استيقظ الناس في الثامن عشر من يناير/ كانون الثاني عام 1977 على قرارات أصدرتها الحكومة، برفع أسعار السلع الأساسية وعلى رأسها الخبز. جاءت القرارات مفاجئة ومثلها جاء الرد الذي استمر ليومين متتاليين؛ خرج فيهما العمال وطلاب الجامعات إلى الشوارع احتجاجًا وانضم لهم الناس العاديون. وقعت مصادمات عنيفة مع قوات الأمن؛ فألقيت القنابل المسيلة للدموع وأطلق الرصاص المطاط على المتظاهرين كما اعتقل بعضُهم، ثم فُرِض حظر التجوال، وأخيرًا عدلت الحكومة عن قراراتها وأعادت الأسعار لسابق عهدها.
في الثالث من أغسطس/ آب من العام الجاري أعلن الرئيس المصري عزمه رفع سعر الخبز، مُستبقًا مرحلة التطبيق الفعليّ بتمهيد لفظيّ صارم لا لبس فيه، آخذًا على عاتقِه مواجهة العواقب. لم يصح الناس على مفاجأة رفع ثمن الرغيف مثلما جرى من قبل؛ لكنهم جوبهوا بموقف فيه تحدٍ سلطويّ سافر، له ولا شك طبيعة خاصة إذ هدَّد مُقومًا أساسيًا من مُقومات الحياة، ومسَّ احتياجًا أوليًا لا غنى عنه، فكيف بأرغفة الخبز الهزيلة التي تمثل حدًا أدنى للبقاءِ عند الطبقات الفقيرة والمعدمة أن تصبح مَوضعَ تهديد؟ وإذا لم تكن من بدائل حاضرة لسد الرمق؛ فكيف بالجوع بديلًا؟ ما الرد الذي قد يحفزه هذا التحدي، وفي أي قالب يمكن التعامل معه؟
معنى التحدي
إذا طرقنا معاجم اللغة العربية، وجدنا "التحدي" صورة من صور النزال والمواجهة قوامها طرفان. ويقال واجه خصمه بالتحدي أي دعاه إلى حلبة التباري حيث ينتزع الطرفُ الفائز مكاسبَ انتصاره، بينما يرضخ الخاسر لشروط الخسارة. بعضُ التحديات تافه لا يستحق الاهتمام، لكن هناك دومًا التحدي الجاد الأصيل الذي يشحذ العزائم ويصقلها، وفي هذا تشير نظرية التحدي والاستجابة إلى أنّ الحضارة تنشأ بفعل تحديات كبرى تهدد الوجود، وتدفع الناس لبذل الجهد والعمل بأقصى طاقة بما يراكم أسباب التقدم والارتقاء.
إذن مَن يتحدى مَن؟
يقع التحدي في إطار منازعة ما، فإذا كانت موازين القوى غير متكافئة؛ كأن تبدى الطرفان في سلطة راسخة البأس متمكنة، وأمة يقع ثلث مواطنيها تحت خط الفقر، وإذا اختارت السلطة أن تتحدى إرادة الأمة وأن تتجاهل حاجة مواطنيها ومعاناتهم؛ نصبح أمام موقف خطابي فريد من نوعه، فالسلطة التي تزدان عادة بلباس الشرعية، والتي يفترض بها تمثيل عامة الناس والدفاع عن مصالحهم، تتخلى هنا عن دورها وتشرع في العمل ضد الجماهير ومن ثم، تنتقل بوعي كامل من خانة الحليف إلى خانة الخصم.
يندر أن يعثر الباحث تاريخيًا على خطاب تحدٍ مُباشر، أنتجته جماعة الحكم في إطار علاقتها التقليدية بالسواد الأعظم من المواطنين، وربما كانت المقولة الشهيرة المنسوبة لمحمد محمود باشا "سأحكم البلاد بقبضة من حديد، ثلاث سنوات قابلة للتجديد" فريدة من نوعها في هذا المضمار، بيد أن ثمة سياقات لاحقة على حقبة الملكية والاستعمار، أُنتِجَت فيها خطاباتٌ ملأى بالتحدي، مُشتمِلةً على مواجهات لفظية فظة بل وعنيفة، منها ما توجه إلى دول الغرب والولايات المتحدة كالخطب الشهيرة التي ألقاها الرئيس جمال عبد الناصر إبان المد القومي، ومنها ما توجه إلى جماعات معارضة وقادة دول عربية مجاورة كزمرة من خطب الرئيس السادات.
عبد الناصر لـBBC: انتو ولاد ستين كلب
على هذا؛ اقتصر التحدي الخطابي في العهد الحديث على علاقات السلطة الخارجية وحواراتها الضيقة مع جماعات المعارضين، دون أن يشكل عنصرًا رئيسًا من عناصر الخطاب الرسمي الموجه إلى عامة الشعب، فجماعة الحكم "الوطنية" سعت بطبيعة الحال إلى مهادنة الكتلة العظمى التي تضمن بقاءها واستقرارها، واستباب أمنها وقوتها أما إذا اقتضت الحاجة فبلاغة أقل مصادمة وأكثر ليونة واستيعابًا. واعتاد المتلقي استقبال بالونات اختبار على هيئة شائعات يمكن نفيها وأخبار لا بأس من تعديلها، وتصريحات يمكن التملص منها تطلقها السلطة قبل أن تتخذ قرارات ذات تبعات اقتصادية مؤثرة.
قرارات كرفع أسعار الوقود وأسعار تذاكر القطارات والمواصلات العامة وغيرها من قرارت؛ تعرض معظمها إلى التسريب وجس النبض لفترات قصرت أو طالت، وبعد خمود الغضب وتلاشيه صدرت القرارات وطُبقت لتمر آثارها على السلطة الحاكمة بردًا وسلامًا.
قد تصبح عملية التلقي خشنة إذا غابت بالونات الاختبار، ولا ريب أن انتفاضة الخبز التي دعاها الرئيس السادات في خطبته بـ "انتفاضة الحرامية" أدل مثال. فالمفاجأة أدت إلى احتجاج عنيف، وأدى الاحتجاج بدوره إلى اهتزاز مقعد الحكم، ولجوء السلطة لعملية وصم وتحقير استهدفت إبعاد المسؤولية السياسية عنها وإلقائها على المتلقيين.
السيسي يتحدى بالقصر والرغيف
"أنا عامل قصور رئاسية، وهاعمل. هو انتوا فاكرين لما تتكلموا بالباطل ها تخوفوني وللا ايه؟ لا أنا أعمل وأعمل وأعمل، بس مش باعمله ليا.. دا باسم مصر".
في منتصف شهر سبتمبر/ أيلول من عام 2019، دارت تعليقات غاضبة حول بناء عدد من القصور الرئاسية التي مثلت استنزافًا لموارد الدولة رغم تنامي الأزمات التي ولدها تحرير سعر الصرف وتصاعد معدلات الفقر. مثلت القصور الجديدة بما عكس جوهرها من رفاهة وبما حملت من علامات بذخ وثراء؛ مبعث انتقاد عنيف يستوجب الرد والتبرير.
جاء الرد المُرتقب صادمًا، لا يتوخى حذرًا ولا حيطة، إنما يحمل وفرة من علامات التحدي، وقد تجلّى مُستخفًا مُستهينًا بخطاب المُنتقدين، ومُصرًا على مواصلة النهج ذاته أي إقامة مزيد من القصور.
السيسي: آه عملت وهاعمل قصور رئاسية
تمثلت الحجة التي قام عليها التحدي في تصوير بناء القصور وكأنه عملٌ وطنيٌّ عظيم لا يجوز التشكيك في أهميته، ولا مَفر مِن القول بأن هذه المُغالطة الحجاجية تنتمي إلى عالم العبث واللا معقول؛ فمِصر التي تُنسَب إليها حاجة ماسة ومُلحة لتشييد القصور المنيفة، إنما تفتقر إلى ما هو أكثر ضرورة وإلحاحًا وعلى رأسه مقتضيات الصرف على بنود الصحة والتعليم.
لم يمثل خطاب "القصور" تحديًا استثنائيًا غير قابل للتكرار، فتلاه بعد مرور عامين تقريبًا خطابَ "الرغيف"، الذي ألقd بتحدٍ أكبر حجمًا وأعلى قدرة على إحداث صدمة. "جه الوقت إن رغيف العيش أبو خمسة صاغ ده يزيد ثمنه.. حد يقول لي ده كلام؟ خليها للحكومة خليها إيه؟ خلي دكتور مصطفى هو اللي يشيلها.. خللي وزير التموين هو اللي يشيلها.. لا أنا أشيلها.. أنا اللي أشيلها قدام بلدي وقدام ناسي. على الهوا أنا باقولها.. أنا باقولها على الهوا لكل المصريين هذا الأمر لازم يتوقف".
يمثل رغيف الخبز الذي تدعمه الدولة، الوحدة الغذائية الرئيسة في حياة قطاع واسع من المواطنين؛ وإذ يعلن الحاكم رفع سعر الرغيف عبر مفردات قاطعة تحمل صبغة التحدي الأكيد، مستعملًا أدوات التوكيد والأساليب التقريرية، فإنه يبلور المقابلة بين قوة السلطة وضعف الآخرين المستبعَدين من أي حوار عادل والمقولبين في إطار المفعول به.
يُلاحظ كذلك أن التحدي موجه إلى "كل المصريين"، وكأنهم صاروا في كفة بلا وزن، لا تعدل كفة فرد واحد تطغى رؤيته على الجميع، هذا الفرد يأخذ على عاتقه بفجاجة مهمة التصدي لتبعات قراره، منتحلًا الشجاعة، ويمكن القول بأن تصدره المشهد يمثل تحديًا إضافيًا، فصحيح أن طبيعة الأنظمة الشمولية تقوم في العادة على إرادة شخص بعينه يدير الدفة ويوجهها في وجود الأتباع والموالين، لكن تنحية هؤلاء من المشهد هي بمنزلة إعلان قوة إضافي وتأكيد للقدرة المنفردة على النزال وكسب المعارك.
السيسي: مش معقول 20 رغيف بثمن سيجارة
"هو معقول أدي عشرين رغيف بثمن سيجارة.. عشرين إيه؟ .. عشرين رغيف بثمن سيجارة.. باقول إن إنا عايز إدي لولادي أكل بثمانية مليار جنيه في السنة مش موجودين الفلوس. الكلام دا لازم يتوقف. ودا أمر بناخده بنعيد تنظيمه بشكل مناسب.. ما باقولش نغليه قوي زي ما بيتكلف علينا ستين، وخمسة وستين قرش ولكن هذا الامر لازم يتوقف".
بعيدًا عن السياق المفكك الذي يسبح فيه مجمل الخطاب، يمكن العثور على حجة رئيسة؛ ألا وهي طرح الدعم المالي المخصص للخبز، كمصدر وحيد لغذاء التلامذة الصغار في مدارسهم، وتلك حجة تسهل مقارعتها، فلا يمكن بحال أن تقتطع الدولة من قوت الفقراء وبطونهم، وتضع في أفواه التلامذة الفقراء أيضًا دون جدال، وكأنها تنقل الجوع من بدن لآخر، فيما تنتحل فضلًا ليس لها، والحق أن ميزانية التغذية يمكن الحصول عليها بتوفير نفقات أخرى تقع تحت بند الرفاهية وتكللها أوصاف من قبيل "الأكبر" و"الأطول" و"الأوسع" و"الأعرض".
تظهر بعض الحجج الثانوية غير المترابطة في الخطاب، منها تقدير قيمة الرغيف بإحالته لسعر السيجارة، وهو أمر يتعذر فهمه، وإن شئنا المضي مع ركاكة المعنى وسطحيته لقلنا إن تناول الخبز باعتدال سلوك إيجابي، فيما التدخين سلوك سلبي، وعلى المدى الطويل تحقق السجائر خسائر مؤكدة في صحة الفرد بينما يحقق الرغيف نموًا، فأي حجاج هذا؟ وأي تناص منطقي يمكن اللجوء إليه لضحد فكرة مهلهلة بداهة؟
على كل حال، انتقل التحدي من فعل يستفز مشاعر المواطن المُفقَر، إلى فعل أنكى يخرق جدران أمنه المتداعية ويدكها دكًا، فمن بناء القصور الفاخرة إلى رفع سعر الرغيف المدعم، مسافة تبدو شاسعة لكنها تُقطَع في اتجاه واحد، وقد أحرزت الحجج المستخدمة بطولها استياء عديد المواطنين إذ ظلت حبيسة إطار المغالطات المفتقرة إلى منطِق متماسك.
ترى بأي صورة يستجيب المتحاورون للتحدي وكيف يتفاعلون معه؟
بالنظر إلى خطاب الخبز كنموذج، يمكن القول بأنه لقي ترحيبًا من الحاضرين أي شهود الحدث الخطابي الموجودين في القاعة المغلقة، والذين تم انتقاءهم بحذر للمثول في حضرة السلطة كظهير داعم يهللون ويصفقون وربما يطلقون الهتافات الحماسية. أما خارج القاعة؛ تعرض الخطاب للتداول وإعادة الإنتاج بصور متنوعة، اعتمدت على طبيعة المتلقي.
من ناحية حفز التحدي الفئات المتضررة على اتخاذ مواقف مضادة في صورة مدونات كلامية لم ترق فيما بدا إلى أفعال احتجاجية ملموسة، لكنه من الناحية المقابلة دفع الفئات الموالية للسلطة إلى إنتاج سيل من خطابات التأييد أصدرتها جماعات قوة ونفوذ، ممثلة في رجال دين وأعضاء مجالس نيابية وأصحاب مناصب عليا، ومصالح عليا أيضًا.
البوظة: خمر الفقراء
في حوار تلفزيوني علق رجل دين ذائع الصيت "يسعدني ويشرفني كأستاذ للشريعة الإسلامية أن أدعم وأؤيد القرار الصائب الموضوعي الواقعي للسيد الرئيس عبد الفتاح السيسي في ترشيد الدعم لرغيف الخبز الذي لا مثيل لسعره في العالم. إن الفقهاء قرروا أن تصرفات ولي الأمر أو الحاكم منوط بالمصلحة فحيثما كانت المصلحة فثم شرع الله".
لا عجب أن يستعين خطاب التأييد هنا بالمقدس كحجة لا يمكن الطعن فيها، فيقرن أفعال الحاكم بالمصلحة ويقرن المصلحة بالشرع؛ لكنه لا يأتي بتعريف المفاهيم التي يتلفظ بها. فما طبيعة هذه المصلحة المقدسة؟ ومن صاحبها؟ وكيف يمكن تقييمها؟ ومن هم الفقهاء الذين لا يسميهم؟ لا يتوقف الأمر عند استخدام الدين بل يحاجج أستاذ الشريعة أيضًا بأن رغيف الخبز يذهب لإطعام الدواجن والحيوانات، وهو حجاج شاركه فيه نقيب الفلاحين، ثم تأتي الحجة الأخيرة "هناك عربات كارو (..) تجمع هذا الخبز الملقى في البيوت ليصنع منه مشروبًا محرمًا ألا وهو مشروب البوظة الذي يقدم للطبقات الكادحة، وهذا محرم".
الحق أن تسرب الخبز المدعم واستخدامه علفًا للحيوانات والطيور المنزلية وإن صحَّ؛ لا يعد حجة ذات شأن تبرر رفع السعر، فهذه الثروة الحيوانية المتواضعة تمثل رأسمال الطبقات الفقيرة، وإجبار مربيها على ابتياع أعلاف صناعية مستوردة، يؤدي بالتبعية لارتفاع أسعارها في الأسواق وقصر استهلاكها على شرائح متوسطة وعليا. أما عن تصنيع البوظة من الخبز المتعفن فحجة من المضحكات المبكيات، ولعلها لا تليق بخصم في كامل الوعي والاتزان، وإلا بات النخيل من المحرمات ومثله حقول الشعير وأشجار التفاح وتكعيبات العنب، الفارق الوحيد أن خمر الخبز ومسكراته في متناول المعدمين، وخمر الفاكهة المنقى يناله المرفهون.
في إطار التأييد، جاء بيان إحدى الغرف التجارية ليؤكد أن "اعتماد الفرد على دعم الدولة لغذائه يخلق مناخًا من التكاسل بين فئة الشباب"، وتلك حجة أخرى تتجاوز أوجاع الواقع إلى سخرية العبث وفانتازيا الخيال. فدعم الدولة للغذاء في ظل فقدان العملة لأكثر من نصف قيمتها؛ هو أقل ما يجب تقديمه لمنع انهيار البناء الاجتماعي وتجنب سقوط نسبة أكبر من المواطنين تحت خط الفقر، ولا شك أن وصف رئيس تحرير جريدة الدستور لخطاب الحاكم المتعلق برفع سعر الرغيف بأنه "سلوك شخص مصلح"، أتى بدوره ليثير البسمات والتساؤلات حول كنه مفهوم "الإصلاح" وتعريفه.
أحمد كريمة: الخبز الزائد يصنع منه مشروب محرّم في الريف
خرج صوت المعارضة من مكمنه مع ولوج الخبز دائرة الخطر، ونقلت مواقع التواصل الاجتماعية خطابًا مضادًا أنتجته بعض الأحزاب التي لا تزال تنازع لالتقاط الأنفاس على الساحة، هذه الأحزاب راحت تؤكد أهمية دعم الغذاء وتهيب بفتح حوار مجتمعي قبل تنفيذ أي قرار، وقد أظهرت هذه البيانات والتصريحات في مجملها مدى التهميش الذي حاق بقوى سياسية، يفترض أن تكون حاضرة وإن ظاهرًا على مسرح الحدث؛ لكنها تقابل بالتحدي مثلها مثل المواطن العادي، فيتم تغييبها واستبعادها، تتلقى الصدمة وتنذهل للمفاجأة وتعارض على استحياء وترفض بحذر، وتتحول في نهاية الأمر إلى ظل باهت لا يتلاشى، لكنه أيضًا لا يترك بصمته.
أي شيء في رغيف
يلاحظ أن مصر تعد من أكبر البلدان المستوردة للقمح في العالم، وأن طعامًا يتكون من خبز بداخله مكرونة، خبز بداخله بصل أو طعمية، خبز بداخله كشري، خبز يحوي أي شيء؛ هو الأساس في تغذية شريحة عظمى من الطبقات الدنيا، وجدير بالذكر أن البنك الدولي أعلن عام 2010 أن دعم الغذاء المشتمل على رغيف الخبز نجح في حماية 12% من الأسر المصرية من الهبوط تحت خط الفقر.
وفي حين تتوجه أموالٌ طائلة لتحقيق حال السيولة والرفاهة للطبقة العليا والمجموعات الأكثر ثراءً؛ يتعرض وزن الرغيف المدعم للتخفيض عدة جرامات، بينما تصطنع السُلطة سياقًا زائفًا يصور قراراتها الضارة بمصالح الفئات الأفقر كدواء مُر لا بد من تناوله لإتمام الشفاء. ربما لا ينخدع المضارون، لكنهم أيضًا يخشون الحركة، فتكريس بلاغة التحدي في خطاب السُلطة ينزع عنهم بقايا مشاعر الأمان ويهدم الحدود المتعارف عليها وإن كانت جائرة، ويحول الحامي إلى مصدر خطر، كما يخل بأسس العقد الاجتماعي، ويسقط بنوده تباعًا.
التحدي في ذاته مسلك يخيف، فالمتلقي يشعر بأن من يتحداه قوي قادر وواثق من نتيجة سلوكه، وأنه حتمًا قد أعد العدة لمواجهة شتى الاحتمالات، وبالتالي لن يتأتي الوقوف أمام قراراته ولن تفلح محاولات الرفض والتمرد عليها، الأمر الذي يسوغ الاستسلام ويمهد إعلان الهزيمة، مبررًا الهروب من التحدي والنكوص عن مجابهته.
من هنا قد يحقق الطرف الذي أمسك بزمام المبادرة انتصارًا مبكرًا دون اختبار حقيقي.
إذا كان البادئ بإعلان التحدي سلطة حاكمة؛ تعاظمت الوطأة، وإذا تناول التحدي ثابتًا من الثوابت الراسخة في الأذهان وقعت صدمة تشل عملية التفكير وتجمد الحركة لوهلة، هذه الوهلة تكفي الأجهزة المتمرسة في عمليات القمع لفرض سيطرتها الكاملة، ومنع أي عمل احتجاجي مضاد. بالتوازي؛ تقوم أبواق الدعاية بتزيين التحدي مهما بلغت قسوته وفجاجته لتضفي عليه رونقًا اجتماعيًا محببًا. لا غضاضة إذًا أن يمسي ثمن رغيف الخبز المتضاعف ميزة في صالح الطبقات الفقيرة، وأن يتحول التحدي السلطويّ السافر إلى رغبة أبوية أمينة وصادقة في تحسين الأحوال المعيشية، ويغدو الخضوع للإذلال والقهر بمنزلة تضحية غالية لا بديل عنها إحياءً للوطن.
إن هذه النقلة النوعية في بلاغة السلطة الحاكمة لجديرة بأن توضع قيد الدراسة في الأعوام القادمة، فخطاب التحدي المباشر لا يزال طازجًا، ولا تزال توابعه مهما تبدت جوانبها وانكشفت أركانها؛ غامضة، تستلزم الملاحظة المتروية والتحليل، ولا شك أن السلطة بوجه عام تنتهج أساليب متعددة لتحقق تطلعاتها، وتختبر في سبيل البقاء والحفاظ على مقاعدها مسلكًا تلو آخر، فإذا أثبت واحد منها نجاحه، صار مقدمة لمترادفات يحملها المستقبل، وإذا فشل؛ بحثت عن جديد، وقد غلَّبَت السلطة أسلوب التحدي في خطاب "القصور"، ثم أعادت إحياءه في خطاب "الخبز"؛ لما لا وقد أفلح الزجر وأنجز الوعيد، ومرت القرارات المجحفة، صارخة التحدي، دون أن تؤدي إلى هزات حقيقية تخلخل أركان الحكم.
في التحدي ولا ريب ما يبعث الاستفزاز ويحفز الرد العنيف، خاصة إن أسقط من الحسبان عامل الثقة المفقودة في السلطة، وأغفل ما لتراكماتها من أثر، والحق أن التأقلم مع اللطمات واعتيادها، ليس باختيار يمكن دومًا التعويل عليه، فإن صيغ التحدي دون تقييم موضوعي لقوة الطرف الآخر، وإدراك حقيقي لمقدار سعة صدره؛ تعززت احتمالات الانفجار. ربما يسفر الإصرار على تحدي أوجاع المواطنين المنسحقين تحت وطأة الحاجة، عن استدعاء التاريخ القريب إلى الذاكرة الشعبية، وعلى كل حال؛ يصعب حسم النتائج مسبقًا فالمنتصر في ذياك نزال ليس معلومًا بالضرورة.