مرّت الذكرى الثالثة لرحيل صلاح عيسى (1939– 2017) قبل أسابيع، ومما يلفت النظر أن الكثير من إنتاجه الفكري والتاريخي الثري لم يُنشر بعد، ويتضمن 16 كتابًا معدًا للنشر أو كان ينتظر أن يُلقي عليه النظرة الأخيرة، مثل الموت في تشريفة الحليف الوطني عن وقائع اغتيال المناضل الشيوعي شهدي عطية، وخرافة فرج الله الحلو وهو تحقيق وقراءة في وثائق التحقيق في قضية خطف وقتل وإتلاف جثة فرج الله الحلو سكرتير الحزب الشيوعي السوري اللبناني، واغتيال مصطفى خميس العامل في إضراب كفر الدوار، حيث وقعت أول مواجهة بين العمال والنظام الجديد بعد أسبوعين من قيام الضباط الأحرار بانقلابهم، ومذكرات عرابي باشا في ثلاثة مجلدات، ووثائق الحركة الشيوعية المصرية، التي انتهى صلاح بالفعل من إعداد مجلده الأول، وهكذا تكلم شكري مصطفى الذي زامله عيسى في السجن، ومجلد آخر منشور بالفعل على حلقات في مجلة 23 يوليو في لندن عام 1979عن العنف الجنائي والسياسي في الأربعينيات في مصر.
كل هذا الإنتاج ينتظر الصدور، ولم يُنشر منه إلا مذكرات فتوة في العام الماضي فقط، وكان قد نشره بالفعل على حلقات في جريدة القاهرة قبل رحيله.
باختصار كان الرجل شغّيلًا منتجًا متعدد الأدوار التي لعبها في السياسة والثقافة والصحافة المصرية طوال سنوات عمره الثماني والسبعين. بالطبع تداخلت تلك الأدوار وامتزجت معًا. كذلك فإن عنوان هذه السطور التي أكتبها عن الراحل الكبير: ثلاثة وجوه، لا تعني بطبيعة الحال ثلاثة أقنعة مثلًا، فقد امتزجت وتداخلت، ولم أوردها إلا لتنظيم الفوضى التي سبّبها هذا الرجل الذي ملأ الدنيا شُغلًا نافعًا ومؤثرًا في عموم البلاد.
الوجة الأول: المثقف الثوري
في أحد الاجتماعات التي عقدها جمال عبد الناصر عام 1969مع نايف حواتمة أمين الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين، انتهز الأخير فرصة ترحيب عبد الناصر به واتفاق وجهات النظر، وتمنى على ناصر أن يكرمه بتحقيق رجاء ليس شخصيًا. ابتسم ناصر وأجابه "أؤمر يا نايف"، فطلب منه الإفراج عن ثلاثة من المعتقلين وهم أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام وصلاح عيسى. تغيرت أسارير عبد الناصر وتجهم وهو يجيبه بحسم أن هؤلاء الثلاثة تحديدًا لن يُفرج عنهم طالما كان هو حيًا.
هذه الرواية وردت في مصادر عديدة من بينها صلاح عيسى نفسه ولم يكذّبها أحد. أما السبب المباشر لاعتقاله فكان بأمر عبد الناصر شخصيًا، حين وقّع في ذيل التقرير الذي قدّمه له علي صبري الأمين العام للاتحاد الاشتراكي، بشأن اللغط الذي أثاره نشاط صلاح عيسى بكلمتين فقط: يُفصل ويُعتقل.
لم يكن الأخير قد تجاوز الثامنة عشرة من عمره عندما تعرّض للاعتقال للمرة الأولى، بعد أن كتب دراسة طويلة نُشرت على ثلاث حلقات في مجلة الحرية البيروتية التي كان يعمل مراسلًا لها من القاهرة بعنوان ثورة يوليو بين المسير والمصير بمناسبة مرور أربعة عشر عامًا على قيامها، وداس من خلالها على حقل ألغام وتجاوز كل الحدود، عندما نفى مثلًا وجود مجموعة اشتراكية على قمة السلطة، أو جدّف حينما قال إن ما يُطبّق في مصر ليس اشتراكية علمية، كما دعا للعدول عن قرار حل المنظمات الشيوعية الذي كان قد صدر قبل سنتين.. وما إلى ذلك.
في ذلك الوقت كان صلاح قد انضم لـ تنظيم وحدة الشيوعيين، الذي بادر برفض حل المنظمات ومارس نشاطًا محدودًا، لكن مجرد رفض الحل وتأسيس التنظيم كان في حد ذاته تجاوزًا ينبغي قمعه على الفور. وحسبما يذكر صلاح عيسى في مجلده الضخم مثقفون وعسكر أن "وحدة الشيوعيين تمردت على قرارات الحل التي أصدرتها بقية التنظيمات والأحزاب الشيوعية في غضون عامي 1964 و1965، لكن مشاكل تنظيمية وفكرية سرعان ما خلقت لديها خلافات أدت لاستقالة عدد كبير من أعضائها، كنت من بينهم".
وحسبما يذكر أيضًا في الكتاب نفسه أنه قُبض عليه أثناء الحملة البوليسية الضخمة التي كان هدفها تطهير الاتحاد الاشتراكي ومنظمة شبابه ومعهده الدراسي، وكذلك اعتقال بعض مَن كانوا أعضاء في وحدة الشيوعيين وطليعة الشيوعيين. وفور القبض عليه بدأ الضرب بالفلكة والتعذيب المتواصل، بحثًا عن خيوط المؤامرة، خصوصًا وأن صلاح اعتاد التردد علي منظمة الشباب للحصول على أوراقها ونشراتها.
ومنذ تلك اللحظة لم يتوقف صلاح عيسى عن التردد على معتقلات وسجون العهود المختلفة: في أعوام 1968 و1975 و1977 وفي التجريدة الكبرى في سبتمبر 1981 في زنزانة واحدة مع فؤاد سراج الدين ومحمد عبد السلام الزيات، أما آخر الحبسات فكانت في منتصف الثمانينيات عندما شاركت إسرائيل في معرض القاهرة الدولي للكتب للمرة الأولى، وكان صلاح أحد الذين وزْعوا بيانًا أمام الجناح ضد التطبيع وضد اشتراك إسرائيل.
طوال تلك السنوات كان صلاح عيسى الشغّيل يعمل في الصحافة وكتابة التاريخ والتحليل السياسي، كما كان متابعًا دؤبًا لكل ما تنشره الصحافة السرية، (كان كاتب هذه السطور مثلًا مكلفًا بتوصيل أوراق المنظمة التي كان منتميًا لها لصلاح عيسى لعدة سنوات)، وكان واضحًا في مقالاته ودراساته درايته بالتحليلات السياسية المختلفة.
ومع كل ذلك فإن النهاية لم تكن متسقة مع كل ماسبق. لا أقصد بالطبع المزايدة أو الاتهام بالمهادنة والاستسلام. أظن أن التحول الأخير له، جاء بعد أن ترأس تحرير جريدة القاهرة الصادرة عن وزارة الثقافة، كان يعكس اختياره الأخير بإمكانية العمل من داخل النظام وإصلاح مايمكن إصلاحه بعد عقود من الشغب وإثارة العواصف وتولي عشرات المسؤوليات والنضال المتواصل والصدامي على جبهات مختلفة. بعبارة أخرى كان الاختيار الأخير هو استراحة محارب على نحو من الأنحاء.
بالنسبة لي شعرت بالأذى الشخصي وحزنت عندما رأيت صلاح بين عدد محدود ممن كانوا يسمون بالمفكرين وكبار الكتاب يحضرون مقابلة مع مبارك، قبل أن تطيح به ثورة يناير في ظهور يكاد يكون الأخير له، وفي محاولة لإثبات أن الأخير مازال حيًا، وردًا على شائعات كانت قد ترددت بقوة حول سلامته العقلية، بينما تمكن مثلًا ابراهيم أصلان الذي كانت قد وجّهت له الدعوة نفسها من الإفلات، فقد كان يُمضي أجازة صيفية قصيرة.
الوجه الثاني: كبير من أسطوات الصحافة
صلاح عيسى واحد من عاشقي الصحافة بل والمدلهين بحبها، ويبدو تأثره واضحًا بمقالات كبار الكتاب الصحافيين خلال الأربعينيات وأوائل الخمسينيات من القرن الماضي. تعددت الصحف والمجلات التي عمل فها وشارك في إدارة تحرير بعضها وترأس تحرير بعضها الآخر. عمل في الصحافة المعارضة والحكومية والمستقلة، المصرية والعربية، ونشر عددًا كبيرًا من كتبه على حلقات في الصحف السيارة.
عمل مثلا في الجمهورية لسنوات، وأصدر بالاشتراك مع فريد زهران عددين رائدين من مجلة الثقافة الوطنية المستقلة، وكان عضوًا في هيئة تحرير الكاتب، وأدار تحرير الأهالي ورأس تحرير سلسلة كتاب الأهالي، ومجلة اليسار، أما تجربته في جريدة الأهالي فهي واحدة من أهم تجارب الصحافة المعارضة، وكان من النادر أن تفلت أعدادها من المصادرة بسبب تجاوزها الدائم للسقف. تحتاج هذه التجربة تحديدًا لمعالجة مستقلة، فقد وضح من خلالها دور الصحافة كواحدة من الأدوات السياسية المؤثرة على نحو ربما لم يتكرر. أظن أن صلاحًا ابتدع لغة صحفية خاصة تتميز بخفة الدم والسخرية اللاذعة، واستحداث أبواب جديدة، والتزام مهني، واشتباك متواصل مع القضايا اليومية في الساحة السياسية.
كما عمل مراسلًا لعدد كبير من المجلات العربية، بل أنه أسس وكالة صحفية في تجربة نادرة. فعندما تعطل مثلًا بسبب فصله من جريدة الجمهورية، أسس وكالة الصحافة العربية التي كانت تكلّف المحررين بكتابة الموضوعات والتحقيقات والتقارير، و يقوم صلاح ومساعدوه بتدسيكها وتحريرها وإرسالها للصحف العربية وفق اتفاق خاص تم إبرامه سلفًا.
أما تجربته في جريدة القاهرة، فهي أيضًا تحتاج لمعالجة مستقلة. وكان قد ثار لغط وغبار شديد عند تأسيس القاهرة. مضمون اللغط يتعلق بالناقد الراحل رجاء النقاش الذي كان أول مَن فاتحهم فاروق حسني بشأن القاهرة، ثم فوجئ الوسط الثقافي بخروج النقاش من التجربة مبكرًا، واستبدال صلاح عيسى به، وتردد وقتها أن صلاح أزاح النقاش الذي كان قد دعاه أصلًا ليعمل معه مديرًا للتحرير. وفيما بعد تردد أنه كان هناك مشروعًا وتصورًا للقاهرة قدّمه النقاش لكن الوزير لم يوافق عليه، وطلب من صلاح مشروعًا آخر وافق عليه الوزير، وفضّل النقاش الانسحاب فتولى صلاح عيسى صاحب المشروع الذي وافق عليه الوزير.
على أي حال، كان على صلاح أن يكون مهنيًا إلى أقصى حد بحكم تاريخه الناصع الطويل في جريدة تتبع فاروق حسني وزير الثقافة شخصيًا وأحد سدنة نظام مبارك، لكن القاهرة شهدت على يد عيسى تنوعًا واختلافًا في وجهات النظر ومحاولة مخلصة للالتزام بالأصول المهنية، وتقديم صحافة ثقافية تسير على الأشواك حقًا.
الوجه الثالث: صاحب جداريات
وفق آخر ثبت ورد في كتابه مذكرات فتوة الذي صدر بعد رحيله، بلغ عدد أعماله المنشورة ثلاثة وعشرين كتابًا، وهي في الحقيقة ليست كتبًا بل جداريات كبرى وعلامات في الكتابة التاريخية. أقترح أن أسميها الطريقة الشعبية ولا أقول الشعبوية في تناول التاريخ. وباستثناء كتابيه الثورة العرابية، والبرجوازية المصرية وأسلوب المفاوضة، فقد اختط طريقًا آخر ليس أكاديميًا باختياره، لكنه عارف بالأصول الأكاديمية ويلجأ إليها بالفعل عندما يحتاج لها. أسقط التاريخ الأكاديمي والمدرسي من عليائه إذن، وحوّله إلى حكايات ومرويات.
أصدر صلاح كتابه رجال ريا وسكينة ضمن سلسلة كبرى اختار لها اسم حكايات من دفتر الوطن كعنوان عام، صدر منها بالفعل خمس جداريات، وأربعة لم يمهله العمر لينهيها، على الرغم من أن بعضها نشره بالفعل كحلقات في صحف ومجلات مختلفة. في هذا الكتاب الذي صدر في نحو 700 صفحة من القطع الكبير، يقدم لنا وثيقة وشهادة إدانة لعالم ما بعد الحرب العالمية الأولى، يختلط فيها السرد الروائي بالتوثيق التاريخي بالتحليل النفسي والتاريخ الاجتماعي، لتتحول تلك الحادثة الإجرامية إلى وثيقة شاملة ونادرة عن البشر والقوى السياسية والاحتلال الذي حوّل الإسكندرية إلى ماخور كبير ترتع فيه وتلعب جيوش الإمبراطورية البريطانية. الكاتب وقع على ملف القضية بالمصادفة أثناء بحثه في فهرس ملفات القضايا المودعة بالمركز القومي للبحوث عن قضية أول حزب شيوعي تأسس عام 1923 ، فعثر على ملف باسم الجناية نمرة 23 لسنة 1920 قسم شرطة اللبان المتهم فيها ريا بنت همام وسكينة بنت همام وآخرين.
هذا الملف كان يضم 2220 ورقة مكتوبة بلغة عصرها الديوانية غير المفهومة تقريبًا، عكف عليها الكاتب لتفسيرها، فضلًا عن المسح الشامل للصحافة التي تابعت القضية، وإعادة بناء أحياء وشوارع وحارات وأزقة الإسكندرية التي شهدت وقائع الجريمة، والعالم السفلي المسكوت عنه: عالم الدعارة والتفسخ والسرقة والرشوة وكافة أشكال البؤس الاجتماعي والفساد السياسي والاجتماعي. الكتاب أو الجدارية ليس عن الجريمة التي هزّت مصر فقط بل عن العصر بكامله.
من بين جدارياته التي أتوقف عندها، وجاءت في سلسلة حكايات من دفتر الوطن أيضًا، بعنوان البرنسيسة والأفندي عن وقائع زواج البرنسيسة فتحية شقيقة الملك فاروق من رياض أفندي غالي الموظف المسيحي البسيط الذي كان مجرد سكرتير ثالث في السفارة المصرية بباريس. ويتابع الكاتب الحكاية التي امتدت من أواخر أربعينيات القرن الماضي وحتى سبعينيات القرن نفسه عندما أطلق رياض غالي الرصاص على الأميرة في إحدى الولايات الأمريكية التي استقر بها مَن تبقى من الأسرة المالكة فقتلها، ثم أطلق النار على نفسه فأصيب إصابة أقعدته تمامًا.
وعلى مدى 635 صفحة من القطع الكبير وبطريقة توضيب خاصة تضم نهرين من الكتابة والصور النادرة والوثائق والهوامش، يستعيد القارئ عصرًا كاملًا وفصلًا طويلًا من فصول التاريخ المصري، يحلل من خلاله ملامح حقبة الأسرة العلوية. والنشر بهذه الطريقة التي ابتدعها الفنان أحمد اللباد، يشكل نصًا بصريًا آخر بحيث يشعر القارئ أنه لايقرأ نصًا مطبوعًا بل حياة تنبض وتتألق للعصر بكامله.
على هذا النحو يمضي في كتبه الأخرى: دستور في صندوق القمامة، ورجال مرج دابق، وأربعة وجوه لوعد باطل حول وعد بلفور، ومأساة مدام فهمي وهو تحقيق وتوثيق لجريمة قتل ارتكبتها في لندن عام 1923 مدام فهمي وهي غانية إنجليزية تزوجت من أمير مصري مزيف يدعى علي كامل فهمي بك، ومذكرات فتوةوغيرها.
ومن بين مشروعه يجب الالتفات إلى جداريتين أخريين الأولى مثقفون وعسكر، وشخصيات لها العجب، كلاهما يطرقان الحديد وهو ساخن، فقد كتبهما عيسى في خضم معارك صحفية وسياسية، مثل معركة مجلة الكاتب التي كان صلاح في هيئة تحريرها، وسعى جنرال الثقافة يوسف السباعي للتدخل الفظّ ومراقبة أعدادها التي كانت تصدر عن الوزارة التي يتولاها، ومثل معركة اتحاد الكتاب لفرض اتحاد موال للوزير. أما الكتاب الثاني فيضم أكبر مجموعة بورتريهات رسمها لشخصيات سياسية وأدبية وفنية من المعاصرين. الكتابان أو الجداريتان الأخيرتان تكتسبان أهمية خاصة، فهما مكتوبان في وقت وقوع الأحداث بالنسبة للكتاب الأول، بحيث يبدو كوثيقة حية، وبالنسبة للكتاب الثاني فكل شخصياته معاصرة من زماننا وكان صلاح قريبًا منها إلى هذا الحد أو ذاك، لذلك فهي تناولات حية وكان صلاح نفسه أحد أطراف العلاقة بالنسبة لكثير من الشخصيات التي قدّمها.
أخيرا أتمنى على السيدة الفاضلة أمينة النقاش زوجة صلاح أن تتصدى لمهمة أعرف أنها ليست سهلة أبدًا. وكانت قد تمكنت مشكورة بعد رحيله من نشر مجلده مذكرات فتوة، وطبعة ثانية من هوامش المقريزي بسبب نفاد نسخه، والحقيقة أن الكثير من كتبه نفدت نسخها على الرغم من تعدد طبعاتها. ولما كان الثبت الوارد في مذكرات فتوة يضم 16 كتابًا تحت الطبع، وقد ذكرت عناوين بعضها في أول هذا المقال، فإن الإسراع بطبعها أمر ملح وضروري، ومن المؤكد أن السيدة أمينة تدرك هذا جيدًا، وأتمنى عليها أن تبادر على الأقل بطباعة الكتب المنشورة بالفعل في صحف ومجلات ولم تُجمع في كتب.
أما صلاح فسيبقى حيًا بالنسبة للأجيال القادمة، فقد ترك لها إرثًا لن يبلوه الزمن.