أكثر ما يثير الإحباط في مشروع قانون الإجراءات الجنائية الجديد، الذي قالت اللجنة التشريعية في مجلس النواب إنها تعمل على إعداده منذ عامين، أنه يتناقض بشكل كامل مع كل التصريحات الرسمية التي صدرت منذ انطلاق دعوة الحوار الوطني بشأن التوجه نحو عملية إصلاح سياسي حقيقية تنهي حقبة السنوات العشر التي لم تُشكّل فيها الديمقراطية وحقوق الإنسان أولويةً.
بل إن التمسك بالصياغة الحالية لمشروع القانون، ومواصلة اللجنة التشريعية موجات الهجوم والتهديد والوعيد التي تشنها ضد معارضي القانون، وكأنها تحولت من جهة تشريعية تناقش قانونًا تتحمل نصوصه الصواب والخطأ، إلى جهاز أمني، سيكون إعلان النهاية لمسار الحوار الوطني بأكمله، والأمل في تحقيق الحد الأدنى من الإصلاح السياسي، قبل عام من الانتخابات البرلمانية المقبلة.
فبدلًا من أن يسعى مشروع القانون إلى ترسيخ الحقوق والحريات التي ضَمَنَها دستور 2014 للمواطنين، والتي جُمِّدت بحجج مواجهة الإرهاب وأولوية الإصلاح الاقتصادي، نجد العديد من مواد المشروع تُهدر عمليًا ما بقي من حقوق قليلة للمصريين، ما أثار اعتراض العديد من النقابات المهنية التي يمسها مشروع القانون بشكل مباشر، وعلى رأسها المحامين والصحفيين، ليتأكد مجددًا أننا نُصدِر الدساتير لنضعها على الرف ونتباهى بها.
بعض المواد التي اقترحتها اللجنة في مشروع القانون الأصلي كانت تحرم المتهم من حقه في حضور محاميه، وتزيد من القيود المفروضة على حق الصحفيين في نقل جلسات المحاكمات للرأي العام، وتُعرِّض المحامين لعقوبة الحبس أثناء أداء مهمتهم في الدفاع عن المتهمين. أي أن هناك نية مبيتة ومتعمدة لشرعنة العصف بحقوق المواطنين، بدلًا من تحقيق ما وعد به الداعون للحوار الوطني من إصلاح سياسي وفتح المجال العام أمام الأحزاب ووسائل الإعلام والمنظمات غير الحكومية والنقابات.
كما أن الطريقة التي خرج بها مشروع القانون، ومحاولة إلصاق التعديلات التي وردت به بمسار الحوار الوطني، تؤكد سوء نية الجهة التي دفعت لإصدار هذا القانون من برلمان يعلم القاصي والداني كيف يعمل، وكيف تُمرَّر القوانين من خلاله، في ظل تركيبته الحالية والأحزاب الموالية التي تسيطر على الغالبية الكاسحة من مقاعده.
فقبل شهرين، قررت الجهة التي تدير الحوار الوطني وبعد طول انتظار عقد جلسات عمل مغلقة لمناقشة التعديلات المطلوبة على عدد محدود جدًا من مواد قانون الإجراءات الجنائية، تلك المرتبطة بالحبس الاحتياطي الذي جرى التوسع في استخدامه في السنوات الأخيرة ضد المعارضين السياسيين، ليتحول إلى عقوبة بحد ذاته، مع حرمان المتهمين من حقهم في المحاكمات العادلة والناجزة كما ينص الدستور. ورفع مجلس أمناء الحوار توصياته في هذا الصدد إلى رئيس الجمهورية، الذي رحَّب بها وأحالها للحكومة لترسلها إلى البرلمان لمناقشتها.
لم نرَ حزبًا من أحزاب الموالاة في البرلمان يتبنى موقف اللجنة التشريعية الشرسة
ولكن قبل الكشف عن مضمون توصيات الحوار الوطني، أو إجراء أي نقاش موسع بشأنها داخل البرلمان أو خارجه، كانت اللجنة التشريعية تعلن انتهاءها من إعداد مشروع قانون جديد للإجراءات الجنائية.
وحتى المواد الخاصة بالحبس الاحتياطي في المشروع الجديد، جاءت تجميلية ورمزية واقتصرت على تخفيض مدة الحبس في الجنح إلى أربعة شهور بدلًا من ستة، وفي الجنايات إلى 12 شهرًا بدلًا من 16، وفي تهم الإرهاب التي تصل عقوبتها إلى الأشغال الشاقة أو الإعدام إلى 18 شهرًا بدلًا من عامين.
لم تتضمن التعديلات أحد التوصيات المهمة التي أجمع عليها المشاركون في جلسة الحوار الوطني، بضرورة النص على عدم جواز توجيه اتهامات جديدة للمحبوسين احتياطيًا بالفعل أثناء فترة حبسهم، ما يعرف بالتدوير. وبناء على ممارسة التدوير هذه، هناك من مضى على حبسهم الاحتياطي أربع وخمس وست سنوات من دون محاكمة، ينتقلون من قضية إلى أخرى بنفس الاتهامات، وحده رقم القضية الذي يختلف.
كما أثار إعلان اللجنة أنها ستسعى للتصويت على مشروع القانون الجديد فور عودة البرلمان للانعقاد منتصف الشهر المقبل، في آخر دورة له قبل إجراء الانتخابات التشريعية نهاية 2025، الكثير من التساؤلات حول سبب هذا التعجل المفاجئ لاستبدال قانون يُعمل به منذ خمسينيات القرن الماضي.
ولكن أكثر ما أثار الاستغراب والغضب، هو تلك الشراسة الظاهرة في بيانات اللجنة التشريعية، التي حاول مجلس النواب في بيانه الأسبوع الماضي تخفيف حدتها، والنأي بنفسه عن لغة التخوين والتهديد التي تضمنتها.
ففي تذكير بمقولة السادات الشهيرة بأن "الديمقراطية لها أنياب"، جاء بيان "لن نقف مكتوفي الأيدي" الذي أصدرته اللجنة في 10 سبتمبر/أيلول الجاري، وفيه أن "الحرية ليست حقًا مطلقًا دون ضوابط، وعندما تُستخدم للإضرار بمصلحة المجتمع وتسييس القضايا، يصبح من واجبنا التدخل لحمايته"، وأن "حرية الرأي لا تعني تشويه الحقائق بدعوى حرية التعبير"، لتنتهي إلى تهديد جموع المصريين بأنها "لن تقف مكتوفة الأيدي أمام ادعاءات مغرضة تهدف إلى إرباك الرأي العام وزعزعة الثقة في مؤسسات الدولة، حتى ولو صدرت من أناس يستترون خلف جدار حرية الرأي".
ومن المعروف أن نقابة الصحفيين والنقيب خالد البلشي كانا في مقدمة الجهات التي اعترضت على مواد القانون، في تذكير بدور النقابة التاريخي كقلعة للحريات. وما إن صدر بيان اللجنة التشريعية، حتى انتشرت بين الصحفيين نكات تحويل اسم مقر النقابة إلى "جدار الحرية"، ووصفوا أنفسهم ساخرين بـ"المتسترين".
ولكن السحر انقلب على الساحر، وبينما لم نرَ حزبًا من أحزاب الموالاة في البرلمان يتبنى موقف اللجنة التشريعية الشرسة، قبل أن يحاول البرلمان التنصل من هذا السلوك والخطاب، نال النقيب تضامنًا واسعًا من العديد من النقابات المهنية والشخصيات العامة.
يحسب للبلشي ونقابة الصحفيين أن الموقف من مشروع القانون لم يقتصر على المواد القليلة التي تمس الصحفيين بشكل مباشر، والتي أعلنت اللجنة التشريعية نفسها عن تعديل أحدها؛ المادة 267 الخاصة بتغطية المحاكمات، بل استمرت النقابة بالمشاركة مع أطراف عديدة أخرى في المطالبة بالتريث في طرح القانون للتصويت، وطرحه للنقاش، لأنه يمس حقوق وحريات المواطنين المصريين بأكملهم.
كان يكفينا ويزيد ما نحن فيه من همٍّ وانتكاسات متواصلة، تزيد الشكوك في جدية حديث النظام عن الإصلاح السياسي وفتح المجال العام، سواء باستمرار سياسات القبض على المعارضين والصحفيين، أو رفض الإفراج عن سجناء سياسيين طالت كثيرًا سنوات حبسهم.
لم يكن ينقصنا مشروع اللجنة التشريعية حامية حمى المجتمع، التي ستحدد لنا ضوابط الحرية لنتيقن أن هناك قرارًا صارمًا من جهة ما، بالاستمرار في التضييق على الحقوق والحريات، بغض النظر عن أي خطاب رسمي يعلن نية التقدم نحو إصلاح سياسي.