في العام الماضي، وفي لفتة نادرة لنا أن نفخر بها، احتفل جوجل بذكرى ميلاد الكاتبة والناقدة والأستاذة الجامعية وإحدى أكثر المدافعات عن حرية وحقوق الشعب الفلسطيني تأثيرًا؛ رضوى عاشور، التي توفيت يوم 30 نوفمبر/ تشرين الثاني 2014.
ومع مرور الذكرى السادسة لرحيلها هذه الأيام، نتذكر سيرتها ومسيرتها الحافلة، ونتأمل- نحن القراء- الإرث الذي تركته للأجيال القادمة، وأظن أن كل أعمالها بلا استثناء صالحة للقراءة، الآن وفي المستقبل أيضا.
كانت رضوى عاشور قد حصلت على الماجستير من مصر عن أعمال لورانس داريل، وفي وقت مبكر حصلت على الدكتوراه من الولايات المتحدة عام 1975، وكان كتابها الأول الرحلة عن هذه التجربة تحديدًا.
ثم توالت أعمالها الروائية والقصصية التي وضعتها في المكانة التي تليق بها كواحدة من أكثر كتاب جيل الستينيات تأثيرًا، مثل خديجة وسوسن، وسراج، وأطياف، وقطعة من أوروبا، وفرج، والطنطورية، إلى جانب ثلاثيتها الروائية غرناطة عن ضياع الأندلس، فضلا عن سيرتها الذاتية في جزأين، صدر الأخير بعد رحيلها مباشرة، وقبل أن تنهيه بصفحات قليلة.
إلى جانب هذا وذاك، انخرطت رضوى في السلك الأكاديمي وأشرفت على عشرات وعشرات من رسائل الماجستير والدكتوراه في الأدب الإنجليزي في كلية الآداب جامعة عين شمس.
ويبقى منها أيضا الدور الذي لعبته في تأسيس لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، عقب إبرام معاهدة السلام بين مصر الرسمية وإسرائيل عام 1979، وهي اللجنة التي نجحت في عرقلة قطار التطبيع وحوّلت قضية التطبيع إلى قضية أخلاقية في المحل الأول. ويبقى منها أيضًا الدور الذي لعبته في حركة 9 مارس لاستقلال الجامعات، والمشكّلة من أساتذة الجامعات لردّ ومجابهة العدوان المتواصل الذي كان يشنّه نظام مبارك.
وهكذا سيبقى من رضوى عاشور الكثير والكثير.
السطور التالية مقاربة موجزة لسيرتها الذاتية أثقل من رضوى، التي أصدرتها دار الشروق.
في إحدى العمليات الجراحية التي أجريت لها في أمريكا، وقبل أن تفيق من تأثير البنج تماما، قال لها تميم البرغوثي ابنها وابن الشاعر مريد البرغوثي إن مبارك سقط، فلم تستطع إلا أن تبتسم، وهي التي عاشت مثل أغلب أبناء جيلها والأجيال التالية، تسعى من أجل أن ترى ذلك اليوم الجلل.
وبعد ما يقرب من خمسة أشهر أجرت خلالها أربع عمليات جراحية في الرأس، تعافت بل وتمكنت من العودة، والأكثر أهمية أنها نزلت ميدان التحرير مساء 26 مايو 2011 الذي كان بالمصادفة يوم ميلادها.
بين هذا وذاك تقدم عاشور سبيكة محكمة ومتماسكة، مضفرة برهافة نادرة لرحلة الانتصار على المرض وإلحاق الهزيمة به، دون أي افتعال لبطولة زائفة، ولآلام ولادة الثورة المصرية في طريق لم يكن خاليا يومًا من الدم ورصاص القناصة ودهس الحافلات، وهي أيضا، هذه السبيكة، تتضمن بقع ضوء متناثرة هنا وهناك، للبيت الكبير، بيت العائلة، والجامعة التي أمضت الكاتبة بين أروقتها ومقاعدها وفصولها ما يقرب من أربعة عقود طالبة ومعيدة وأستاذة.
أثقل من رضوى ليست السيرة الذاتية الأولى للكاتبة، فقبل ثلاثين عاما أصدرت الرحلة.. أيام طالبة مصرية في أمريكا، وهي سيرة للسنوات التي أمضتها في دراسة الدكتوراه في ثمانينيات القرن الماضي. ولا مقارنة بين هذه وتلك، فالرحلة مقصورة على تجربة محددة، بينما الأخيرة جدارية شاهقة، تحتل الثورة المصرية القسم الأعظم من صفحاتها، على الرغم من أنه لم يُقدّر للكاتبة أن تشهد اندلاعها، حيث كانت في الولايات المتحدة على موعد مع عدد من العمليات الجراحية في الرأس، لمحاصرة ورم خبيث كان قد انتشر بالفعل.
لم تختر الكاتبة أن يتخذ كتابها شكلا دائريا، حسبما قررت في نهاية هذه الفصول من السيرة الذاتية، فهناك ضرورات الواقع وما جرى بالفعل. وكل ما في الأمر أنها كانت تعاني منذ سنوات من ورم مزعج صغير خلف الأذن اليمنى، وعندما ينمو تستأصله بعمليات جراحية، ثم يعاود الظهور بعد عامين أو ثلاثة.
وأثناء الفحص الدوري، ظهرت شكوك حول طبيعة الورم، وهو ما استدعى ضرورة سفرها للولايات المتحدة حيث تبين أن الورم خبيث وانتشر بالفعل وفي مرحلة متقدمة، وعلى مدى الفصول الممتدة حتى الفصل العاشر، قدّمت تجربة فريدة، حيث تروي بالتفصيل كيف أجرت أربع عمليات جراحية دقيقة لاستئصال أجزاء من عظام الجمجمة وجزء من غشاء المخ.
وفي تناولها لتجربة المرض، لم تستغرق في آلام ومخاوف لا يمكن الاستهانة بها، كما لم تسرف في ذرف الدموع والسقوط في الكوابيس، بل تتأمل التجربة بثبات وتأن، دون استبعاد المخاوف المشروعة وليس الرعب.. فاللعب في الرأس يحمل كل الاحتمالات التي لم يدخر الأطباء والجراحون في أمريكا وسعا في إعلامها به.
لغة عاشور حاسمة وواضحة، لكنها ليست جهمة أو مكتئبة، والإيقاع يتسم بالهدوء، ربما للإفلات من تهديد الاحتمالات المطروحة، والسرد دافئ ولكنه يحتمي من المأساة بابتعاده عن الغنائية والعاطفية، لأن ما يجري من تفاصيل وأشعّات وتقارير أطباء لا يترك مجالا لتأويلات المجاز واللغة المثقلة.
أما بعد عودتها إلى مصر بعد الثورة بأربعة شهور، فإن سرعة الإيقاع تزداد بعد أن تم فك أسر الكاتبة، واللغة تتحرر وتدب فيها الحياة، ولأن مسكنها لا يفصله عن ميدان التحرير إلا أمتار قليلة، انخرطت واستغرقت في الاشتراك في المسيرات والتظاهرات، وكل ما كانت تفعله هو أن تدهن الجزء المجروح من الرأس بمرهم، وتعتمر قبعة كبيرة زيادة في الحرص، وتحمل علمًا تفوق ساريته طولها وتتوجه إلى الميدان.
شهدتْ وكتبت عن صبية الألتراس الصغار، وصعود أحمد الشحات فوق البناية التي تحتلها السفارة الإسرائيلية لإسقاط العلم، وبناء الجدران العازلة، ثم تغطيتها على الفور برسوم الجرافيتي، مذابح محمد محمود 1 و2، مجزرة ماسبيرو ومشرحة زينهم، هجوم قوات الأمن على المستشفيات الميدانية واعتدائها على الأطباء والمرضي على السواء، طارق معوض ومايكل كرارة حاملا العلم في الصفوف الأولى، مالك مصطفى الذي فقد إحدى عينيه على يد قناص في محمد محمود.
تشكل هذه الفصول بإيقاعها السريع اللاهث واحدة من جداريات الثورة الشاهقة، وإذا كان كثير من الكتاب والنقاد يرون ضرورة الابتعاد عن الأحداث الكبرى وقت وقوعها، والنأي الزمني والنفسي عنها لتأملها والنجاة من الانخراط العاطفي فيها، إذا كان الأمر كذلك، فإن مقاطع سيرة عاشور المتماسة مع أحداث الثورة، خَلَتْ من التورط العاطفي الساذج، والهتاف عالي الصوت، وكانت صادقة على نحو موجع من فرط ما أوردته من وقائع تتجاوز المجاز ذاته.
وأخيرا.. عنوان السيرة مستمد من مَثَل عربي قديم دلالة على الرسوخ، لأن جبل رضوى يتشكل من سلسلة من الجبال الممتدة إلى الشرق من ينبع، بها جداول ماء وشعاب وأودية ووعول وغزلان، بل إن بعض فرق الشيعة تعتقد أن الإمام الغائب محمد بن الحنفية مقيم في جبال رضوى حتى تقوم الساعة.
وهكذا فإن مقاطع السيرة هي سلسلة من الجبال وجداول المياه، سواء في رحلة إلحاق الهزيمة بالورم عبر منازلته، أو إلحاق الهزيمة بالنظام القديم ووارثيه، عبر تضحيات المصريين اللا محدودة والمستمرة.