تصميم سيف الدين أحمد، المنصة، 2025
من يملك حرية الجسد؟

بين السيد البدوي والجونة.. من يملك الجسد؟

عن الحرية المعلّبة والسيطرة العابرة للطبقات على أجساد النساء

منشور الأربعاء 12 تشرين الثاني/نوفمبر 2025

أحب الموالد. أحب الأنوار. اللحظات التي تذوب فيها الفوارق الطبقية، الغناء الجماعي، والإنشاد والرقص الذي يحمل شيئًا من الخلاص. لكن وسط هذا الزخم الروحاني يتسلل القلق من نظرات مستنكرة لشكلي، أو من مضايقات عابرة تفسد عليّ لحظة الفرح.

بالمقابل أجد متعةً في الشواطئ الخاصة تحت شمس البحر ومياهها. أتحرك بحرية دون خوف من التحرش أو الوصم لكن بثمنٍ باهظٍ (ثمن ثلاثة أيام هناك يعادل مرتبي في ثلاثة أشهر). وحين أفكر في اصطحاب أمي أو أختي أُدرك صعوبة وربما استحالة ذلك فقط لأنهما محجبتان. إذ لا مكان لهما في تلك المساحات "المتحضرة".

شغلَ الاحتفالُ بمولد السيد البدوي السوشيال ميديا ما بين صور وتعليقات على الإقبال الكبير والزحام وممارسات مريديه ومحاولات تحليله باعتباره حدثًا اجتماعيًّا ودينيًّا يعكس الثقافة الشعبية في مصر.

بعده بأيام استقبلت السوشيال ميديا مهرجان الجونة السينمائي بمنشورات تتعلق بملابس وشكل ظهور نجماته وفناناته؛ نشر الباحث عمرو عبد الرحمن بوست على فيسبوك يصف منتجع الجونة بـ"المستوطنة" في إشارة إلى انفصالها الطبقي والاجتماعي عن بقية البلاد، وهو ما كثر الرد عليه بين مؤيد ومعارض بدعوى كونها مساحات آمنة للنساء والأقليات الجنسية.

قد نبدو أمام مشهدين متناقضين؛ امرأة في المولد ترتدي جلبابًا وتغطي شعرها، وأخرى في المنتجع ترتدي ملابس بحر من قطعتين، لكن السيطرة على الجسد في الحالتين قائمة، ما يطرح سؤالَ من يملك الجسد؟ وهل حقًا تمنحُ الأسوارُ الحرية؟

حرية مدفوعة الثمن

خارج الأسوار لا توجد حرية خلع الحجاب وداخلها لا توجد حرية ارتدائه. في الحالتين يُملى على النساء طريقة لبسهن وما يُسمح لهنّ بإظهاره وما يُحظر عليهنّ كشفه. وإذا كانت الطبقات الميسورة صنعت أسوارًا باسم الخصوصية والحرية، فإنها أعادت في الوقت ذاته إنتاج سلطة ذكورية طبقية على الجسد لا تقل قهرًا عن تلك التي يمارسها المجتمع المحافظ في أطراف المدن والقرى.

في يوليو/تموز 2023 بلغ الجدل ذورته بعد منع محجبات من دخول شواطئ خاصة وساحات فنادق في الساحل الشمالي بحجة أن "المايوه الشرعي لا يتناسب مع طبيعة المكان"، وفي واقعة مشابهة طُردت امرأة من أحد كافيهات القاهرة الجديدة لأنها كانت ترتدي الحجاب بعد أن أخبرها الأمن أن "السياسة العامة لا تسمح".

تكرار هذه الوقائع يؤكد أن الرأسمالية حين تسوّق الحلم بالحرية تُعيد إنتاج السيطرة على الأجساد في صورة جديدة أكثر أناقة. سيطرة مغلفة بذوق المكان وحرية الاختيار  والدريس كود لكنها في جوهرها امتداد لمنطق الملكية الذكورية للجسد.

في الوقت الذي تُحرم نساء الطبقات الشعبية من الحماية والخصوصية في الفضاء العام تُباع الحرية للنساء القادرات على شرائها

في الشواطئ الخاصة، تُقدَّم حرية الجسد لمن يملك ثمنها. يُسوَّر البحر بأسوار من الأمن والامتياز. تُرسم الحرية داخل مساحات محددة تُدار كمنتجات استهلاكية. النساء هناك يتحرّكن بملابس البحر في أمان لكنه أمان قائم على نفي أجساد أخرى لا يُسمح لها بالعبور لأنها لا تنتمي طبقيًا. فتتحول من رموز للترف إلى أدوات لتحديد من يملك حق الظهور ومن يُحجب.

أما على الشواطئ العامة، فكل جسد أنثوي يُصبح محل تفتيش ومراقبة؛ يُحاكمه المجتمع باسم الأخلاق، وتُضيّق عليه الدولة باسم النظام العام. تتعرّض النساء في هذه المساحات للعنف اللفظي والمضايقات.

تكشف دراسة للأمم المتحدة حول النساء في 2013 أن 99% من المصريات تعرضن للتحرش، وتشير دراسة للمركز المصري لحقوق المرأة (ECWR) نُشرت عام 2008 إلى أن 72% من النساء اللاتي يتعرضن للتحرّش يرتدين الحجاب أو النقاب.

هكذا تُعاد صياغة مفارقة قاسية؛ كلما اتسعت مساحة الحرية داخل الأسوار كلما ضاقت خارجها. تتبدى هذه المفارقة علامةً على نظام اجتماعي واقتصادي يُعيد إنتاج التراتب الطبقي والجندري من خلال أجساد النساء ذاتها.

في الوقت الذي تُحرم نساء الطبقات الشعبية من الحماية والخصوصية في الفضاء العام، تُباع الحرية للنساء القادرات على شرائها. تصبح الحرية امتيازًا طبقيًا، والجسد في كل الحالات ساحةً للصراع بين رأس المال والأخلاق والسلطة.

تسليع الأجساد في المنتجعات

وجود الشواطئ الخاصة لا يخلق فقط فاصلًا ماديًا بين الأغنياء والفقراء، إنما يؤسّس لفاصل رمزي في معنى الجسد ذاته. الجسد الفقير يُعامَل باعتباره تهديدًا يجب تقييده، والجسد الثري يقدم رمزًا للجمال والتحرر. في الحالتين، لا تتحكّم النساء في أجسادهن التي تخضع لمنظومة متكاملة عناصرها السوق والدين والدولة. تتوزع فيها السلطة بأشكال مختلفة لكنها تصبّ في الاتجاه ذاته؛ ضبط النساء وتقنين أجسادهن حسب موقعهن الطبقي.

وفق منطق السوق لم تعد "حرية النساء" قضيةً سياسية أو اجتماعية بل سلعة  قابلة للبيع

السيطرة على الجسد دائمًا ما كانت مدخلًا للسيطرة على العمل والحدّ من قدرة النساء على إنتاج الحياة خارج شروط النظام القائم. الفرق أن أدوات السيطرة تغيّرت من الكنيسة إلى السوق، ومن القاضي إلى رجل الإعلانات، ومن السجن إلى "المنتجع"، والنتيجة واحدة: إعادة إنتاج الهيمنة ذاتها في ثوب عصري أنيق.

في الموالد، تتقاطع الأصوات بين الذِكر والبائعين والنساء اللاتي يتسللن وسط الزحام بجلابيب فضفاضة وعيون حذرة يتنفسن قليلًا خارج ضيق البيوت لكنهن لا يخرجن من قبضة المجتمع الذي يراقب خطواتهن باسم الشرف والعفة.

وفي المنتجعات، على بُعد مئات الكيلومترات تلمع الأضواء من شاشات المهرجانات وتُعرض الأجساد النسائية دليلًا على الانفتاح والتحرر. لكن خلف هذا البريق تُعاد كتابة القواعد نفسها بلغة مختلفة. يخضع الجسد للمراقبة والحديث والتقنين لا ذاتًا حرةً قادرةً على الاختيار.

وفق منطق السوق، لم تعد حرية النساء قضيةً سياسيةً أو اجتماعيةً، بل سلعة قابلة للبيع. تحوّل الجسد الأنثوي إلى واجهة إعلانية تُسوَّق بها فكرة الحداثة، تقوم على القدرة الشرائية لا المساواة؛ تتبنّى الرأسمالية خطاب التحرر لترويج استهلاك جديد؛ الملابس التي "تعبّر عن نفسك"، مستحضرات الجمال التي "تحرّرك من المعايير"، المنتجات  التي "تمنحك ثقة في جسدك"، كذلك الوحدات السكنية المسورة التي تُباع عبر جسد أنثوي "نظيف" يتحدث بلغة السوق لا الشارع ويروّج لحياة بلا ضجيج بلا زحمة بلا فقر ، بلا مصر تقريبًا.

هذا ما يمكن وصفه بأنه وهم حرية أن تكوني "امرأة جديدة" تعيش خلف الأسوار، معزولة عن واقع النساء الأخريات. أنوثة طبقية مبيّضة مُعاد إنتاجها وفق مقاييس السوق. تُقدَّم كمنتج فاخر لمن يستطيع الشراء، بينما تُقصى النساء بكل تنوع أجسادهن ولهجاتهن وألوان بشرتهن.

وهم الأنوثة في مقابل وهم الانتماء

في هذه الصورة الملمّعة التي تخرج فيها الأنوثة من سياقها الاجتماعي، لا يعد التمثيل البصري عشوائيًا، إنما هو استمرار للإرث الاستعماري في الخيال الجمالي المصري، فالحداثة التي تسوّقها الرأسمالية المحلية لا تكتفي بإقصاء الفقيرات والمهمشات وتستورد صورة "الأنثى البيضاء" رمزًا للتحضّر لتبيعها بوصفها النموذج الأمثل.

الحرية في مصر هي ذاتها في إيجيبت  مشروطة مصنوعة تُباع وتُشترى

إنها استعارة محدثة لـ"المستعمِر" نفسه بلغة الإعلانات تبيع وهم التمدن ووهم التميّز ووهم أنكِ لا تنتمين إلى هذا الوطن أصلًا. الحرية تُشترى بالعملة الصعبة، والانتماء الحقيقي تُستبدل به علامةٌ تجاريةٌ محفورةٌ على بوابة الكمباوند، وهو ما تعبر عنه سيلفيا فيدريشي "كان الجسد بالنسبة للرأسمالية كما كانت المستعمَرة بالنسبة للدولة: الأرض التي تبني عليها سلطتها, والإقليم الخفي للاستغلال".

الحرية في مصر هي ذاتها في إيجيبت، مشروطة، مصنوعة، تُباع وتُشترى وتُقاس بمدى القرب والبعد من السلطة والمال. النساء سواء في القرى أو داخل المنتجعات محاصرات بين خطابين يبدوان متناقضين لكنهما يشتركان في شيء واحد هو نزع ملكية أجسادهن منهنّ.

هكذا لا أجد أنا الواقعة بين قيم الأسرة والـQR code مكانًا في مصر التي تشبهني أو إيجيبت التي تسحقني. يبدو أن هناك حريةً ولكن ليست لنا جميعًا.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.