة الحالية، وظل متمسكًا بكل أهداف ثورة يناير في العيش والحرية والكرامة.
بعدما استطاع إسحق الحكم على السلطة الحالية بشكل حاسم، وبعد أن استنفد الحكم الحالي كل مبررات سطوته على الحياة العامة، وعلى الرغم من تقدمه في العمر؛ عاد إلى سيرته الأولى ليكون أحد مؤسسي الحركة المدنية الديمقراطية، التي تضم عددًا كبيرًا من أحزاب المعارضة والشخصيات العامة، والتي أضحت خلال السنوات الماضية، رغم الحصار القاسي، الأعلى صوتًا والأشد معارضة للسلطة الحالية، ليصبح الرمز الوطني الكبير صوتًا معبرًا عن القوى المدنية التي تدافع عن قضيته الأولى وإلهامه الأهم: الحرية.
ولعل المفارقة التي لا تخلو من معنى، هي رحيل چورچ إسحق بينما هو عضو بالمجلس القومي لحقوق الإنسان، مدافعًا عن المصريين وكرامتهم وحقهم في الحرية والمواطنة ودولة القانون التي تساوي بين الجميع.
حتى يومه الأخير لم يتوقف نضال إسحق دفاعًا عن مصر التي عاش يحلم بها ويناضل من أجلها: دولة مدنية ديمقراطية لكل أبنائها بعيدًا عن القيود والسجون والاستبداد بكل أشكاله. لذلك عاش في قلوب كل الذين نعوه وحزنوا لرحيله من النخب الفكرية والثقافية والحقوقية والسياسية، فغيابه خسارة لمصر ولقضيتها التي لم تفارقه يومًا: حرية الإنسان.