عرفته عن قرب في بداية تسعينيات القرن المنصرم، آنذاك نشطت الحوارات السياسية بين المثقفين والفاعلين في المجال العام حول مستقبل مصر، تحديدًا مع الصعود المتنامي للتيار الإسلامي. كانت الحوارات تأتي بمبادرات من أفراد أو كيانات طوعية من حركات أو مجموعات خارج السياق الرسمي للعمل السياسي، ومن ثم أخذت طابعًا نخبويًا معرفيًا، وابتعدت عن الانخراط المباشر في العمل السياسي.
كان جيل السبعينيات هو المحرك النشط لهذه الحوارات بمختلف توجهاتهم الفكرية والسياسية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، مرورًا بالقوميين والناصريين، والمنتمين للتيار الإسلامي. وبالطبع شمل الحوار الأجيال الأكبر من كل التيارات السياسية والفكرية.
كان يميل إلى الاهتمام بالقيمة الأخلاقية قبل المصلحة السياسية
بين كل هؤلاء الكبار، كان الأقرب إلينا نحن الأجيال الأصغر، الشباب آنذاك، هو جورج إسحق. فبالنسبة لنا، كان الأكثر جرأة، شجاعًا يعرض ما يعن له من آراء وأفكار بغير تكلف أو ادعاء. كان صريحًا واضحًا أميل إلى الاهتمام بالقيمة الأخلاقية قبل المصلحة السياسية، كما أنه كان بقدر اهتمامه بفهم التنظير السياسي، كان دائم الاهتمام بالحلول الواقعية، فكان بالنسبة لي "سياسيًا عمليًا" وهو في هذا مختلف عن الآخرين.
فيما بعد، بدا واضحًا لي أن جورج يجيد قيادة الشباب والتأثير فيهم، ويمكن أن نعزو ذلك لخبرته الممتدة كتربوي. لكنني أميل للاعتقاد بأن طبيعته الإنسانية النشطة والمحبة للحياة دفعته دفعا إلى الشباب، فقد ظل رافضًا لفكرة الشيخوخة والتقاعد حتى غاب، وقد بادله الشباب حبًا بحب.
لمست ذلك غير مرة في النشاطات المتعددة لشباب المدارس الكاثوليكية بحكم عمله كأمين عام لأمانتها. بل لمسته أكثر في فترة مسؤوليته عن حركة كفاية، وعاصرت معه أيامًا طويلة في الدفاع عن شباب كفاية، وشباب حركة 6 أبريل، التي أُعتقل هو نفسه بسببها.
الزعيم المسيحي
في مايو/أيار عام 2004، انتقلت علاقتي بجورج إلى مرحلة جديدة. اتصل بي تليفونيًا ليدعوني للانضمام للمجموعة المؤسسة لحركة كفاية، وذكر لي أن المجموعة الأولى استقرت على شعار "لا للتوريث ولا للتمديد"، فعلقت عليه، فما الذي نريده ومن المستفيد؟
كان رده حاسمًا "إحنا مش هنغير الكون، إحنا عايزين الناس تعرف أن من حقها هي اللي تختار قيادتها"، ثم اتبع ذلك مازحًا بلهجته البورسعيدية "إيه، فيه إيه، أنت خايف ولا إيه"، فأجبته صادقًا لقد تعلمت الجرأة في العمل السياسي منك، وكنت أشير إلى جرأته في الانضمام لحزب العمل الاشتراكي الإسلامي وكانت الحادثة مجال حوار طويل بيني وبينه، وانضممت للحركة.
كان قادرا على إقناع الجميع بالوصول إلى حلول، ونادرًا ما قرر أحد الاستقالة أو الانفصال
كانت حركة كفاية هي بوابة جورج للظهور في المشهد السياسي العام في مصر كنموذج للسياسي الوطني المخلص المنزه عن المصالح الشخصية، أو الفئوية، أو الطائفية، أو المادية، أو حتى الحزبية الضيقة. فقط المصلحة العامة من أجل الوطن. ولهذا السبب نجح جورج في اكتساب ثقة الناس واحترام الجميع، بمن فيهم الدولة ومسؤوليها. وكما قال لي أحدهم أن "جورج دخل التاريخ من باب كونه أول قبطي يتزعم حركة معارضة ينطوي تحتها كل المصريين من أجل المصلحة العامة".
جمعت حركة كفاية من أشرت إليهم في بداية المقال من المشاركين في الحوارات السياسية. وكنت أعتقد أن التفاعل بينهم سيكون جيدًا، لكن هيهات. قفزت المشاكل من اتجاهات عدة، وهنا برز لي جانب آخر من مواهب جورج؛ القدرة على القيادة في أجواء مضطربة. كان قادرًا على إقناع الجميع بالوصول إلى حلول، ونادرًا ما قرر أحد الاستقالة أو الانفصال.
وعندما اندلعت ثورة يناير 2011، كان جورج وكأنه جزء من عمارة المكان، لا يبارحه. وكنت أعجب من هذه القدرة على الحركة والنشاط، فأنت لا تراه إلا قائدًا لفاعلية في الميدان أو في حوار مع المسؤولين الرسميين، أو في نقاش مع أطراف آخرين في الميدان. يتحرك من التحرير إلى أطفيح إلى المنيا إلى ماسبيرو. من مكان إلى مكان ومن قضية إلى أخرى، يريد أن يهزم الزمان والمكان ليحقق حلمه، إنه جورج الذي لا يهدأ.
كان الهم الأساسي عند جورج عندما سيطر الإخوان المسلمون على البرلمان هو مشروع الدستور الجديد، وكان كفاحه هذه المرة ضد هيمنة الإخوان على الدستور. كان مثل جميع الوطنيين المخلصين يخشى من خطط الإخوان المسلمين للهيمنة واستبعاد الكل. لكنه كان يراهن في الوقت نفسه أن النجاح يكمن في عدم استبعاد أحد، وهو رهان على نظام محل احترام من الجميع. لكن عندما جاوز الإخوان الخطوط بالإعلان الدستوري وتغيير النائب العام تبين له أنه لا مناص إلا عبر الخلاص من هذا الكابوس.
كان ثمن الخلاص باهظًا، وعلى مدى الشهور والسنوات التالية أصبح الهم الأساسي له هو مساعدة المظلومين وضحايا القمع في كل مكان. فلم يتراجع عن الدفاع عن أي شخص لجأ إليه، أيًا كان موقفه. ولم يتوقف عن الحركة رغم كبر السن وتعثر الصحة، ظل يجاهد حتى آخر نفس، يحاول حتى آخر دقيقة أن يترك ميراثا من الجهد الصادق، يمكن للأجيال التالية أن تبني عليه.
نحن نغضب ونحتج ونحزن لغياب أحبائنا، لاسيما الوطنيين المخلصين مثل جورج إسحق.
لكن الدوام والبقاء لله..
الله يرحمك يا جورج.