عند تأسيس حزب التجمع الوطني التقدمي الوحدوي بقيادة الأستاذ خالد محيي الدين كنت من أوائل الذين ساهموا في التأسيس، جئتُ ومئات من زملائي من منظمة الشباب الاشتراكي، حيث كنت عضوًا في القيادة المركزية للمنظمة، ومسؤولًا عن مكتب الدراسات والبحوث، كان ذلك في السنوات بين نهاية 1971 و1976، وعند تكوين المنابر التي تحولت الى أحزاب؛ كنت من الجيل الأول من الأعضاء.
بعد انضمامي إلى منبر اليسار، الذي تحول بعد ذلك إلى حزب التجمع في نهاية عام 1976 أسستُ وزملائي اتحاد الشباب التقدمي، ربما بعد شهور قليلة من إنشاء المنبر. كان الاتحاد من القوة والفعالية ما يثير إعجاب، بل وحسد الكثيرين أيضًا، ومنهم تنظيمات محسوبة على اليسار، وهي تنظيمات تكونت وعملت في أشكال وأحزاب سرية غير علنية، وتحديدًا الحزب الشيوعي المصري والتيار الثوري وحزب العمال الشيوعي وحزب 8 يناير، وخضتُ وعدد من زملائي معاركًا سياسية وفكرية وحزبية عميقة حتى أحافظ على نقاء اتحاد الشباب التقدمي من أي محاولات للسيطرة عليه من تلك التنظيمات والحفاظ على صيغته "التجمعية" الأصيلة.
كان أخي وصديق العمر الأستاذ عبد الغفّار شكر، نائب رئيس المجلس القومي لحقوق الإنسان في مصر سابقًا، هو مقرر الاتحاد وكنت الأمين العام، لكن سرعان ما ترك الأستاذ عبد الغفار موقعه ليتفرغ للعمل التثقيفي في منبر اليسار، وبعد ذلك في حزب التجمع.
بعد تحول المنبر إلى حزب نهاية عام 1976، كان نشاط الاتحاد يشمل مصر كلها، وبدأنا في التحضير للاحتفال بذكرى ميلاد الرئيس جمال عبد الناصر، وكانت هديتنا لجماهير الحزب والشباب والشعب المصري في تلك المناسبة هي البدء في مشروع وطني لمحو الأمية، وعقد ندوة عن قضايا الوطن، وطبعنا آلاف البوسترات التي تحمل صورة عبد الناصر بريشة الفنان المبدع والأستاذ الكبير عبد الغني أبو العينين، تلك الصورة التي استخدمها الأستاذ محمد حسنين هيكل، غلافًا لكتابه لمصر لا لعبد الناصر الصادر عن مؤسسة الأهرام خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي.
وصل هذا البوستر بآلاف النسخ إلى مكاتب الحزب في المحافظات والمدن، لكن سرعان ما اندلعت مظاهرات الخبز في غالبية المدن والمحافظات.
يوم الاثنين الموافق 16 يناير/كانون الثاني 1977 نشرت الصحف "أخبارًا سعيدة" عن تخفيف الأعباء عن الجماهير بخفض أسعار عشرات السلع الضرورية. غير أن الهيئة البرلمانية لحزب مصر بقيادة ممدوح سالم رئيس الوزراء وقتها، اجتمعت في مساء اليوم نفسه لتصدر قائمة طويلة برفع الأسعار التي شملت كل شيء ضروري في حياة الناس، من الخبز وأسطوانات الغاز والجبن والحلاوة الطحينية وغيرها من السلع الأساسية.
أصيب الناس بصدمة وصلت إلى حالة عارمة من الغضب، الذي شمل كل مدينة وقرية في مصر، من الإسكندرية ومطروح وحتى أسوان.
اندلعت المظاهرات في اليوم التالي مباشرة، 17 يناير، ثم بصورة أعنف يومي الأربعاء والخميس، 18 و19 يناير. مصر كلها بدأت في الانتفاض والرفض.
لم يجد آلاف البشر غير مقر حزب التجمع مقصدًا وعونًا للاحتجاج ، ورغم أن الحزب أصدر يومها بيانًا يدعو فيه الجماهير لضبط النفس مع رفض قرارات الحكومة*، وصدر بتوقيع أعضاء الأمانة العامة للحزب وكنت عضوًا فيها بحكم موقعي الحزبي أمينًا للشباب، فإن الجماهير في حركتها تجاوزت دعوة الحزب بضبط النفس، ومع توجهها إلى مقر الحزب لم تجد سوى صورة عبد الناصر فخرجت بها إلى الميادين والشوارع ترفعها في معظم المدن.
آنذاك كنت أعمل باحثًا في إدارة الأنشطة التربوية بديوان عام وزارة التربية والتعليم في قلب القاهرة، وكنت أسكن في حدائق القبة، خرجت عند ساعات الصباح مُتوجهًا إلى عملي، ففوجئت بالتظاهرات تقطع كل طريق من حيث كنت أسكن وإلى حيث كنت أعمل.
بالقرب من ميدان رمسيس توقف مترو مصر الجديدة عن الحركة، فاتخذت قرارًا كنت مُصممًا على تنفيذه، هو الوصول إلى مقر عملي في الوزارة والتوقيع في دفتر الحضور والانصراف. كنت أدرك أنني سيتم القبض علي خلال أيام، وحتى قبل أن تتوقف المظاهرات.
لم أكن منتميًا لأي من الأحزاب الشيوعية، رغم صداقتي لعدد كبير من أعضائها، كان الجميع يعرف انتمائي الناصري. كانت توقعاتي بالقبض عليّ سببها نشاط عارم لم يتوقف منذ بدأ الحزب، حزب التجمع، واتحاد الشباب التقدمي في التكوين والتأسيس الذي شمل كل مصر. كانت سنوات عملي في منظمة الشباب مكنتني من زيارة أغلب قرى ومراكز مصر وليس مدنها الرئيسية فقط، لهذا السبب كان الاعتقال أمرًا مُحتمًا ومتوقعًا، ولذلك حرصت على التواجد والحضور طوال أيام التظاهر في عملي حتى يّثبُت فيما بعد أنني لم أكن مُشاركًا في المظاهرات.
مشاهد من انتفاضة الخبز في يناير 1977
من أين جاء الغضب؟
كان توقعي في موضعه الصحيح، فعندما تم التحضير لعريضة الاتهام في قضية يناير كان نصيبي من الاتهام هي عضويتي في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، وهو أمر غير صحيح بالمرة، ولذلك تم إدراجي ضمن "قضية التنظيمات" التي ضمت المئات من خيرة شباب الوطن وعدد غير قليل من الصحفيين والكتاب والمفكرين، وقادة الفكر والسياسيين وأعضاء من حزب التجمع، فضلًا عن العشرات من أعضاء الحزب الشيوعي المصري السري وباقي التنظيمات الشيوعية الأُخرى، أما عريضة الاتهام الأُخرى فقد أخذت عنوانًا ذا دلالة هو قضية "الشغب".
في ضوء هذه الأفكار والتوقعات، حرصت على التوجه إلى عملي رغم مخاطر السير في شوارع وميادين لا يُسمع فيها سوى طلقات الرصاص وقنابل الغاز المُسيلة للدموع بكثافة وضراوة وعنف خطير، لم تشهده شوارع القاهرة منذ احتراقها في 26 يناير 1952.
اخترقتُ ميدان رمسيس ثم شارع الجلاء والإسعاف حتى ميدان التحرير وشارع قصر العيني، فوجدت التظاهرات في كل مكان.
القنابل والمواجهات العنيفة بين الجماهير الغاضبة والشرطة تّعُم المدينة، كانت تظاهرات غاضبة وشاملة وحالة من الرفض الشعبي هائلة، كانت القاهرة في حالة من الغضب والرعب، حتى إنني انفجرت في البكاء خوفًا على مدينتي التي أعشقها وأعرف كل شوارعها وأحيائها.
وصلت إلى عملي وحرصت أن أسجل اسمي بخط واضح في دفتر الحضور والانصراف رغم أن الكثير من الزملاء لم يستطع الحضور في ذلك اليوم العصيب، كانت الغالبية العظمى والساحقة منهم لا يعرفون للعمل السياسي أو الحزبي طريقًا، وأقصى ما يبذلونه من جهد هو شراء جريدة يومية والاكتفاء بقراءة العناوين.
في اليوم التالي، الأربعاء 18 يناير حرصت كذلك على التوجه إلى عملي، وبأكثر من وسيلة مواصلات وبعض السيارات الخاصة القليلة التي كانت تُغامر بالسير في شوارع القاهرة، وصلت إلى ميدان رمسيس الذي كانت تحتله دبابات الجيش، فقد أُعلنت الأحكام العرفية، وطُبّق قانون الطوارئ، وفرض حظر التجول كان ذلك في صباح يوم الأربعاء الموافق 18 يناير.
ورغم ذلك لم تنقطع المظاهرات الغاضبة فاستمرت بعنف أيضًا، غير أن جنود القوات المسلحة لم يتعرض أيًا منهم لغضب الجماهير، كان الغضب كله موجهًا إلى قوات الأمن من الشرطة. كان وزير الداخلية وقتها هو السيد فهمي أحد مساعدي ممدوح سالم عندما كان الأخير وزيرًا للداخلية في الحكومة السابقة، كان الرجل يُحارب معركة غير مُقتنع بها، فقد تردد بقوة، وبوصفه رئيس مباحث أمن الدولة قبل أن يعتلي منصبه، أنه عارض قرارات الحزب الحاكم، حزب مصر، برفع الأسعار، مُحذرًا من مخاطرها على الأمن العام، هذه المعلومة نقلها لي الدكتور إسماعيل صبري عبد الله، ولم أجد لها مصدرًا مباشرًا في مذكرات قيادات هذه الفترة. أطيح بالرجل من منصبه قبل أن تستقر الأوضاع الأمنية، وحمّله الرئيس السادات المسؤولية الأمنية للأحداث، مُتهمًا إياه بالتراخي في حسم الأمر في بداية اندلاع التظاهرات.
كان الدكتور جمال العطيفي وزير الإعلام هو الرجل الثاني الذي دفع ثمن مهنيته وصدقه في عمله. وقع الرجل في وهم أن هناك ديمقراطية حقيقية في مصر، لدرجة أنه أشرف على ندوة تلفزيونية في الأول من يناير عام 1977، ضمت قيادات من الحزب الحاكم، منهم عديل الرئيس السادات البرلماني محمود أبو وافية، وبعض وزراء المجموعة الاقتصادية، في مواجهة مجموعة من أبرز قيادات التجمع مثل الدكتور إسماعيل صبري عبد الله وزير التخطيط الأسبق، والدكتور فؤاد مرسي وزير التموين الأسبق، والأستاذ لطفي الخولي رئيس تحرير مجلة الطليعة اليسارية، التي كانت تصدر عن مؤسسة الأهرام.
كان المنطق والصدق والقدرة على التعبير من نصيب ممثلي التجمع، فيما كان غياب الرؤية والارتباك في التعبير والحديث عن توجهات الحكومة من نصيب ممثلي الحزب الحاكم، وفي صباح اليوم التالي كان على لسان الناس في الشوارع أسماء لطفي الخولي وفؤاد مرسي وإسماعيل صبري كأنهم نجوم سينما أو لاعبو كرة.
كان الدكتور جمال العطيفي القانوني الكبير والليبرالي الأصيل، هو الضحية الثانية التي تم ذبحها على مذبح سياسة خاطئة ومعادية للشعب، تم طرده من الوزارة مع إشارات بالإهانة والغضب من الرئيس السادات دون ذكر اسم واحد من أكفأ رجال حكومته وأكثرهم صدقًا ومهنية.
مشاهد من المظاهرات في شوارع القاهرة
اليوم الثالث للانتفاضة
في اليوم الثالث وفي رحلتي إلى عملي، شاهدتُ مشاهد اليوم السابق نفسها، وبعد انتهاء يوم العمل توجهت أنا وصديقي وزميلي في اتحاد الشباب الدكتور عبد الحميد عطية عالم الكيمياء الكبير، رحمه الله، الذي كان يعمل بالمركز القومي للبحوث في الدقي إلى شرق القاهرة حيث كان يقيم في مصر الجديدة وأنا في حدائق القبة، كانت رحلة العودة إلى منازلنا، مثل كل الناس، سيرًا على الأقدام.
دعوة الحزب لضبط النفس أنقذته من الحل، فأرسل الدكتور رفعت السعيد، الأمين العام المساعد آنذاك، بيان الأمانة العامة عن طريق ما يُعرَّف بـ "المبرقة" وهو جهاز الاتصال الوحيد بالمحافظات ويوجد في مكتب الأمين العام للاتحاد الاشتراكي فقط، وكان الدكتور مصطفى خليل لا يزال يمارس دوره أمينًا عامًا للاتحاد الاشتراكي، وبدأت شهادته الشجاعة فيما بعد، وعند بدء تحقيقات النيابة مُنصفة لحزب التجمع.
من الوقائع الطريفة والمُحزنة في الوقت نفسه، وبعد أن تبين الحجم الهائل للغضب الشعبي، ومحاولة البعض من الوزراء وعدد من أعضاء مجلس الشعب، التنصل من مسؤولياته للمشاركة في هذه القرارات، أن تم تسريب أخبار تنفي اجتماع الهيئة البرلمانية للحزب الحاكم، حزب مصر، وأنها لم تجتمع بكامل هيئتها لاتخاذ قرار جماعي بالزيادات المؤلمة في الأسعار بعد حملة مكثفة من الدعاية المُبشرة بانفراجة معيشية كما أعلنت الصحف.
والحقيقة التي أعُلنت بعد ذلك، وقبل أن يخمد لهيب الغضب الشعبي، أن المجموعة الاقتصادية برئاسة الدكتور عبد المنعم القيسوني، وهو اقتصادي مهني كبير ذو اتجاهات يمينية، سبق أن عمل مع الرئيس عبد الناصر، اتخذت هذه القرارات إثر اجتماعها مع وفد صندوق النقد الدولي، وتم إرسالها إلى رئيس الوزراء ممدوح سالم لتصدر باسم مجلس الوزراء كما يقضي العرف، مع إبلاغ الرئيس السادات بها، وفي خطوطها العامة دون إزعاجه بالتفاصيل.
حاولت الحكومة في شخص رئيس الوزراء ممدوح سالم أن توضح للدكتور القيسوني الأثر الخطير لقرارات بهذا الشكل على حياة الغالبية العظمى من المواطنين، خاصة أنها بدت مٌستهدفة الفقراء والمّس بحياتهم، غير أن القيسوني أبلغه بأن تلك هي شروط صندوق النقد الدولي، ولا يمكن رفضها، أي أنه لا سبيل سوى القبول بها، فضلًا عن إبلاغه بأنه ناقشها مع الرئيس تليفونيًا، بسبب وجوده في أسوان.
كانت هناك رؤيتان، رؤية ممدوح سالم، رجل الأمن الخبير بأحوال الشارع والناس، وبحكم مروره بتجربة مريرة مُماثلة عندما كان وزيرًا للداخلية في حكومة الدكتور عبد العزيز حجازي في عام 1975، وكانت سببًا في الإطاحة بحكومته، وهتاف الجماهير في صباح الأول من يناير عام 1975 "حكم النازي ولا حجازي". وتلك الرؤية التي كان يجسدها الدكتور القيسوني ومجموعته الاقتصادية التي كانت تعمل بعيدًا عن الحكومة وتأخذ قرارتها بصورة مُستقلة تمامًا عنها.
لم يكن هذا المسلك الغريب مُفاجئًا لممدوح سالم، فالقيسوني اشترط على السادات عند تشكيل الحكومة، أن يعمل هو ومجموعته الاقتصادية بصورة مُستقلة تمامًا عن ممدوح سالم وباقي وزراء الحكومة. وللأسف كانت رؤية رجل الأمن التحذيرية هي الصائبة، التي لم يعيرها الرئيس أدنى اهتمام، وسادت مدرسة القيسوني اليمينية.
في يوم الخميس الموافق 19 يناير، وبعد إنتهاء العمل ذهبت إلى مقر التجمع، وكان وقتها في الدور التاسع من مبنى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي على كورنيش النيل، ذلك المبنى الذي احترق خلال أحداث ثورة 25 يناير بعد تحوله إلى مقر للحزب الوطني الديمقراطي الحاكم والمهيمن على الحياة السياسية خلال عصر مبارك.
هجوم الرئيس محمد أنور السادات على حزب التجمع
.. واجتمع الحزب
اجتمعت قيادة الحزب، وأصدرنا بيانًا جديدًا يدعو إلى التراجع السريع عن هذه القرارات لحكومة الرئيس السادات، الذي كان وقتها في استراحة سد أسوان يستعد لاستقبال الرئيس اليوغسلافي جوزيف بروز تيتو.
كان اجتماع الأمانة العامة للتجمع حيويًا وشاملًا، كانت هناك بعض المزايدات الصادرة من عدد محدود من الأعضاء الذين بالغوا في لعن الحكومة، كان منهم بعض القيادات العمالية الذين تبين بعد ذلك أن واحدًا أو اثنين منهم كانا من أصحاب قنوات الاتصال السرية مع أجهزة الأمن.
وبدت قيادة خالد محيي الدين واعية وذكية ومُدركة لمخاطر هذا التطرّف الزائف، فكان كابحًا لهذه الاتجاهات ذات المصالح الأمنية، كانت المعلومات عنهم تحت يد الأستاذ خالد ومساعده الدكتور رفعت السعيد الذي كان يشغل موقع الأمين العام المساعد، والمسؤول المُعتمد، بغير إعلان، عن ترتيب العلاقة مع أجهزة الدولة، وخصوصًا الأمنية منها.
غير أنني لا أنسى ذلك المشهد المُثير والخاطف الذي كان بطله المحامي الكبير زكي مراد، أحد أبرز القيادات الماركسية المصرية في تاريخها الحديث، كان الرجل آنذاك هو مؤسس الحزب الشيوعي المصري في مرحلته الجديدة، مع صديقه الأستاذ أحمد نبيل الهلالي وآخرين، إذ بدأوا تكوين الحزب في عام 1975، وصدر إعلان بذلك في بيروت، وكان الأستاذ زكي مراد السكرتير العام للحزب.
في ذلك الاجتماع الذي ضمّ أعضاء الأمانة العامة وبعض قيادات مكتب العمال، كان أحدهم قيادي نقابي عن منطقة شبرا الخيمة والذي أشرت إليه سابقًا بصلاته الأمنية، اقتحمّ الأستاذ زكي الاجتماع بغير استئذان ودون سابق إنذار، وهو غير المسموح له بالمشاركة في هذا الاجتماع أو غيره، لكنه جاء مُعلنًا أن الحكومة بدأت في تطبيق حالة الطوارئ وفرض الأحكام العرفية، داعيًا أعضاء الأمانة العامة إلى الإسراع بإنهاء الاجتماع والعودة إلى المنازل، تفاديًا لأية مشكلات أو اعتقالات عشوائية.
كانت دعوة الأستاذ زكي دافعها الحرص على زملائه في الحركة الوطنية، ولمعرفته اليقينية أننا وبسبب الاجتماع الذي استمر عدة ساعات لم نكن نعرف آخر التطورات والقرارات السياسية التي اتخذتها الحكومة والحزب الحاكم، لكن رد فعل الأستاذ خالد جاء مباشرًا وعنيفًا ومُفاجئًا، فقد وجه نقدًا عنيفًا لسكرتارية الاجتماع والزملاء المسؤولين عن تأمينه، فكيف سُمح للأستاذ زكي مراد بدخول الاجتماع، وهو ليس عضوًا في الحزب. كان غاضبًا بحق، غير أنني لاحظت أن الكثير من غضبه فيه قدر من الحنكة والذكاء والحرفية.
كنت جالسًا أمامه ولمعرفتي الوثيقة به، قرأت في ملامحه أنه يريد تمرير رسالة إلى الأجهزة الأمنية عبر "عيونها في الاجتماع" ومنها إلى الرئيس السادات، وهي أن حزب التجمع شيء، والحزب الشيوعي المصري الذي يقوده الأستاذ زكي شيء آخر.
معرفة الرئيس السادات بالأستاذ زكي مراد، تعود إلى الأيام التي كان فيها رئيسًا لمجلس الأمة، عندما فوضه الرئيس عبدالناصر بإجراء مفاوضات مع قيادات الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني، حدتو، من أجل حل الحزب الشيوعي المصري، والالتحاق بالاتحاد الاشتراكي. كان الأساتذة زكي ومحمود أمين العالم وكمال عبد الحليم وعدد قليل من قيادات الحزب في هذه المفاوضات التي جرت فور الإفراج عن الشيوعيين المصريين في ربيع عام 1964، والتي انتهت بحل الحزب.
رسالة إلى الأمن مع زميل
لم نستجب لدعوة الأستاذ زكي بفض الاجتماع والعودة إلى منازلنا، فالأستاذ خالد أصر على استكمال الاجتماع إلى النهاية، وكانت رسالة في حد ذاتها، أننا لسنا الواجهة العلنية للحزب الشيوعي المصري، غير أنه طلب من أعضاء الأمانة عدم العودة إلى منازلهم بطريقة فردية، إذ تم تقسيم الأعضاء إلى مجموعات صغيرة يصطحب كل مجموعة منهم واحدًا من أعضاء الأمانة العامة ممن يملكون سيارة.
كنت في صحبة الأستاذ لطفي الخولي والدكتور فؤاد مرسي، وأخي وصديق العمر الأستاذ محمد سيد أحمد المفكر اليساري الكبير، فالدكتور فؤاد لم يكن يملك سيارة وكذلك الأستاذ لطفي، فيما كان الأستاذ محمد، هو صاحب الفضل في تلك المهمة الجليلة بوصفه صاحب السيارة.
في مساء يوم الخميس الموافق 19 يناير عرفنا أن هناك حملة شاملة من الاعتقالات يتم الإعداد لها وأنها ستبدأ خلال أربع وعشرين ساعة. لم يتصور الرئيس السادات أن يخرج الشعب عليه بعد ما تحقق في انتصار أكتوبر، فبدا له الأمر جحودًا وتمردًا ونكرانًا للجميل، غير أنه خلط بين ما تحقق من انتصار حققه البسطاء من أبناء الشعب، ودوره كرئيس وقائد ومسؤول، وليس صاحب النصر وحده.
من هنا كانت تلك التظاهرات في جانب كبير منها تعبيرًا عن الغضب مما أسفرت عنه مرحلة ما بعد الحرب. فقبل تظاهرات يناير كتب الأستاذ لطفي الخولي مقالًا افتتاحيًا في مجلة الطليعة اليسارية كان عنوانه لافتًا وهو العابرون مع العبور وفيه يقول إن الفقراء دفعوا من دمائهم ثمن الانتصار دون أن يحصلوا على شيء بينما أصحاب المصالح هم الرابحون من حرب لم يدخلوها.
قبلها وصف الأستاذ أحمد بهاء الدين سياسة الانفتاح التي تبناها الرئيس السادات وفق قانون 43 لعام 1974 بـ "الانفتاح السداح مداح" ما أغضب الرئيس، وسرعان ما بدأت حملة من الأقلام الصحفية المحيطة به بالهجوم على الأستاذ بهاء الدين، لكن سرعان ما أطلق واحد من رجال النظام، وهو الدكتور رفعت المحجوب أستاذ الاقتصاد المرموق وأحد أعمدة النظام تعبير "القطط السمان" على مَن جاؤوا في ركاب وفوضى وعشوائية الانفتاح.
غير أن الأمر الأخطر في تظاهرات يناير 77 أنها كانت نتاجًا لسياسة خاطئة وخطيرة بدأت بعد أن سكتت المدافع، فلم تحمل أي بُعد اجتماعي حقيقي يُحافظ على مصالح الناس، وبدا الحديث عن موقف القوات المسلحة والمؤسسة العسكرية المصرية موضعًا للتساؤل: ما هو موقفها من تلك التظاهرات؟
كان السؤال على كل لسان.
في يوم الخميس التاسع عشر من يناير وصلتنا معلومة في الحزب أن وزير الحربية الفريق محمد عبد الغني الجمسي اشترط تراجع الحكومة عن قراراتها حتى يسمح بنزول الجيش إلى الشارع**، وعرفنا من الدكتور إسماعيل صبري عبد الله خلال اجتماع الأمانة العامة لحزب التجمع أن الفريق أحمد بدوي، قائد الجيش الثالث وقتها، رفض أوامر الرئيس السادات بإطلاق النار على جماهير السويس الغاضبة، وكان سبق أن رفض هذا الطلب من نائب الرئيس الذي كان وقتها حسني مبارك قائلًا للرئيس السادات "لن أطلق النار على شعب السويس الذي حمى ظهر الجيش المصري وقت الحصار خلال حرب أكتوبر"، فأغلق السادات التليفون في وجهه.
وجاء ظهر العشرين من يناير
ظهر يوم الخميس كانت الحكومة أصدرت على لسان الدكتور عبد المنعم القيسوني رئيس المجموعة الاقتصادية تراجعًا شاملًا عن قراراتها التي عرفنا أنها كانت اتخذتها تحت ضغط صندوق النقد الدولي. ثم جاء يوم الجمعة الموافق العشرين من يناير، فاعتلى شيخ الأزهر عبد الحليم محمود منبر الجامع الأزهر ليصب في خطبته جام غضبه على الشعب ومحرضي الفتنة من الشيوعيين والناصريين، ولم ينبس ببنت شفة في توجيه أي نقد للحكومة. وفي المساء عاد الرئيس من الإسماعيلية التي وصل إليها من أسوان، مُنتظرًا تأكيدات حكومته باستقرار الأوضاع في القاهرة، وإمكانية عودته إلى عاصمة الحكم.
تحدث الرئيس في ذلك اليوم ووصف ماحدث بأنها "انتفاضة الحرامية" في الوقت الذي وصفت صحافة العالم ما حدث بأنها انتفاضة الخبز.
في الساعات الأولى من صباح يوم السبت الموافق 21 يناير، ذهبت سيارة بها ضباط من مباحث أمن الدولة وسيارة نقل عسكرية مُحملة بالجنود إلى منزلنا في مدينة الزقازيق بغرض القبض عليّ. لم أكن مُّقِيمًا في مدينتي ولا في منزلنا هناك، كنت مُّقِيما في القاهرة منذ سنوات.
وتحت تهديدات صريحة واستفزازية بالقبض على والدي وشقيقي الكبير، أفصّحت أمي، رحمها الله ورحمهم جميعًا، عن عنوان سكني في القاهرة.
وجاءني زوار الفجر؛ اقتحموا شقة شقيقتي التي كنت أقيم عندها، ودخلها عشرات من المخبرين وأمناء الشرطة والضباط، وضابط مباحث تعامل بكل احترام معي ومع أهل البيت، وعرفت فيما بعد أنه كان مُنتدبًا من مباحث الرقابة على الكتب.
أخذتني سيارة تحيط بها عربة من جنود الأمن المركزي إلى قسم الحدائق، ومن ثم إلى عنبر التأديب بسجن طرة العتيد، ولم أسمع في عتمة السجن سوى صوت شاعر الشعب أحمد فؤاد نجم الذي رحّب بوصولي. وعرف بخبرته أنني نزيل الزنزانة رقم 7 الشهيرة، التي نزل فيها منذ نحو مائة عام أحمد عرابي باشا، قائد الثورة العُرابية، بلدياتي، فكانت تلك المعلومة المُذهلة، بعد عون الله، زادًا معنويًا هائلًا لمواجهة تداعيات الحياة الصعبة لحبس انفرادي، استمر لنحو خمسة وأربعين يومًا في زنزانة كئيبة، لتبدأ بعدها قصة أخرى في السجن.
* كتاب 18 و19 يناير لحسين عبد الرازق- طبعة بيروت
** من كتاب محمد حسنين هيكل خريف الغضب، ص188 "اتصل ممدوح سالم بالفريق الجمسي وطلب منه نزول الجيش، ولكن الجمسي بدا رافضًا لاشتراك الجيش في قمع المظاهرات. كما ذكر الجمسي رئيس الوزراء أنه أخذ وعدًا من الرئيس بألا يستعمل الجيش على الإطلاق ضد جماهير الشعب مهما كانت الظروف".