سيرة حياة طه حسين، بالنسبة لي سيرة عصامية مبهرة، كونها تبدأ من الصفر، من ذلك الصفر الوجودي والاجتماعي لتصل إلى مكانة استثنائية في تاريخ الفكر العربي. بالطبع كانت بدايات القرن زمنًا مفتوحًا، والموهبة موزعة بلا حساب داخل تلك "الأصفار الاجتماعية" التي كانت تعيش في القرى والنجوع بحثًا عن حياة أفضل.
الفقر والعمى والخجل والزهد، تلك الصفات التي شكلت نفسية الصبي، سيكون لها وجه آخر يدفعه دائمًا إلى تجاوز ذاته، وتحميلها بأكثر ما تستطيع تحمله، حتى يصل لزهرة الإرادة الكامنة في عمق وجوده وسط الصمت النبيل الذي فرضته عليه العاهة.
كان طه حسين يعرف في قرار نفسه أنه يملك هذه الزهرة، التي نمت بجوار "ينبوع الشقاء" الذي كونته العاهة، كما أسماه في كتابه الأيام.
النجاح مشوب بالإخفاق
داخل هذا الصفر الوجودي كانت فرص الحياة معدومة مثل تجربة الخَلق كما يصفها الفيلسوف الفرنسي برجسون في كتابه التطور الخالق. هناك احتمال واحد هو الذي نجح وسط العديد من احتمالات الفشل، لذا جاء النجاح مشوبًا بالإخفاق، ومشوبًا أيضًا بالمعجزة، وهو ما عايشه طه حسين.
ربما يكون ذلك أحد أسباب غروره وكبريائه الصلد، عندما ينظر لحياته من بعيد، لأنه كان يرى مكانًا آخر في نفسه، رغم الحواجز التي كانت تحول بينه وبين أن يعيش كإنسان عادي.
بني طه حسين مشروعه الفكري على "الشقاء" الذي كان يعانيه، كانت كل الظروف تفرض عليه هو وغيره ألا يكون لهم شخصية، أن يظلوا أصفارًا وجودية واجتماعية، تختفي وتذبل في صمت، ولكن من مقاومة تلك الظروف صنع طه حسين شخصية لها مشروع ذاتي سرعان ما تفتح و أصبح جماعيًا، لأن الجماعة بأحلامها وحكاياتها، كانت جزءًا من حياة هذه "الزهرة المتفتحة" التي أنقذته من مرارة الظروف والأيام.
طبق الشقاء المشترك
"كان جالسًا إلى العشاء بين إخوته وأبيه، وكانت أمه كعادتها تشرف على حفلة الطعام، ترشد الخادم وترشد أخواته اللائي كن يشاركن الخادم في القيام بما يحتاج إليه الطاعمون، وكان يأكل كما يأكل الناس، ولكن لأمر ما خطر له خاطر غريب! ما الذي يقع لو أنه أخذ اللُّقمة بكلتا يديه بدل أن يأخذها كعادته بيد واحدة؟ وما الذي يمنعه من هذه التجربة؟ لا شيء. وإذن فقد أخذ اللُّقمة بكلتا يديه وغمسها من الطبَق المشترك ثم رفعها إلى فمه؛ فأما إِخوته فأغرقوا في الضحك وأما أمه فأجهشت بالبكاء، وأما أبوه فقال في صوت هادئ حزين: ما هكذا تؤخذ اللقمة يا بُنَي... وأما هو فلم يعرف كيف قضى ليلته".
ذلك المشهد من الأيام الذي سيكون له تأثير واضح على حياة طه حسين، ربما هو نقطة التحول. كان المنظر مثيرًا للرثاء، وبداية القيد الذي سيفرضه على نفسه، وربما ربطه هذا المشهد بصاحبه ومعلمه أبو العلاء المعري، الذي عاش قبله بقرون خجل المشهد نفسه، عندما أكل عسلًا ولم يلحظ سقوطه على صدره، فنبهه أحد تلاميذه بذلك، فشعر بالحزن وحرَّم على نفسه أكل العسل، وبالطبع سيحرِّم الفتى على نفسه أن يأكل أمام الآخرين، يتجنب تناول الطعام أمام أي تجمع حتى وهو مسافر إلى أوروبا بعد ذلك، على ظهر الباخرة، أو أثناء إقامته مع الأسرة الفرنسية التي أقام معها، أو في أي فندق ينزل فيه، كان الطعام يُحمل إليه في الغرفة.
كانت أمه بعد تلك الواقعه تخلي له مكانًا يأكل فيه، بعيدًا عن أخوته الثلاثة عشر. وكان يقتصد في طعامه، حتى لا يخطئ. فقدَ طه حسين منذ البداية رمزية الطعام الاجتماعية كأحد رموز الحميمية المتبادلة مع الجماعة.
جزء كبير من كبرياءه كان سببه العلاقة المعقدة مع الخارج، بسبب كف البصر المبكر، وحرصه على ألا تهتز صورته.
الموهبة جزء من السجن
واقعة "الطبق المشترك" لم تكن الوحيدة، ولكنها ما يمكن أن تدوَّن وتدخل في سجل الأيام، ربما سبقتها عشرات الوقائع التي سببت له الخجل وأدت إلى بروز السجن النفسي الذي تخبط فيه صاحبنا وأبو العلاء معًا، حتى تحولت إلى أيقونة. ولكن بعد أن زال السجن وتحول إلى إرادة صافية، وتم تجاوزه، عندها أصبح من السهل على صاحبنا أن يكتب عنه.
إذا كان الظلام سجنًا فإنه يستتبعه سجن آخر وهو الخجل والخوف لأنك لا ترى موقعك وصورتك، بينما الآخرون يرونها. إن عبرته الموهبة وتشكلت به أصبحت جزءًا من السجن، والسجن جزء من الموهبة، والاثنان من علامات التحرر، وهنا المعجزة التي حقَّقها طه.
يكتب في الأيام، أنه بعد أن خطب قرينته، أخرجته من عادات كثيرة. وحدته وصمته، بعد التعرف على زوجته سوزان، لم يعد يعيشهما وحده. تقول ابنته أمينة في مقدمة كتاب معك، الذي كتبته سوزان بعد وفاته، إن أمها "شاركتْ على التغلب على عاهته، على أن يصير ما كانه، على أن يتناول الطعام على موائد الملوك، على أن يتلقَّى ضروب الثناء والتكريم في أوروبا، وفي الشرق".
سجون تحولت إلى نوافذ
هؤلاء الذين حملوا معهم سجونًا تحولت مع الزمن إلى نوافذ للآخرين، مثل تحويل التراب إلى ذهب، طه حسين واحد منهم، يحملون في تكوينهم ذلك السر الخيميائي. ربما لا يكون من كُتابي المفضلين، ولكنه يعيش داخل معجزة بأفكاره، بسجالاته، بتأثيره على الجامعة والحياة الثقافية في مصر والعالم العربي، بدخوله في مناطق شائكة وعدم انكساره.
ظلت كل تفاصيل صورته رموزًا، هذا الوجه الممصوص، والفم الذي ينحت داخله الكلام والمعنى بدقة بالغة، بجانب صوته الذي يأتي من مكان سحيق، لا يلوك ولا يصنع الكلام في فمه، بل في أعماقه، فيخرج الصوت ذو رنين مجلجل. صوت به سلطة ولكنه خارج أيضًا من الصفر، يعري ضعفه بدون تواضع.
لا شك أن التمثال الذي صنعه له عبد الهادي الوشاحي يجسد معجزة طه كأحد العرافين اليونانيين، بعينيه المجوفيتين كالعراف ترسياس في مأساة أوديب، الذي كان يرى بالبصيرة تحول المصائر من حوله.
هذا الجسد النحيل شديد الاستطالة الذي ميزه به الوشاحي، يدل على كبرياء رفيعة، فداخل هذه الاستطالة تم تضمين الزهد مع الكبرياء، وتلك الرأس المرفوعة لأعلى قليلًا كما يستقبل الكفيف عادة ذبذبات أصوات الآخرين، ليس وجهًا لوجه.
ربما يشي التمثال أن زيادات الجسم وترهلاته تذهب مع السعي للحقيقة، ويبقى الهيكل الصافي الذي يدل على الكينونة.
العصا البيضاء المُحبة
في نهاية الستينيات انتقل أبي للعمل في سوهاج. كانت هناك مكتبة لوالد جاري وزميلي في المدرسة، نقوم نحن زملاء ابنه، في أيام الصيف المملة، بمساعدته في تصنيفها. كانت مليئة بأمهات الكتب آنذاك، واقترح عليَّ أن أستعير كتابًا في نهاية يوم العمل. وقع نظري على غلاف جذاب مكتوب عليه المعذبون في الأرض، وتحته اسم طه حسين. حتى الآن لا أعرف محتوى ذلك الكتاب الذي كنت أسير به متباهيًا في شوارع سوهاج في تلك السن الصغيرة.
قابلتُ طه حسين مرة أخرى عبر آخرين. إذ تطوعت كقارئ للمكفوفين فترة من الزمن. كل واحد منهم كان نموذجًا مصغرًا منه، ربما لم يملكوا وعيه، ولكن هناك طريقًا فتحه لهم، فكان كل من أكمل الجامعة، لا بد وأن يكمل دراساته العليا، ولا تستبعد رغبته في التعيين في سلك التدريس، والسفر في بعثة للخارج.
أحدهم، وكنت أقرأ له في رحلة الماجستير، جاءته بعثة خارجية لدراسة الدكتوراة، وجاءني في أحد الأيام يطلب مني أن أكون مرافقًا له، ونقتسم معًا ما تمنحه له إدارة البعثة. سريعًا جال بخاطري ما حدث بين طه حسين وأخيه الذي رافقه في بدايات بعثته لفرنسا، وكيف تحولت العلاقة بينهما إلى قطيعة. شعرت بالضيق، أو ربما الإهانة من هذا الطلب، أن أتحول إلى "أم متفانية" تطبخ وتغسل وتقرأ وتذهب به للمكتبات.
رفضتُ رفضًا تامًا، وبدأتُ أرى موقف شقيق طه حسين وتركه له بغضب أقل، ولم أفكر في الناحية الأخرى حيث السفر في سن مبكرة للخارج وتحت ضمانة ما كان أملًا للشباب حينها في الثمانينيات. أيضًا تفهمت أن مثل تلك العلاقة لا يمكن أن تستمر إلا بعاطفة قوية تتسلل بين ثناياها، مهما بلغت درجة إيمانك بمساعدة الآخرين. لذا كانت سوزان هي "عصاه البيضاء" المُحبة بحق، كما أسماها أحد أقاربها، مستعظمًا تضحيتها، عندما سمع خبر زواجها من كفيف عربي ومسلم.
لا نحيا لنكون سعداء
كان هناك شيء ينغص عليه حياته، يسميه كما ذكرت سابقًا ينبوع الشقاء، يحمله داخله ويعلم أنه لن "يغيض" إلا بموته، لذا هو ملازم له، يتناساه أحيانًا، ولكن سرعان ما يظهر مرة أخرى، ليضعه أمام حقيقة أنه أعمى، ولا تحق له السعادة. حرب طه حسين كانت مع مجاز ذلك الينبوع، من دون مواراة، حتى ولو اتخذ أشكالًا أخرى.
في الصفحة الأولى من مذكرات معك لسوزان، تتذكر تلك الكلمة الخالدة التي قالها لها يومًا عن السعادة "إننا لا نحيا لنكون سعداء.
عندما قلتَ لي هذه الكلمات في عام 1934 أصابني الذهول، لكنني أدرك الآن ماذا كنت تعني، وأعرف أنَّه عندما يكون شأنُ المرء شأنَ طه، فإنَّه لا يعيش ليكون سعيدًا وإنما لأداءِ ما طِلب منه. لقد كنا على حافة اليأس، ورحت أفكر: لا، إننا لا نحيا لنكون سعداء، ولا حتى لنجعل الآخرين سعداء. لكني كنت على خطأ؛ فلقد منحت الفرح، وبذلت ما في نفسك من الشجاعة والإيمان والأمل. كنت تعرف تمامًا أنَّه لا وجود لهذه السعادة على الأرض، وأنَّك أساسًا، بما تمتاز به من زهد النفوس العظيمة، لم تكن تبحث عنها، فهل يُحظر عليَّ الأمل بأن تكون هذه السعادة قد مُنحت لك الآن؟"