محتوى حر
لوحة "الجوع" لـ عبد الهادي الجزار (1947)

الآثار السياسية الجارحة للجوع

منشور السبت 18 تشرين الأول/أكتوبر 2025

لم تخلُ أمنية بطل رواية يوسف القعيد وجع البعاد من معنىً عميقٍ، ولم تكن هذيانًا أبدًا، حين اعتقد أنه من الأفضل لو وُلِد الإنسان بدون معدة. كان البطل الريفي يدرك الحكمة التي وراء "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء"، ليس بالمفاهيم الصحية، إنما بالمعنى الموصول بمجال الاجتماع البشري وتشكلاته وتكويناته، التي بدأت بالعشيرة وانتهت بالدولة الوطنية الحديثة، مرورًا بعصر الإمبراطوريات التي كرست التفاوت والظلم والتجويع والنهب.

في الحقيقة، انتبه كثيرٌ من العلماء والباحثين إلى تأثير الاقتصاد على السياسة، ليس بالمنظور الماركسي الذي يرجع كل شيء إلى الموجودات المادية، التي يطلق عليها كارل ماركس البنية التحتية، إنما بما هو أوسع من هذا بكثير، وبما يقر بأن الاقتصاد نفسه في أساسه، وفي جل أهدافه، مرتبط بتلبية الاحتياجات الأساسية للإنسان، وعلى رأسها الغذاء.

فتأمين الغذاء أحد أسباب نشوب الصراعات الاجتماعية والسياسية منذ أول الخليقة، ولا يمكن للأسباب الأخرى من قبيل الانتقام أو الرغبة في تسيّد سائر الناس أو الانسياق وراء الغريزة الجنسية، أن يكون لها ما كان للغذاء من موقع متقدم في الدوافع التي قادت إلى الصراع بمختلف أشكاله ودرجاته ومآلاته.

عرفت الجيوش، وهي تتقدم غازية أو تقف صادة، أهمية توفير المؤن، فالجنود في سيرهم وتخندقهم وأثناء القتال والاستراحات بين الحروب يبقون في حاجة ماسة إلى ملء بطونهم، بل إن هذا يكون أحيانًا هو السبب الوحيد لشن الحروب، حتى لو توارى خلف ذرائع أخرى.

لهذا لم يكن نابليون بونابرت يبالغ حين قال "الجيوش تزحف على بطونها"، وهو قول في ظني يتعدى مجرد توفير الغذاء للجند أثناء القتال، إنما أيضًا تحفيزهم على الانضمام إلى صفوف المقاتلين. فبعض القادة العسكريين كانوا يطلقون بين الجنود من يعدُهم بالحصول على مال وفير إن تمكنوا من غزو أرض جديدة، ويغريهم بأن هذا سيمكنهم من ملء بطونهم بطعام أطيب وألذ، في بلاد الناس، من ذلك الذي يأكلونه في بلادهم.

صناعة الجوع

لم يقف الأمر عند حد تحفيز الأفراد، بل تعدى هذا إلى استراتيجيات الدول وما يترتب عليها من خطط وسياسات إذ طالما أرادت الإمبراطوريات القديمة في توسعها أن تحتل بلدانًا غنية بمحاصيل معينة، لا سيما القمح. ولعل المثل الصارخ على هذا ما فعله الرومان حين احتلوا مصر، فجعلوها مصدر تأمين احتياجات إمبراطوريتهم من أقصاها إلى أدناها من القمح، الذي أصبح في زماننا "سلعة استراتيجية" حيث تحرص كل دولة على أن يكون في يدها مخزون كاف منه. لذا صار للدول التي تنتج القمح بغزارة ميزة سياسية واقتصادية نسبية على تلك التي لا تنتجه، وتحتاج إليه بشدة.

أدت سياسات الدول الاستعمارية إلى صناعة الجوع عبر نهب الموارد الغذائية للدول المستعمرة

وتخشى الحكومات من الأثر المفزع الذي يمكن أن يُحدثه نقصُ أو نفادُ مخزون القمح لديها من غضب وهياج، شهدته بعض الأمم، وأُطلق عليه اصطلاح "انتفاضة خبز". في المقابل، فإن الدول تدرك أهمية القمح في صنع سياساتها، وتُحسِن توظيفه في تحقيق أهدافها، وتحرص على أن تبقى أسعارُه في السوق الدولية مرتفعة ليعطيها هذا رافدًا للقوة.

لهذا خفضت الولايات المتحدة الأمريكية المساحات المزروعة من القمح، لتمنع تراجع أسعاره، وهو عمل غير أخلاقي، لا سيما أنه يتزامن أحيانًا مع مجاعات كانت تجتاح بعض الدول الإفريقية، ونقص للإنتاج ميّز أخرى نتيجة سوء الأحوال المناخية. كما أن استراتيجية القوة الغذائية الأمريكية لا تقوم على شحن الغذاء إلى عالم من الجياع، بل على تشكيل الأذواق والعادات لطبقة معينة من الناس، لجعلهم يعتمدون على منتجات وأنماط لم يريدوها قط من قبل.

أدت سياسات الدول الاستعمارية إلى صناعة الجوع، عبر نهب الموارد الغذائية للدول المستعمرة، وهي مسألة لم تتوقف مع نهاية الاستعمار التقليدي، بل امتدت واستمرت واستفحلت مع ما يسمى "الاستعمار الجديد" الذي يعتمد بالأساس على الاقتصاد، ومنه بالطبع الموارد الغذائية، في تحقيق أهدافه عبر تحويل كثير من الدول إلى مجرد مُصدِّرٍ للمواد الخام إلى الدول المتقدمة، لتقوم بتصنيعها وتعيدها سلعًا غالية الثمن.

وهنا يقول سمير أمين في كتابه "مستقبل الزراعة في الرأسمالية المعاصرة" إن "التوجه المستمر للرأسمالية نحو التوسع، أدى إلى تبنيها استراتيجيات وسياسات تستهدف أساسًا القضاء على الزراعة القروية في الجنوب لصالح إعادة إنتاج مسار الزراعة العائلية التي نشأت في الغرب، وأيضًا المزارع الرأسمالية المتخصصة، وهي سياسات ستؤدي إلى تدمير المجتمعات الفلاحية في آسيا وإفريقيا، بالقضاء على جيوشٍ من منتجي الفلاحين من العمالة الرخيصة".

فمن المعروف أن الدول تسعى إلى تأمين أغلب الاستهلاك البشري من الغذاء عبر الإنتاج المحلي، لكنها تتفاوت في هذه المسألة، إذ تصل دول أمريكا الشمالية وغرب ووسط أوروبا في تدبير احتياجات سكانها من الغذاء إلى مرتبة فائقة، تصير مقبولة في الصين، ومتواضعة في بقية دول آسيا وأمريكا اللاتينية، وكارثية في إفريقيا.

جوّع كلبك يتبعك

ووفق تصور أبعد، نجد أن فراغ البطون أو التجويع له انعكاساته السياسية، سواء على المستوى المحلي والوطني أو الدولي. ففي كثير من الأحوال لا تكون البطون مقصودة في حد ذاتها إنما الأنظمة السياسية الحاكمة، كأن تتعمد الدول الكبرى ترك ما في صوامع الغلال ببعض البلدان الصغرى يتناقص، بغية إبقاء حكوماتها تحت ضغط، قد يجبرها على تقديم تنازلات، وإلا خرج الجائعون غاضبين ليطالبوا بإسقاطها.

على النقيض مما هو سائد في التفكير عن "ثورة الجياع" يخضع الجوعى أكثر لعصا الاستبداد

ولأن مثل هذه الحكومات تدرك تلك المسألة جيدًا، فهي لا تدخر وسعًا في سبيل تحقيق الاكتفاء الذاتي من الغذاء، أو توفير العملة الصعبة التي تمكنها من استيراده، وفي الوقت نفسه تنويع أماكن الحصول على الغذاء، خصوصا القمح والأرز.

البطن الفارغة هنا ليست سوى قوة سياسية غاضبة، يكون صاحبها مستريح الضمير إن عبَّر عن غضبه هذا بالطريقة التي تروق له، غير نادم على العاقبة. وقديمًا قال أبو ذر الغفاري "عجبت لمن لم يجد قوت يومه كيف لا يخرج على الناس شاهرًا سيفه".

لكن الأنظمة الحاكمة لا تبذل، في كل الأحوال، ما في وسعها في سبيل تجنيب شعوبها الجوع، فأحيانًا يتعمد بعضها هذا، ممتثلة هنا إلى ما يترتب من آثار على الحكمة ذائعة الصيت التي تقول "جَوِّع كلبك يتبعك". فعلى النقيض مما هو سائد في التفكير عن "ثورة الجياع"، يخضع الجوعى أكثر لعصا الاستبداد، وهم حتى إن هبوا فإن هبتهم ستصنع فوضى يتخللها سلب ونهب وتخريب وتدمير بما يعطي السلطة فرصة لإجراءات أكثر استبدادًا وتوحشًا.

كما أن الثائرين جوعًا لا يمكثون هكذا طويلًا في سبيل تحقيق هدفهم، إذ سرعان ما ينصرفون إلى بيوتهم، مفسحين الطريق أمام عقاب غيرهم من وجهاء السياسة وصناع الاعتراض، بدعوى أنهم محرضون على التمرد والفوضى.

ورأينا مثالًا صارخًا على هذا في مصر، عند اندلاع انتفاضة الخبز يومي 18 و19 يناير/كانون الثاني 1977، عندما انتفض الناس غاضبين بسبب رفع أسعار بعض السلع الأساسية، فما كان من السلطة إلا أن حمَّلت قوى "اليسار" مسؤولية التحريض على هذا، لا سيما أن المظاهرات العارمة تخللها عنف وتدمير لممتلكات عامة وخاصة. واعتقلت، بعد عودة الناس إلى بيوتهم كثيرًا من الاشتراكيين والناصريين والشيوعيين.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.