مهما بدت رمزية لقاءات وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن مع الشباب في مصر أو قرب ميدان التحرير وفي الذكرى الثانية عشرة لثورة يناير، إلا أنها تبقى بلا مضمون ولا تداعيات تتجاوز الكلمات التي قيلت فيها والصور التي اُلتقطت بها. فعلاقة الدولة المصرية الاستراتيجية يحددها عسكريو البلدين لا المدنيين، لخصوصية هذه العلاقة.
عندما وصل الوزير الأمريكي إلى مصر في بداية جولته بالمنطقة لإطفاء الحرائق، كانت جولة الرئيس السيسي الآسيوية تمتد لتشمل في نهايتها وقفة، ربما لم تكن مخططة، في أرمينيا. ليصبح أول رئيس مصري يزورها، بعد زيارته الأهم للهند ثم أذربيجان. بالتالي، كان على الوزير أن يشغل نفسه حتى عودة مضيفيه، بمقابلتين أخذتا بسبب التوقيت والرمزية أكثر مما تستحقان من حيث المضمون.
لم يكن من السهل قبل الأزمة الاقتصادية الطاحنة بمصر أن يجتمع بسهولة وزير الخارجية الأمريكية بالشباب والمدافعين عن حقوق الإنسان دون احتجاج أو رفض من حيث المبدأ، وفي غياب نظيره الوزير، ومع غياب الرئيس.
الاجتماع الأول يوم الأحد الماضي كان لنصف ساعة فقط، لم يتجاوزها، مع مجموعة شباب مهنيين وغير مسيسين بمقر الجامعة الأمريكية المهجور في التحرير.
أما الثاني فكان لثلاثة أرباع الساعة بمنزل السفير الأمريكي مع أربعة من المدافعين عن حقوق الإنسان. وكما نقلت المنصة تحدثوا هم أغلب الوقت، بينما استمع الوزير لمطالب الإفراج عن المزيد من السجناء السياسيين وتقييم مسيرة الحوار الوطني وتنفيذ استراتيجية حقوق الإنسان التي أعلنتها الحكومة.
أشار بلينكن في مؤتمره الصحفي مع وزير الخارجية المصري إلى بعض هذه العناوين، لكنها لم تكن الأهم في تصريحاته ونظيره سامح شكري، الذي اجتمع به أيضًا في جلسة أخرى تصدرها الرئيس المصري.
موقعك يحدد موقفك
يقولون في السياسة البيروقراطية الأمريكية where you sit is where you stand، أي حيث تجلس في أي موقع أو منصب يتحدد موقفك من أي قضية، مع أو ضد.
وطبقًا للبروتوكول، حين يجتمع وزير الخارجية الأمريكي فهو لا يجلس على طاولة أو بقاعة اجتماع أمام الرئيس، بل أمام نظيره وزير الخارجية المصري، بينما يتصدر الرئيس الجلسة على رأسها وعلى يمينه ضيفه الوزير الأمريكي.
حتى حين زار بلينكن الرئيس المصري بفندق إقامته بواشنطن، خلال زيارة الرئيس الأخيرة لحضور القمة الأمريكية الإفريقية، التزم الوزير الأمريكي بالجلوس على الجانب، في مواجهة نظيره سامح شكري. بالطبع لم يذهب الرئيس المصري إلى مقر وزارة الخارجية الأمريكية.
لكن اللافت للنظر، والدال على اختلاف طبيعة العلاقة الأمريكية المصرية وخصوصيتها، كيف جلس الرئيس السيسي حين اجتمع بوزير الدفاع الأمريكي.
في إطار الزيارة نفسها لواشنطن في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، ذهب الرئيس السيسي بنفسه إلى مبنى البنتاجون مقر وزارة الدفاع، للاجتماع مع الوزير الأمريكي، الجنرال السابق، لويد أوستن. وجلس على طاولة واحدة أمامه يحيط بكل منهما على جانبيه مساعدوه. كان المساعدون في حالة السيسي وزير الخارجية ومدير المخابرات ورئيس الديوان الرئاسي والسفير المصري.
ليس المهم تصريحات ومقابلات وزير الخارجية الأمريكي بقدر تقديرات الموقف التي يقدمها العسكريون الأمريكيون للرئيس واتصالاتهم
أما باقي رؤساء الدول الإفريقية الذين اجتمع ببعضهم وزير الدفاع الأمريكي، فقد ذهب إليهم أوستن فندقهم أو مقر القمة، شأنه شأن وزير الخارجية بلينكن.
أمريكا مجتمع يحكمه مدنيون
يقوم النظام السياسي الأمريكي على سيطرة المدنيين على العسكريين حتى في وزارة الدفاع، كثيرًا ما جاء على رأسها محامون ومشرعون سابقون وغيرهم. أما أعلى العسكريين فهو رئيس الأركان المشتركة.
وحتى لو تولى عسكري سابق منصبًا سياسيًا مثل وزير الدفاع أو رئيس الجمهورية، فيتعين أن تمر على تركه الخدمة أو التقاعد منها سبع سنوات في الحياة المدنية، مع وجود استثناءات بتخفيضها لخمس سنوات بموافقة البرلمان في كل حالة، مثلما حدث مع الوزير الحالي الجنرال أوستن، وقبله الجنرال جيمس ماتيس في عهد ترامب.
وحتى الرؤساء الأمريكيون الذين اشتهروا بلقب الجنرال، مثل الرئيس الأول الجنرال جورج واشنطن، فقد تقاعد بعد الفوز بحرب الاستقلال ومرت سنوات عديدة قبل استدعائه طالبين منه الترشح لأول انتخابات رئاسية. وكذلك الجنرال آيزنهاور قائد الحلفاء بالحرب العالمية الثانية، تقاعد ودخل السلك المدني كرئيس لجامعة كولومبيا المرموقة، قبل أن يخوض الانتخابات الرئاسية.
خصوصية العلاقة العسكرية بمصر
حين يرفع الأمريكيون أو زعماء الديمقراطيات الغربية مبدأ "المصلحة العليا" لدولهم عند اتخاذ قرار سياسي يفعلون ذلك عند التعامل مع الدول الأخرى، وليس مع مواطنيهم أو مؤسساتهم في الداخل. فالسياسة الداخلية ينظمها القانون والدستور في العلاقة بين الحاكم والمحكوم.
بالتالي، ضحت أمريكا بأنظمة ديمقراطية لصالح أخرى استبدادية أو عسكرية حسب معيار خدمة هذه الأنظمة للمصلحة الأمريكية التي يستفيد منها المواطن أو الناخب الأمريكي وليس الأجنبي، سواء بالحصول على بترول أو مواد خام بأسعار أقل، أو لتقديم لضمان أمن حلفائها خصوصًا لو كانوا مؤثرين على توجهات الناخب داخليًا، كما هو الحال مع إسرائيل.
ومنذ معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، أصبح الحفاظ على هذا السلام هو الأولوية القصوى في العلاقات الأمريكية المصرية. كما أن الحفاظ على الاستقرار، بمعنى إبقاء الوضع القائم للأنظمة "الصديقة" لأمريكا، يعطي أفضلية لأي رئيس أمريكي لا يريد تغييرات تؤثر سلبًا على فرص إعادة انتخابه، أو فرص مرشحي حزبه في الرئاسة أو الكونجرس.
بالتالي، لا يسعى أي رئيس منتخب لتغيير أنظمة الدول الصديقة، إلا إذا انفجر الوضع عندها، فيضطر أن يختار بين بدائل صعبة لم يسعَ إليها.
أوباما وقناته لتنحية مبارك
كان أنتوني بلينكن مستشار الأمن القومي لجو بايدن نائب الرئيس أوباما وقت ثورة يناير، وكان من بين الشباب في فريق الأمن القومي الذين مال أوباما لرأيهم بضرورة رحيل مبارك وقتها، خلاف نصائح الأكبر سنًا ببقائه مثل بايدن وهيلاري كلينتون!
يوضح باراك أوباما في مذكراته بعنوان "أرض موعودة" أن العلاقة الأمريكية بمصر ومدها بمليارات الدولارات من المعونة العسكرية وغيرها من قنوات، سمحت بضمان الحفاظ على الاستقرار مع اتخاذ قرار بتفضيل رحيل مبارك، بينما لا يمكن اتخاذ قرار بهذه السهولة مع دولة مثل روسيا أو الصين.
بالتالي، كان التنسيق الأهم وقتها لإزاحة مبارك وعدم قبول فتح النار على المتظاهرين ليس من خلال وزارة الخارجية الأمريكية بل وزارة الدفاع، أي البنتاجون، مع المجلس العسكري.
ويعترف أوباما أنه عكس الوضع في مصر، لم يتمكن من الحيلولة دون تدخل السعودية والإمارات لقمع انتفاضة البحرين ضمن الربيع العربي، خوفًا من الخطر الإيراني ولأهمية الخليج وبتروله.
لكن أوباما لم يتدخل ضد ما اعتبره الإعلام الأمريكي انقلابًا عسكريًا بعد ذلك في مصر عام 2013 لأن العسكريين وجدوا ذلك أفضل لمصالح أمريكا، سواء مع إسرائيل أو الخليج المضاد للثورة.
لذلك ليس المهم تصريحات ومقابلات وزير الخارجية الأمريكي بقدر تقديرات الموقف التي يقدمها العسكريون الأمريكيون للرئيس واتصالاتهم، إن بقي منها شيء مستقل، لاتخاذ قرار عند مواجهة أي أزمة بمصر. وبدون وجود أزمة، كتلك التي واجهها أوباما بمظاهرات يناير التي ظل أسبوعين يناقش البدائل المتاحة فيها، فلن يجدَّ جديد، حتى وإن اجتمع بلينكن مع شباب أو ناشطين في مصر.