
صوت المرأة في فم المحتل.. النسوية خادمةً للسيطرة
من طهران إلى غزة.. حين يُختزل نضال النساء في صراعات القوى
كثيرًا ما تستدعى قضايا النساء في الخطابات السياسية لا لكونها مطالب نضالية مستقلة، بل أدوات لتبرير مشاريع أوسع من السيطرة والهيمنة، خاصة ضمن السياقات المضطربة مثل حالة الحرب الإسرائيلية الإيرانية.
جرى التركيز على قمع النساء في إيران ضمن سياق الصراع نوعًا من التوظيف الذي لا يفتقر فقط إلى العمق، بل يُنتج قراءة مُبسّطة ومُضلّلة لمعركتين منفصلتين جذريًا في طبيعتهما. فالنضال النسوي داخل إيران هو صراع داخلي معقّد ضد بنية سلطوية دينية أبوية، متجذّرة ثقافيًا وتاريخيًا، بينما الصراع مع إسرائيل يندرج ضمن صراع وجودي مفتوح مع كيان محتل توسعي واستيطاني يتغذى علينا دولة تلو أخرى.
مع ذلك، يُدمج هذان السياقان، كما لو أن مواجهة الاحتلال لا تُكتسب مشروعيتها إلا إذا سبقتها "شهادة تحرّر" من الداخل، لا سيما فيما يتعلق بوضع النساء. هذا الربط المشروط لا يُنكر فقط تعقيد القضيتين، بل يتجاهل أيضًا حقيقة أن إيران رغم جرائم نظامها تمكّنت من زعزعة منظومة الهيمنة الغربية في المنطقة في لحظة سياسية معقدة.
حين تُوظف معاناة النساء بهذه الطريقة، لا يكون الهدف دعم نضالهن، بل استخدامهن أدوات رمزية لنزع الشرعية عن خصوم سياسيين. ليتحوّل "تحرير النساء" من قضية عادلة إلى غطاء لخطابات السيطرة، من خلال احتلال واستغلال قضاياهن وأصواتهن وآلامهن لخدمة سرديات استعمارية جديدة.
لعبت خطابات المستعمِر دورًا محوريًا في تبرير الاحتلال، إذ لم يكن الاستعمار العسكري منفصلًا يومًا عن مشروع ثقافي وأيديولوجي هدفه إعادة تشكيل المجتمعات المستعمَرة وفق رؤية الغرب. ركّزت هذه الخطابات بشكل خاص على النساء، واستخدمت قضاياهن أداةً لإضفاء شرعية "أخلاقية" على الاحتلال.
من هذا المنطلق رُفعت رايات "تحرير النساء" في وجه أنظمة استبدادية أو تقاليد مجتمعية قمعية. غير أن بعض هذه الرايات لم تكن بريئة تمامًا، وتماهت في فترات تاريخية متعددة، خصوصًا في سياق الاستعمار الأوروبي للشرق الأوسط، مع مشروعات السيطرة والهيمنة، فظهرت ما يُعرف بـ النسوية الكولونيالية أو النسوية الإمبريالية. يُقصد بها تلك الخطابات النسوية التي تدّعي الدفاع عن حقوق النساء، لكنها في الواقع تتقاطع مع المنظومة الاستعمارية وتخدمها أحيانًا دون وعي من أصحابها.
سياق تاريخي: "المتحضّرون ينقذون النساء"
مع بداية الاحتلال البريطاني لمصر في أواخر القرن التاسع عشر، ومع الاحتلال الفرنسي للجزائر وتونس، بدأت تظهر سرديات استعمارية تُصوّر المرأة "الشرقية" بوصفها ضحيةً تعيش في ظلمات الجهل والتقاليد والدين، وتحتاج إلى "المنقذ الأبيض"، سواء كان جنديًا أو مفكرًا أو حتى ناشطة نسوية غربية.
لم تكن السرديات محصورة في الكتب أو الصحافة، بل تجسَّدت في السياسات والمناهج التعليمية والتدخلات القانونية؛ في مصر، عبَّر عدد من المفكرين والناشطين عن مواقف تُشبه في جوهرها الخطاب الاستعماري، متأثرين بالحداثة الأوروبية ومفاهيمها عن التمدُّن والتقدُّم.
أعاد الخطاب إنتاج بنية السلطة الذكورية إذ لم يُفسح المجال لأصوات النساء أنفسهن للتعبير عن قضاياهن
على الرغم من الأطروحات المحورية والمهمة لقاسم أمين الذي نشر كتابه تحرير المرأة عام 1899 منتقدًا الحجاب، وتعدد الزوجات، وغياب تعليم النساء، وما شكله ذلك من بداية نقاش اجتماعي حول أوضاع النساء، فإن خطابه لم ينطلق من موقع نقد داخلي بنيوي، بل من موقع استبطان للخطاب الكولونيالي، حيث ربط التقدّم بنمط الحياة الأوروبي، واعتبر أن خلاص النساء لا يمكن أن يتم إلا عبر تقليد الغرب وتبني نموذجه.
إلى جانب ذلك، أعاد هذا الخطاب إنتاج بنية السلطة الذكورية، فلم يُفسح المجال لأصوات النساء للتعبير عن قضاياهن، فوفق الكاتبة ليلى أحمد في كتابها المرأة والجنوسة فى الإسلام : الجذور التاريخية لقضية جدلية حديثة، فإن قاسم أمين "لم يكن صوتًا للمرأة، بل صوت للحداثة الذكورية، وإن تحرير المرأة في خطابه كان مشروطًا بإخضاعها لمعايير غربية لا تمثّل واقعها". وبدلًا من الاحتفاء بكتابات النساء المعاصرات له، ضُخّم صوت أمين وجرى تقديمه بوصفه "أبًا لتحرير المرأة المصرية"، بينما هُمّشت أصوات نساء مثقفات وناشطات في تلك الفترة ممن كنّ يخضن نضالات فعلية لانتزاع حقوقهن وإعادة تعريف دور المرأة في المجتمع مثل ملك حفني ناصف وسيزا نبراوي وغيرهما.
يكشف هذا التهميش عن التناقض الجوهري في الخطاب الذكوري الحداثي، الذي يرفع شعار "تحرير المرأة" لكنه في الوقت ذاته لا يعترف بأهليتها للتعبير عن ذاتها، بل يفرض عليها تصورًا مسبقًا ومشروطًا للتحرر.
يُعد أيضًا كتاب Remaking Women: Feminism and Modernity in the Middle East الذي حررته الأنثروبولوجية ليلى أبو لغد مساهمةً محوريةً في تفكيك هذه الإشكاليات، ويعيد النظر في الكيفية التي جرى بها "إعادة تشكيل" النساء في الشرق الأوسط خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، ليس فقط عبر السياسات الاستعمارية الغربية، بل أيضًا من خلال مشاريع التحديث القومية والمحلية، التي روّجت لتحرير النساء وتحديث المجتمعات، لكنها غالبًا ما انطلقت من رؤى ذكورية ونخبوية ترى أن تحرير النساء وسيلة لـ"تحسين صورة الأمة أمام الغرب"، وليس غاية نضالية بحد ذاتها.
المرأة ذريعة للإنقاذ
قدّم المستعمِر المرأة المسلمة على أنها ضحية صامتة تحتاج إلى من ينقذها، وغالبًا ما أُسند هذا الدور للمستعمِر الأبيض نفسه. هكذا ظهرت "المرأة المستعمَرة" كائنًا قاصرًا لا يُسمع صوتها، بل يُفترض أن ترحب بالتحرر الذي يأتي على شكل جندي أو مستشار أو نسوية بيضاء.
المفارقة أن هذه الخطابات الأخلاقية جاءت من أنظمة استعمارية تمارس العنف الجنسي والقمع السياسي والاستغلال الاقتصادي ضد النساء في مستعمراتها وفي بلدانها الأصلية على حد سواء. لقد استُخدمت "قضية المرأة في الشرق" سلاحًا ناعمًا يُجمّل عنفًا بنيويًا ويشرعن الاحتلال.
يُوظِّف الاحتلال الإسرائيلي خطاب "حقوق النساء" و"مكافحة العنف الجنسي" لتبرير مجازره ضد الشعب الفلسطيني
في مقالها "تحت أعين الغرب: الدراسات النسوية والخطابات الاستعمارية" انتقدت تشاندرا موهانتي النسوية الغربية لرسمها صورة نمطية للمرأة في العالم الثالث بوصفها ضحية موحدة، متجاهلةً التنوع والاختلافات. وتحت ذريعة "الدفاع عن حقوق المرأة" تتماهى بعض التوجهات النسوية، عن غير قصد أحيانًا، مع الأيديولوجيات الإمبريالية فتأتي مدرسة النسوية الإمبريالية (imperialist feminism) كنقد لهذه التيارات النسوية.
يُستخدم هذا المصطلح للإشارة إلى نقاط التقاطع بين النسوية والإمبريالية، حيث تُفرض قيم النسوية الغربية ومعاييرها على باقي المجتمعات. برز هذا المفهوم في أواخر القرن العشرين وأوائل القرن الحادي والعشرين بين الأكاديميين والنشطاء الذين انتقدوا الطرق التي استغل بها الخطاب النسوي من قِبل الحكومات والمؤسسات لتبرير التدخلات العسكرية، خاصة في الشرق الأوسط وجنوب آسيا.
سرديات مُختطَفة ومعايير مزدوجة
في المشهد السياسي المعاصر، تجلّى استخدام المستعمر للنسوية في السياق الفلسطيني حيث يُوظِّف الاحتلال الإسرائيلي خطاب حقوق النساء ومكافحة العنف الجنسي لتبرير مجازره ضد الشعب الفلسطيني.
فادعاءات العنف الجنسي التي لا تستند إلى أدلة استخدمت أداةً دعائيةً لتصوير الفلسطينيين "همجًا" و "خطرًا على النساء"، بينما تُمارس سلطات الاحتلال انتهاكات موثقة ضد النساء الفلسطينيات من اعتقال وتعذيب وحرمان من الحقوق الانسانية الأساسية. فمَن يسرق الأرض، يسرق بالتبعية السردية.
لكن الكارثة أنه لدى ترويج سرديات مضللة تُتّهم المقاومة الفلسطينية بارتكاب اعتداءات جنسية ضد مجندات الاحتلال في حملة دعائية تهدف إلى شيطنة المقاومة وتبرير الاستعمار. ورغم تمسّك معظم المنصات النسوية في المنطقة بمواقفها المناهضة للاحتلال، تماهى بعض الناشطين في الفضاء العربي مع هذه الرواية، كما ظهرت تقارير أممية تفيد بأن هناك "أسبابًا معقولة للاعتقاد" بأن أعمال عنف جنسي، بما في ذلك الاغتصاب والاغتصاب الجماعي، وقعت في عدة أماكن خلال هجوم حماس في السابع من أكتوبر.
واجه التقرير انتقادات واسعة بسبب أوجه العوار العديدة التي جاءت فيه، من أهمها اعتماده بشكل أساسي على مصادر إسرائيلية، رغم كونها طرفًا في الصراع، ما يناقض الأسس العلمية. كما انتُقدت منهجيته ونوعية الأدلة التي استند إليها في اتهام عناصر المقاومة بانتهاكات جنسية هي فعلية أم تحليلية؟ وأُثير التساؤل حول السماح للجنة بزيارة إسرائيل، بعد أن كانت قد منعتها، في حين مُنعت بعثات أممية من دخول غزة أو الضفة أو القدس، ما فتح الباب لاتهام النسويات بـ"ازدواجية المعايير" في تصديق روايات العنف الجنسي.
هل الجنديات في جيش الاحتلال، اللواتي يتفاخر بهن النظام باعتبارهن نساء "مُمكّنات"، يُنظر إليهن الآن كضحايا مخروسات؟ الاعتداء الجنسي لا يمكن فصله عن موازين القوى، والتصديق على رواية الضحية لم يكن قائمًا فقط على مظلومية النساء التاريخية، بل يتأثر بموقع كل امرأة داخل سياقها الاجتماعي والسياسي. في هذا السياق، المستعمِر هو الطرف الأقوى، هو من يملك السلاح والسيطرة وأدوات البروباجندا الإعلامية.
من الصعب أن نكون نسويات دون الإيمان بأن القضية الفلسطينية والنضال ضد الاستعمار قضايا نسوية. فالنسوية ليست قالبًا جاهزًا ولا مفهومًا جامدًا، بل أداة تحليلية ومنهج لتفكيك علاقات القوى، ومفهوم انسيابي يتفاعل مع الواقع وتعقيداته. لذلك، فإن حصرها في نموذج واحد يُفقدها معناها وقدرتها على التغيير. والنسوية التقاطعية التي ننادي بها اليوم تقوم على الوعي بتشابك أنظمة القهر، فالنضال النسوي هو نضال متعدد الجبهات، في مواجهة قوى استعمارية تفرض سيطرتها ورؤيتها علينا، كما في مواجهة بنى قمعية وأبوية مترسخة داخل مجتمعاتنا.
مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.