في القصة الشهيرة "الملك العاري"، المتوارثة في خيال العديد من الشعوب، التي تدور حول ملك يحب الملابس الفاخرة، فيحتال عليه خياطان ويقنعانه بأن يصنعا له رداءً خفيًا لا يراه إلا الأذكياء من شعبه؛ يخرج الملك أمام رعيته، عريانًا، ولكن أحدًا لا يتجرأ أحد على وصف ما يراه خوفا من أن يُنعت بالغباء، حتى الملك نفسه صدق تلك الأكذوبة. لم يرَ الحقيقة سوى طفل صعد أعلى موكب الملك وصرخ "الملك عارٍ".
ربما لم ير أحد عري الملك، لأن جسده مقدس بشكل ما، فتداخلت تلك القداسة في المشهد ووضعت حجابًا على الرؤية. يكتسب الجسد قداسته من مكانة صاحبه، ويجب أن تكون مسافة بين جسد الملك والرعية، تسمح بنشوء الخديعة، والعديد من الصور المتخيلة.
السادات بالملابس الداخلية
هناك صورة فريدة للرئيس السادات بالملابس الداخلية، يحلق ذقنه في حمام بيته، التقطها المصور فاروق إبراهيم، ضمن صور أخرى تحكي يومًا في حياة الرئيس.
ربما هي المرة الأولى التي ندخل فيها مع رؤساء مصر إلى ذلك المكان الحميم ليكشفوا لنا عن عري آخر، بالتأكيد يختلف عن العري الرمزي لذلك الملك، أو عري الاستحمام في البحر، تبعًا لخصوصية المكان الذي التقطت فيه الصورة.
سمح السادات بنشرها مع أخريات، في جريدة أخبار اليوم في عهد إبراهيم سعدة. وقتها غضبت زوجته جيهان وباقي طاقم الرئاسة من نشرها، فما كان منه أنه قال لهم إنهم لايفهمون في الميديا العالمية الحديثة، كما ذكر فارق إبراهيم في حواره مع الصحفي زين العابدين خيري بجريدة الأهرام.
لم نتخيل أن يكون الرئيس عاريًا، لم يصحبه ذلك الطفل، من قبل، إلى الحمام ليكتشف عريه. ذلك الطفل الذي بداخلنا يتوقف عن التخيل لسبب بسيط أن براءته تجعله لا يعتمد على الخيال بل على ما يراه، وتلك وظيفته، داخلنا وخارجنا، قول الحقيقة مهما كانت نادرة.
صنع السادات صورته عن نفسه، فترة حكمه، وسط تلك الميديا الحديثة، باعتباره "نجمًا"، وليس "بطلًا" مثل عبد الناصر، يخترق تقاليد القداسة القديمة، ويكشف جانبًا حميمًا من حياته الشخصية. كان للسادات جانب في شخصيته يرتبط بنجومية الفنان المولع بالشهرة والتمسرح والأداءات الاستعراضية.
لا شك أن هناك الكثير من التفاصيل لم يذكرها فاروق إبراهيم في حواره عن ذلك اليوم، ليس خوفًا، ولكن ربما لأن ذلك القرب من جسد السادات صنع حجابًا على رؤيته له، مثل كل اللحظات الاستثنائية التي تمر على الخيال وتذوب في الزمن، ويصبح الخيال الخادع هو المرجع الوحيد لها.
العري والقداسة
في فيلم "الإمبراطور الأخير"، يحكي المخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي عن آخر إمبراطور للصين قبل تحولها إلى جمهورية بدخول الشيوعية. كان الإمبراطور هو ذلك "الطفل" الذي كسر بفطرته تلك القداسة الشكلية للمنصب، فقد توج إمبراطورًا وعمره حوالي سنتين ونصف السنة.
ربما ذلك "الإمبراطور" كان قريبًا في صدقه من الطفل الذي صاح "الملك عار". ربما الحقيقة توجد عند الأطفال، لأن رؤاهم تنبع من براءتهم، كونهم لا يملكون مرجعًا يقف وراء خيالهم، يولد صورًا خادعة عن أنفسهم وعن الآخرين. هم صفحة بيضاء، أي كان المكان الذي يشغلونه.
هناك عدة لقطات في الفيلم دمجت العري بالقداسة، في مشاهد تصور الإمبراطور الصغير المقدس وهو يخرج ثدي مرضعته، بعد أن يفك أزرار ملابسها، ثم يتحسسه بحب، قبل أن يلقمه في فمه، وفي الوقت نفسه تشعر بالمُرضعة وهي تستقبل تلك الأنامل، وذلك الفم، بحب مواز. ربما هذه العلاقة الغريزية ألغت المسافة المفروضة لنشوء صور القداسة المتخيلة.
ربما في الثقافة الآسيوية يلتحم العري مع القداسة بدون أي فكرة وسيطة مثل الذنب.
العري الأرستقراطي للملك فاروق
هناك صور متداولة للملك فاروق بلباس البحر، ويظهر فيها شعر صدره الكثيف، وكرشه المنتفخ. إحدى تلك الصور كانت قبل التنازل عن عرشه مع الملكة ناريمان وهما يقضيان شهر العسل في "كابري".
في الحالين، قبل وبعد التنازل، كان جسد الملك مترهلًا، لا تأثير للسلطة التي يحوزها في تكوين صورته التي يقدمها عن نفسه، لا تحجبه "البدلة الخفية" عن الحقيقة التي لا يسعى لتغييرها.
لم يحتج فاروق لمن يصيح فيه " الملك عار"، أو لمن يذكره بعريه غير اللائق بملك، فقد كانت كل نزوات ذلك الجسد مفضوحة على صفحات الجرائد. يذكر الرئيس محمد نجيب في مذكراته عن أول لقاء جمعه بالملك فاروق في عام 1938، أن الأخير التقى به آنذاك بالشبشب والمايوه.
هناك صورة حية للمك رواها لي أحد الصيادين في الإسكندرية، أنه رآه بأم عينيه بشعر صدره الكثيف، يسبح مع ابنة كوتاريللي صاحب مصنع الدخان، بجوار قصر رأس التين، بينما هو يقوم بالصيد بالقرب منهما.
كان عري فارق أرستقراطيًا، لا يحتاج لمن يثبته، فظهوره بلباس البحر كان جزءًا من الحرية الشخصية التي أتاحها لنفسه، بجانب أنه لا يحتاج لدليل خارجي ليثبت نبل منبته الملكي. لذا لم يكن يكترث بصورته عند الآخرين والمقربين له، خاصة من حاشيته أو من الوزراء.
ربما كان لا يحتاج ليصنع مسافة بين جسده والآخرين ليثبت بها صورته المقدسة. كانت "المسافة" حاضرة في طبيعة ممارساته المختلفة لحياته اليومية، حتى في عدم اهتمامه برشاقة جسده، فالمسافة كانت كامنة في صورته الملكية عن نفسه.
الوجه الفطري للقداسة
في فيلم "سبع سنوات في التبت" للمخرج الفرنسي جان جاك أنو، وهو عن قصة حقيقية، يلتقي فيه أحد متسلقي الجبال النمساويين، الذي يقوم بدوره الممثل الأمريكي براد بيت، بالدلاي لاما الزعيم الروحي المقدس لشعب التبت، ويقضي بينهم سبع سنوات تتوطد خلالها علاقته بذلك الزعيم.
كانت هناك مسافة فارغة خلقتها السلطة الروحية، بين جسد ذلك الزعيم الروحي الصغير، حوالي في العاشرة، وكل من حوله، ولكنه كان عادة يقفز فوق تلك المسافة.
عندما يطلب الدلاي لاما من براد بيت أن يلمس شعره الأشقر ويسأله هل يملك أيضًا شعرًا مماثلا في يديه ورجليه، ينبهر الدلاي لاما الطفل بذلك ويرى في الاختلاف معنى جديدًا، يجعله يشعر بأن هناك ثقافات أخرى يريد أن يعرفها، ويطلب من متسلق الجبال النمساوي أن يخبره عن تلك الحياة خارج ثقافته المغلقة.
ربما ما تمثله "الطفولة"، هنا، بجانب الصدق قي الرؤية، هو الرغبة في المعرفة، والانفتاح على الآخر بجانب براءة وعمق تلك المعرفة.
تتحول قداسة الدلاي لاما ليست إلى مسافة بينه والآخرين، أو إلى معنى يفوق الإنسان كالنجم أو البطل، ولكن تبقى من جوهر تلك القداسة براءة الطفولة، وهي الوجه الفطري للقداسة.
قداسة الدلاي لاما لا تحتاج، لكونه طفلًا، لنقيض كي تثبت، أو تُكسر، فالطفولة بذاتها تمثل الحجاب لذلك الجسد، أو الحلة الخفية له.
تنشأ صداقة عميقة بين الدلاي لاما ومتسلق الجبال، ويكون كل منهما دليلًا لحياة الآخر، وقبل أن يغادر براد بيت نشاهد لقطة يدعو فيها الدلاي لاما لصديقه قبل مغادرته، ليس بوصفه زعيما مقدسًا، بل صديقًا يضع رأسه ملاصقة لرأس صديقه بعد أن ألغيت المسافة، وانتفت القداسة من حول جسده، واستبدل بها الصداقة.
عري عبد الناصر المحصن بالبطولة
لم يدخل جسد عبد الناصر إلى تلك المناطق المحرمة في الصور المنشورة له. ظهر كجسد المشاغل اليومية والمناطق المتاحة للجميع. لم يلبس تلك البدلة الخفية إلا عبر دخوله إلى منطقة "البطولة" مباشرة، لتصبح هي الحلة.
لم يسمح عبد الناصر بوجود مسافة بينه والآخرين ليثبت وجوده الرمزي والمادي معًا. بالرغم من شخصيته الكاريزمية، فإن فكرة البطولة والهالة المقدسة التي صنعها من حوله، كان لها دور مزدوج: خلقت تلك المسافة مع الآخرين، وأيضًا أذابتها.
منحته صفة "البطل"، و"المخلص" أحيانًا، الفرصة للتماهي داخل أحضان وأذرع وخيال العمال والفلاحين وباقي فئات الشعب. ترى الأحضان الحقيقية المتبادلة بينهما في كل مناسبة. كانوا يرون الملك عاريًا، ولكن في سياق البطولة، فجزء من وظيفة ذلك الجسد المقدسة أن يتماهى في الآخرين، أو بمعنى أخر أن يتماهى الآخرون فيه، ليصبح الكل في واحد، أو نموذج "البطل"، كما وصفه توفيق الحكيم في "عودة الروح". حتى صوره التي تكشف عن عري ذلك الجسد، مثل ظهوره بلباس البحر، كانت محصنة بهالة البطولة، بكاريزميته الشخصية، وأيضًا برباط العائلة المقدس.
عري من دون قداسة
ربما يملأ النجوم فراغًا في مخيلتنا، أما المقدسون والأبطال الروحيون فيصنعون فراغًا داخلنا يجعلنا نراهم ولا نراهم، أما "النجم" فهو منا ولكن تدور من حوله الكثير من الخيالات التي يساهم هو في تثبيتها في مخيلتنا، ونصدقها في النهاية لأنه جزء منا، ومن طموحاتنا تجاه أنفسنا.
عندما رأيت في طفولتي عبد الحليم حافظ، الذي كانت صورته تشغل خيالي، كان أقصر وأضأل بكثير مما تصنعه مخيلة طفل. ربما سقف طموحاتنا أن نصبح نجومًا وليس مقدسين، لنسد ذلك الفراغ المرعب في المخيلة، ثم نحترق أيضًا مثل النجوم، عندما يخفت ثناؤنا على أنفسنا، أو ثناء الخارج علينا، فنشعر بالخواء.
ربما أجساد الزعماء الآن ليس لها تلك القداسة ولا النجومية. سلطة مستمدة بقوة الحضور في الميديا، وليس من السلطة اللا مرئية للخيال. لقد انكمشت وتقلصت في خيالنا أجساد الزعماء وعادت لحجمها الطبيعي، فالضغوط والفقر والإحساس بالضآلة الذاتية، التي انعكست على رؤيتنا للأشياء، كلها سدت منافذ الخيال، صرنا ندًا للزعيم، نراه بحجمه الطبيعي، ربما نراه عاريًا أيضًا حتى في غياب ذلك "الطفل البريء" الذي صرخ ذات يوم في حكاية خالدة "الملك عار".