توجهت إلى الولايات المتحدة نهاية العام 2002 مراسلًا للأهرام في واشنطن، مشحونًا بتراث طويل من معاداة "الإمبريالية الأمريكية" في إطار نشأتي في أوساط ناصرية ويسارية. وطوال سنوات الجامعة، كانت المظاهرات الطلابية التي شاركت فيها تبدأ وتنتهي بالهجوم على السياسة الرسمية لأمريكا، رغم أنني كنت طالبًا في الجامعة الأمريكية في القاهرة.
وزاد من معاناتي أن فترة بدء عملي في واشنطن تزامنت مع استعداد إدارة الرئيس السابق جورج دبليو بوش لغزو واحتلال العراق، بعد احتلال أفغانستان عقابًا لها على استضافة أسامة بن لادن، الذي تبني وتنظيمه القاعدة مسؤولية هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن التي قتلت 3 آلاف أمريكي.
لكن مع مرور الوقت، لفت انتباهي كيف كان قادة دول العالم يتنافسون على زيارة واشنطن والسعي الحثيث لاستقبالهم رسميًا في البيت الأبيض وفي وزارة الخارجية، بما في ذلك قادة الدول التي تحمل شعوبها الكم الأكبر من مشاعر العداء والغضب تجاه أمريكا.
وكان أكثر ما يهم رؤساء تلك الدول هو أن يتلقى منافسوهم المحليون والإقليميون رسالة مفادها أنهم يحظون بدعم واعتراف الدولة الأكبر والأكثر ثراءً في العالم، التي يعتبر الحفاظ بعلاقة جيدة معها شرطًا مسبقًا لاستمرار بقائهم في مناصبهم، ومدخلًا للحصول على المزايا الأخرى من القروض والمساعدات الدولية وشراء الأسلحة والتسهيلات التجارية.
لقاء الـ45 دقيقة
تذكرت تلك الحقبة من حياتي، وأنا في طريقي الأسبوع الماضي لمقابلة وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن في مقر السفارة الأمريكية في القاهرة بصحبة ثلاثة من الأصدقاء الناشطين في مجال حقوق الإنسان.
استمر اللقاء نحو 45 دقيقة بحضور عدد من كبار مساعدي بلينكن، والسفير الأمريكي لدى مصر. والغرض هنا ليس كشف ما نُسمّيه صحفيًا بـ "كواليس اللقاء". إنما لفت انتباهي ردود الفعل والتصورات عمّا دار في اللقاء، والتي كشفت عن تخبط شديد في رؤية العلاقة مع الولايات المتحدة رغم مرور 44 عامًا على إقامة ما يوصف بالتحالف الاستراتيجي بين البلدين. كذلك التساؤل حول حق المعارضين في لقاء الجهات المعنية بالشأن المصري لشرح وجهة نظرهم، تمامًا كما تقوم الحكومة بالدفاع عن سياساتها في مختلف المحافل الدولية.
"ما الوعود التي قدمها لكم الوزير الأمريكي؟"، "ما الطلبات التي تقدمتم بها للوزير؟"، "هل أطلعكم بلينكن على موعد الإفراج عن علاء عبد الفتاح؟"، "هل تم التنسيق المسبق مع السلطات المصرية لحضور اللقاء؟"، "ما ردكم على من يتهمونكم بالإستقواء بالخارج؟"، و"كيف تقبلون لقاء الوزير الأمريكي في الوقت الذي تنحاز فيه واشنطن بوضوح للموقف الإسرائيلي في التصعيد الخطير الذي تشهده مؤخرًا القدس والضفة الغربية المحتلتين والقتل شبه اليومي للفلسطينيين؟".
كانت هذه معظم الأسئلة التي تلقيتها بعد حضور اللقاء.
التهمة التقليدية بالاستقواء بالخارج مضحكة، فمصر ليست ملكًا للحكومة ومن حق المعارضين أن يعبروا عن مواقفهم
لم نتلقَّ وعودًا من بلينكن، كما لم نتقدم له بمطالب، ولم يُطلعنا على تفاصيل دقيقة بشأن ما يدور في الاتصالات الرسمية مع الحكومة المصرية. والمطلعون على طبيعة العمل الدبلوماسي يعرفون جيدًا أن وزيرًا أمريكيًا يزور مصر لن يضع مواقف بلاده في إطار مطالب وشروط، إنما في سياق دبلوماسي منمق يعكس التوازن الدقيق بين رغبتها في الحفاظ على العلاقة الرسمية مع مصر، وفي الوقت نفسه طرح ملفات ومواقف قد لا ترضى عنها الحكومة المصرية، وعلى رأسها بالطبع ملف حقوق الإنسان.
اللقاء مع نشطاء في مجال حقوق الإنسان، وكذلك كاتب المقال بصفته صحفيًا وسياسيًا معارضًا من ضمن المشاركين في الترتيب لإطلاق الحوار الوطني بعد تجربة صعبة من الحبس الاحتياطي لمدة 19 شهرًا، كان رسالة في حد ذاتها من الطرف الأمريكي للحكومة المصرية مفادها أن إدارة الرئيس الديمقراطي بايدن ستبقى مهتمة بملف حقوق الإنسان، رغم القضايا الإقليمية الأخرى التي تستوجب التنسيق بين الحليفين سواء في المجالات الثنائية، مثل التعاون الاقتصادي والعسكري، أو الإقليمية كما هو الحال في فلسطين وليبيا والسودان.
ولم تنقص الوزير الأمريكي معلومات عن الوضع الداخلي في مصر. إذ توفرها له يوميًا السفارة الأمريكية، وأجهزة أخرى تتعامل مع ملف العلاقات المتشعبة مع مصر.
وتقول الإدارة الحالية، إن ملف حقوق الإنسان يأتي ضمن أولويات السياسة الخارجية الأمريكية في العلاقة مع مختلف دول العالم، وليس مصر فقط. وهو الأمر الذي قد تقبله القاهرة على مضض، مفضلة زمن التعامل مع إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، التي رفعت شعار "أمريكا أولًا" وحماية مصالح بلاده بغض النظر عن سجل الدول الحقوقي.
ولم تكتف الإدارة الأمريكية الحالية بالتعبير العلني فقط عن عدم الرضا عن سجل مصر الحقوقي، لكنها أقدمت على اقتطاع جزء صغير من المعونة العسكرية السنوية لمصر لعامين متتالين، لتأكيد رغبتها رؤية تحسن حقيقي في الملف من خلال خطوات ملموسة وعملية.
ولا تتحكم الخارجية الأمريكية سوى في مبلغ 300 مليون دولار فقط من بين مليار و300 مليون تتلقاها مصر سنويًا كمعونة عسكرية منذ توقيع اتفاقية السلام المصرية مع إسرائيل عام 1979. وتُقدم توصية للكونجرس بقبول صرف ذلك الجزء من عدمه بناء على تحسين أوضاع حقوق الإنسان في مصر.
قال الوزير الأمريكي إنه جاء أساسًا للقائنا بغرض الاستماع لوجهة نظرنا في مجال الحقوق والحريات، وتقييمنا لفرص وأهداف الحوار الوطني، والاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان، وأخيرًا ردود الأفعال على قرض صندوق الدولي الأخير، بشروط قاسية ومراجعة دورية مرة كل ستة شهور، لمدى الالتزام ببرنامج الاصلاح المتفق عليه بين الطرفين، بما في ذلك بيع الشركات المملوكة للدولة.
ما أخبرْنا به الوزير
وما قلناه في الجلسة المغلقة، التي لم تكن المشاركة فيها تستوجب أي موافقة مسبقة من السلطات المحلية، هو ما نقوله في اللقاءات التي تعقد مع الجهة الداعية للحوار الوطني. وخلاصته أننا نقدِّر الدعوة للحوار والتوجه نحو إصلاح سياسي، لكنَّ ذلك يتطلب خطوات عملية تؤكد تلك النية بعد السنوات الصعبة الماضية، التي لم يُسمح فيها بالتعبير عن أي مواقف معارضة، وهُدد أصحابها بالسجن وتجميد الأرصدة والمنع من السفر.
كما وجدت أنه من الضروري أن أنقل للوزير الأمريكي استياء غالبية المصريين من الانحياز الأمريكي الفاضح لإسرائيل وقتل الفلسطينيين يوميًا تقريبًا بدم بارد، وإن استمرار تلك المواقف سينهي أي مصداقية للولايات المتحدة عندما تتحدث عن الاهتمام بملف حقوق الإنسان. فحياة الفلسطينيين مهمة، كما هي حياة الإسرائيليين.
ليس من الصعب أن تتخذ الأجهزة الأمنية قرارًا بالتوقف عن ملاحقة المعارضين وإخلاء سبيل المئات ممن قضوا سنوات رهن الحبس الاحتياطي
أما التهمة التقليدية بالسعي للاستقواء بالخارج فأجدها مضحكة، فمصر ليست ملكًا للحكومة فقط، ومن حق المعارضين أن يعبروا عن مواقفهم لكافة الأطراف المهتمة بالاستماع، بما في ذلك الولايات المتحدة التي تربطها بمصر علاقات متشابكة.
وكل من يتعاملون مع الحكومات الأمريكية المتعاقبة يعلمون أن هناك حدودًا لما يمكن أن يقدموه من دعم في ملف حقوق الإنسان، والذي يبقى همًا داخليًا في الأساس قبل أن يكون أمريكيًا أو أوروبيًا. قد تسعى واشنطن لاستخدام الملف للضغط على الحكومات للحصول على تنازلات في مجالات سياسية أو اقتصادية أخرى، لكن الوعي بذلك لا ينفي وجود مشاكل حقيقية بشأن والحريات.
ليس من الصعب أن تتخذ الأجهزة الأمنية قرارًا بالتوقف عن ملاحقة المعارضين بسبب آراء يكتبونها على السوشيال ميديا، وإخلاء سبيل المئات ممن قضوا سنوات رهن الحبس الاحتياطي، أو تلقوا أحكامًا من محاكم استثنائية ألغيت مؤخرًا بعد وقف العمل بقانون الطوارئ.
ومن الممكن بسهولة رفع الحجب عن مئات المواقع المحلية والعربية والدولية، وتخفيف القيود على وسائل الإعلام العامة والخاصة، والتوقف عن التعامل معها على أنها مجرد أداة للدعاية بدلًا من نقل الهموم الحقيقية للمواطنين.
ولن يتوقف المهتمون بملف حقوق الإنسان والمعارضون في مصر عن المطالبة بتعديل قانون الحبس الاحتياطي الذي تحول عمليًا إلى وسيلة لإرهاب المعارضين وحبسهم لسنوات طويلة دون محاكمة، وكذلك تعديل قانون الانتخابات لكي تتاح ولو فرصة ضئيلة للمنافسة بدلًا من تحديد النتيجة مسبقًا.
هذه ليست مطالب صعبة ولا مستحيلة، ومستمدة من الدستور والقانون المصريين، وتخدم مصالح المصريين أولًا، وبغض النظر عن المواقف الأمريكية والتصريحات الدبلوماسية لبلينكن.