أرشيف ناصر عبد الحميد، بإذن خاص للمنصة
جورج إسحق يجمع توقيعات المواطنين على بيان التغيير في رأس البر ضمن حملة طرق الأبواب، 8 أغسطس 2010.

سعيدة يا عم جورج

عندما طرقت أبواب الوطن مع جورج إسحق

منشور الأحد 11 يونيو 2023 - آخر تحديث الاثنين 12 يونيو 2023

"أنا جورج إسحق، وعاوز أسألكم إنتو عاجبكم حال البلد؟ إحنا عاوزين نغير الأوضاع السيئة فى البلد دي، ودي مطالبنا".

- حملة طرق الأبواب، بلاج بورسعيد، 23 يوليو 2010.

كانت تلك واحدة من دخلاته المتعددة للفت أنظار الناس والدخول في حوار حميمي معهم، يصنعها بأداء تكتيكي يسحبك فورًا إلى مساحته الودودة، حتى وإن كنت عدوًا.

كنت أراقبه مستمتعًا ومبتسمًا فى كل جولة نسير فيها بمفردنا أو صحبة آخرين، بينما يصب من فيض حبه للناس عليهم، شاغلًا فضاء المساحة التي يتحرك فيها. طاقة متفردة تحمل زغزغاته ومجاملاته ومشاكساته للناس، وتمرر لهم رسالته السياسية التى جاء من أجلها. لم ألتق سياسيًا بارعًا فى ذلك غير حمدين صباحي، ووالدي فتحي عبد الحميد، الذي أسعدتني الظروف ورافقته في انتخابات 1995، ثم في مرات كثيرة أخرى عندما تقاطعت سبلنا السياسية بعد سنوات.

فكرة

في أحد المرات وبعد أن انتهينا من اجتماع للأمانة العامة للجمعية الوطنية للتغيير، وكنت أصغر أعضائها سنًا، ذهبنا كعادتنا إلى كافيه ريش بوسط القاهرة. استقبلنا مجدي عبد الملاك، صاحب المقهى بترحابه المعتاد، ومع الليمون والشاي بادرت جورج قائلًا "وبعدين يا ريس! هنفضل كده بنجتمع عشان نتابع التوقيعات على وبسايت الجمعية؟"، فرد بثقة "لا طبعًا، مانت عارف إننا بعد شوية هنعمل مؤتمرات وكدة، واحدة واحدة".

قلت له "طيب أنا بفكر ننقل جمع التوقيعات من على الوبسايت للشارع، نتحرك ونقابل الناس ونفهم هما فين من اللى بنعجن فيه ده"، فرد بدون تفكير "ياللا أنا معاك، ونطرح الموضوع على الجمعية الاجتماع الجاي، بس حضّر تصور". قلت له "أنا عندى تصور بالفعل، هنعمل حملة لطرق الأبواب للتوقيع على بيان التغيير. الشباب ينزلوا فى مجموعات فى المحافظات اللي لينا فيها لجان حزبية، ويعدوا على البيوت يخبّطوا، ويتكلموا مع الناس ويطلبوا منهم يوقعوا على البيان".

ناصر عبد الحميد يتوسط أحمد فوزي وجورج إسحق في اجتماع جبهة الإنقاذ بمقر حزب الوفد، ديسمبر 2012.

هنا أنارت عيناه وبانطلاق كامل قال لي "ياللا فورًا "، قلت "طيب أنا محتاج شهر على الأقل للتحضير لأني عاوز البداية تبقى في عدد من المحافظات في نفس اليوم، مش في القاهرة بس. وده هيتطلب عدد من السفريات لمقابلة الشباب فى المحافظات الأول، وعشان ده يحصل من غير ما يتم إجهاضه، سواء من الإخوان أو إن المعلومة تتسرب، فأنا مش هقول الاقتراح للجمعية لحد ما ننطلق. أنا بقولك عشان إنت الوحيد اللي أقدر أقول له، وعشان لو حصل لي حاجة تبقى عارف أنا كنت بعمل إيه".

قال لي "خلّي بالك من نفسك بس، وخليك معايا على التليفون باستمرار. والأفضل متباتش فى بيتك الفترة دي. روح اقعد فى بيتى القديم في الضاهر لحد ما نتطمن، وفكر كده ممكن نبقى ننزل بأعلام مصر صغيرة كده في إيدينا مع البيان".

وبالفعل صرت أبّدل ما بين بيتي وبيت الضاهر، وألتقي بالمجموعات الأساسية من الشباب في المحافظات والقاهرة، وانطلقنا فى بداية شهر يوليو/تموز 2010، شباب فى 12 محافظة حملوا بيان التغيير في اليوم ذاته، وصعدوا به إلى العمارات، والتقوا بقاطنيها، ومروا على مقاهٍ وكازينوهات، وجمعوا لأول مرة توقيعات الناس على البيان وجهًا لوجه.

حركة

التقيته مساءً لنحتفل. عزمني على العشاء في ريش وكان سعيدًا وكأنه يوم عيد. كان متشوقًا لنزولنا معًا في الجولات القادمة، رائحة الاقتراب من الناس أسكنت النشوى في روحه. قال لي بحماس طاغي "بقولك إيه، ياللا نروح جولات على الشواطئ، وننزل كل كام يوم مدينة مع الشباب"، وقد كان.

سرنا معًا فى سفر دائم، جولات على البلاج في بورسعيد ورأس البر، وفي مدن بحري وقبلي، من المنصورة للمحلة لطنطا، للمنيا وسوهاج وأسيوط، وغيرها، نسرد قصة جديدة فى كل مدينة ننزل إليها.

البلد دي بتاعتنا وإحنا نستحق نعيش زي شعوب العالم

كانت البداية من مسقط رأسه مدينة بورسعيد، بدأنا من مسجد الشاطئ حيث يجتمع الشباب، وزعنا بيان التغيير على الجميع، وحملنا أعلامًا صغيرة مكتوب عليها شعار "معًا سنغير"، ثم اتجهنا للبلاج. وبمجرد ظهور جورج إسحق حتى احتضنه فوج من البورسعيدية، مررنا ما بين الشماسي والمصطافين نتحدث مع الناس ونجمع التوقيعات، بينما يمارس هو لعبته الأثيرة في مد جسور المحبة مع الناس.

جورج إسحق في حملة طرق الأبواب لجمع مليون توقيع من أجل التغيير السياسي، شاطئ بورسعيد، 4 يوليو 2010.

إحدى النساء ردت عليه "أيوة عايزين نغير، إحنا اتخنقنا"، وأخرجت بطاقة هويتها ووقعت باسمها. دقائق وتجلّت أمامنا قطع إنسانية ضخمة التفاصيل، فائرة الطول والعرض والوزن، صارخين "إحنا حزب وطني ودي أرضنا.. إمشوا من هنا". وقبل أن أبدأ التجرمة باندفاعيتي المعهودة، مستندًا لعدد الشباب الكبير معنا، وجدت جورج أمامي يجابه هذه الضلف البشرية، "الأرض دي بتاعتنا إحنا، والحزب بتاعك هو اللي يمشي.. حتى شط البحر عايزين تغتصبوه؟".

تجمع البعض حمايةً لجورج وانتهى الموقف بسلام. أحد هؤلاء المخلصاتية قادنا إلى مجموعة وامتد حوار مع جورج لنصف ساعة تقريبًا، قال لنا "أنا معاكم بس مش هوقع. الحكومة دي محدش يقدر عليها". تسلطن أبويا جورج وجلس إليهم تحت الشمسية قائلًا "البلد دي بتاعتنا، وإحنا نستحق نعيش زي شعوب العالم، دول اغتصبوا السلطة والانتخابات، ترضوا المخبرين يقبضوا على ولادكم بدون سبب عشان قانون الطوارئ؟ ضروري هننجح في إنقاذ البلد من اللي هي فيه لو وصلنا لمليون توقيع".

خطر

مع استمرار عمل الحملة وتوسع نطاقها الجغرافي زادت المضايقات الأمنية. اعتقل الأمن عددًا كبيرًا من شبابها حتى صار لدينا على الأقل معتقل جديد يوميًا. في أحد الأيام، قُبض على خمسة شباب دفعة واحدة، ووصلتني شخصيًا تهديدات عنيفة. أخبرته بما حدث تليفونيًا، فطلب مني التوجه إليه فى شقته بالقصر العيني. أخبرته أنني في طريقي إلى شقة الضاهر، واتفقنا أن أطمئنه برسالة كل ساعة.

جلسنا نستنطق الضحك. ليس لديه ما يطمئنني به، ولا يملك ما يدرأ به الأذى عني، أو عنه. ولكنه أراد مشاركتي تلك الليلة الكبيسة

وصلت الشقة واستقريت على أحد الكراسي بملابسي لم أبدلها بعد، وبعد ساعة تقريبًا كلمني جورج، وأخبرني أنه بمدخل العمارة وفي طريقه للصعود "أنا قلت أكلمك قبل ما اطلع عشان متتخضش لما أخبط". دخل إلى البيت مصطحبًا كيس به بعض المشروبات.

جلسنا متجاورين لبعض الوقت نقذف الحديث بيننا ونستنطق الضحك. ليس لديه ما يطمئنني به، ولا يملك ما يدرأ به الأذى عني، أو عنه. ولكنه فقط أراد مشاركتي تلك الليلة الكبيسة. مع مشقة السفر والمجهود الكبير الذي كنا نبذله ويبذله الشباب، والخطر المحدق بنا في كل تحرك، كان مجرد وجوده معطرًا لتلك الأجواء القاسية، فيا سعده وهناه الذي يرافق جورج إسحق.

ثقة

هاتفني الدكتور محمد غنيم، أطال الله فى عمره وبارك فيه، وهو الأسطورة الثانية، بعد جورج، التي جمعتني بها أقدار السياسة، وتوطدت علاقتنا الثلاثية لسنوات بسبب حملة طرق الأبواب، حتى صارت صداقة حقيقية مطرزة بسهر وانبساط وفرفشة، وتقاسم هموم حياتنا الخاصة، وتداول أطراح وأحزان الشأن العام.

هنكمل للآخر، ولو فيه تمن هندفعه، مفيش حاجة ببلاش يا نصّورة

المهم... قال لي الدكتور غنيم بصوته الرنان "ما تجيب أبوك جورج وتيجوا المنصورة نعمل طرق الأبواب هنا مع بعض"، وبالفعل تمت التجهيزات، وفي طريقنا إلى هناك قلت لجورج "أنا بفكر أوقف الحملة يا ريس، القبض على الناس زاد أوى"، فرد قائلًا "خايف؟"، قلتله "لا، بس أعصابى تلفت". قال لي بثقة لم تقنعني هذه المرة "تواصلنا مع الناس ده أعظم حاجة بتحصل، فهنكمل للآخر، ولو فيه تمن هندفعه، مفيش حاجة ببلاش يا نصّورة". برطمت بكلمتين بيني وبين نفسي وسكتت.

جورج إسحق وناصر عبد الحميد في حملة طرق الأبواب بالمنصورة، لجمع مليون توقيع من أجل التغيير السياسي، 8 أغسطس 2010.

استقبلنا الدكتور غنيم في مكتبه فى مركز الكُلى، ثم ذهبنا إلى مقر حزب التجمع حيث التقينا بالدكتور أشرف وجدي، أحد قيادات الجمعية الوطنية بالمنصورة، والشباب. وتوجهنا في عدد من السيارات إلى شارع محمد فتحي، وهو أحد المناطق الشعبية في المنصورة. وعلى مدار ساعتين أو أكثر طفنا أرجاء المنطقة، وجمعنا عددًا كبيرًا من التوقيعات، مغمورين بحب وترحاب وابتسامات من الأهالي رطبت صدورنا جميعًا. ومع كل تصرف ودود من الناس تجاهنا ينظر لي جورج نظرة: شايف؟ مش قلتلك؟ عاوز توقف ونخسر إحساسنا بكل المحبة الصافية دي؟".

في طريق العودة وهو فى سبيله للنوم قال لي "الناس معانا متقلقش".

"الناس معانا متقلقش"، حملة طرق الأبواب بالمنصورة، 7 أغسطس 2010.

حصار

قبل ذلك بعام، وتحديدًا فى 6 أبريل/نيسان 2009، كنا قررنا عقد مؤتمر بمقر حزب الجبهة الديمقراطية بالمحلة الكبرى لإحياء ذكرى إضراب عمال المحلة في 6 إبريل 2008، وذلك بحضور أهالي المعتقلين من أحداث العام الماضى للمطالبة بالإفراج عنهم، وبمشاركة الزملاء والرفاق أعضاء الحزب، وعلى رأسهم المهندس علاء البهلوان، أمين الحزب بالمحلة، وبحضور كل ممثلي القوى السياسية بالمحلة.

أول تغطية إعلامية لحملة طرق الأبواب، جريدة المصري اليوم، عدد 2225، 17 يوليو 2010

وفي الثانية ظهرًا، أي قبل انعقاد المؤتمر بخمس ساعات كاملة، حاصرت قوات كثيفة من الشرطة مقر الحزب، وجائتني مكالمة من قياداته تفيد بأن وزير الداخلية بنفسه قد حذر الحزب من أي تحرك بالشارع في أعقاب المؤتمر.

كلمت جورج وفصّلت له ما حدث، فحذرني من نزول الشارع. طمأنته، وكنت طمأنت الحزب من قبله، بأنه لا توجد أي نية لنزول الشارع، فجميعنا عاقلون ولا يُقدم على تلك الخطوة سوى مجنون. وحتى لو أراد، فلن يمكنه التنفيذ، فلا داعيَ للقلق إذن. ولكن اليوم اتشح بالقلق، وساد التوتر المكان، وكأن فيوزات كهربية عالية الفولت تصل ما بين أطرافه فى مثلثات ومربعات رعدية مزنجرة.

سألني مين جاي؟ أخبرته بأن الدكتور الجليل أسامة الغزالي حرب في طريقه، وكذلك سيفعل المناضل العظيم أحمد سيف الإسلام، رحمة الله عليه، فقال لي "هجيلك.. ضروري نبقى مع بعض النهاردا"، وما أن اخترق حصار قوات الأمن، ودخل مقر الحزب في المحلة حتى ابتسم قائلًا "سعيدة يا ناصر"، قلت له "سعيدة يا عم جورج".

لازمتنا تلك التحية الساخرة لسنوات تالية كأنها شفرة. ندخل إلى اجتماعات صاخبة وصعبة، سواء في الجمعية الوطنية للتغيير، أو لاحقًا بعدما شاركنا في تأسيس حزب الدستور، أو في جبهة الإنقاذ، أو في التجمعات التي حضرناها معًا بعد الثورة، نرددها ويبتسم أحدنا للآخر، ونجلس إلى جوار بعضنا بعضًا، نتبادل النميمة الطفولية. واقترن ذلك بالمواقف والجلسات المأساوية أو الكارثية أو الخطرة.

لازمتنا تلك التحية الساخرة لسنوات تالية كأنها شفرة، واقترنت بالمواقف المأساوية أو الخطرة

هكذا كان جورج إسحق، يلقي بنفسه في قلب لحظات الخطر والأوقات المقلقة، يعرض الدعم ولا ينتظر سؤاله، يُقدم على الفعل ولا يفكر فى تبعاته، ويفعل كل ذلك بسلاسة وبساطة وخفة، فيصيب قلبك أثرها ولا يثقلك وزنها.

صورة

سألت مجدي عبد الملاك، صاحب كافيه ريش، في إحدى مرات الود بعد الثورة "ليه معلق صور رواد ريش من الفنانين والأدباء بس مع إنك بتحكيلي كتير عن السياسيين اللي كانوا من رواده برضه؟" ، فرد عليَّ متثاقلًا بنظريته التي أحكمها في عقله "عشان الفنانين والأدباء مش محل خلاف، لكن عشان تبقى عارف بس أنا هكسر القاعدة دي مع واحد بس سياسي لو بعد الشر عليه يعني حصل له حاجة ".

توفي مجدي عبد الملاك قبل سنوات، ولن يتمكن من تنفيذ وعده، وتعليق صورة جورج إسحق على جدران ريش.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.