عندما ينتهي الواحد من كتاب 11 يومًا مات بعدها عبد الناصر، للدكتور يسري هاشم الصادر عن دار المحروسة أخيرًا، من الصعب أن يستوعب أو يفهم مآلات الثورة الفلسطينية من انقسام وتشرذم وضعف وما يشبه الانفضاض، وأخيرًا هذا السباق المحموم من جانب النظم العربية للحاق بالتطبيع مع إسرائيل قبل أن يتحقق أي شيء، فالسلطة الفلسطينية ليست أكثر من سجين في قبضة إسرائيل، وكذلك غزة.
الكتاب بمجمله سردية كبري مفعمة بالشجن للحلم والصعود والإمساك بالقمر، ثم الانكسار والهزيمة والعودة للشتات مرة أخرى. أما الكاتب فهو الجراح المصري الدكتور يسري هاشم مواليد عام 1939، وأصرّ على أن يسجِّل التجربة وهو في هذه السن، تنفيذًا لوعد قطعه على نفسه أمام السيدة منى عبد الله زوجة "الحكيم" محجوب عمر بتسجيل التجربة، بعد أن فشلت محاولات أخرى جانبها الصدق والأمانة.
الكاتب أيضًا انتمى في صباه الباكر لتنظيم القوميين العرب السري، وكان من بين قياداته جورج حبش أمين، تنظيم الجبهة الشعبية الفلسطينية فيما بعد، وله فروع منتشرة في عدد من البلدان العربية منذ أوائل ستينيات القرن الماضي، وحسبما عبّر الدكتور هاشم أنه تنظيم "لا يختلف كثيرًا في أهدافه وشعاراته عما يتبناه عبد الناصر"، بل أن الأخير اعتمد على بعض قياداته في تشكيل التنظيم الطليعي (السري)، وهو حكاية أخرى لا تخلو من الكوميديا السوداء.
هو باختصار تنظيم سري يقوده عبد الناصر ورجاله بعد أن تحوّل التنظيم السياسي الوحيد آنذاك، الاتحاد الاشتراكي العربي، إلى سيرك منصوب يعج بالوصوليين والهتّيفة. واستمرارًا لتلك الكوميديا، فإن أعضاء تنظيم القوميين العرب توزعوا، في السر أيضًا، على ثلاث مجموعات يقودها كل من سامي شرف، وشعراوي جمعة، وعلي صبري. وتواصلت الكوميديا السوداء بالقبض على أغلبهم في تجريدة كبرى "لتطهير" الاتحاد الاشتراكي، تزامنت مع تجريدة أخرى لاعتقال من شاركوا في تأسيس تنظيم وحدة الشيوعيين السري. لم ينج من التجريدة الأولى سوى اثنين، كان الدكتور هاشم أحدهما بسبب نسيان الشاب الذي اعترف تحت التعذيب لاسميهما.
خرجت المجموعة الأولى من معتقلي القلعة في 15 مايو/ أيار عام 1967 فجأة وبلا أي إجراءات قانونية، وهو يوم إعلان الطوارئ قبل الهزيمة في حرب 1967. والغريب كما كتب الدكتور هاشم أن "معظم هؤلاء الشباب (المفرج عنهم) وأنا منهم قد تقدموا بطلبات تطوع لمساندة القوات المسلحة، وقد كُلّفت بالعمل بالقوات البحرية".
بعد انتهاء التكليف، لم تعد فكرة الانتماء السياسي تشغله، خصوصًا أن لطمة 1967 كانت بالغة القسوة والضراوة، وعاد لعمله طبيبًا في أحد المستشفيات، وبدأ في اتخاذ إجراءات للهجرة من مصر إلى البرازيل التي تصادف أن فتحت أبوابها آنذاك للأطباء، لكن اتحاد الأطباء العرب كان قد اتخذ قرارات بمساندة العمل الفدائي الفلسطيني، الأمل الوحيد الذي برق في ليل الهزيمة وانطلق من الأردن، صاحبة أطول حدود مشتركة مع إسرائيل، وذات الروابط التاريخية بالغة العمق مع الشعب الفلسطيني، كما كانت تتولى شؤون الضفة الغربية بعد هزيمة 1948.
من القاهرة إلى فلسطين
يتوقف الدكتور هاشم طويلًا عند علاقة الثورة الفلسطينية بالمتطوعين المصريين منذ الهزيمة، فقد تطوع الكثيرون منهم بالعمل سواء كأطباء أو أية مهن أخرى، وعملوا كجزء أصيل في الصفوف الأولى، وشاركوا في بعض العمليات ضد إسرائيل. كذلك يضيف أن هناك مساهمات رسمية للدولة آنذاك عبر أجهزة المخابرات المصرية، ويذكر أسماء محددة مثل نجيب جويفل الذي كان "أول من ساعد أبو عمار على تكوين وبناء جهاز المخابرات الفلسطيني، الذي عُرف أولا باسم وحدة الرصد، وأنه أثناء وجوده على رأس مكتب المخابرات المصرية في الأردن لعب أدوارًا كبرى في دفن المعلومات، وفي تدريب الكوادر وبناء الأجهزة وفي تمرير الأسلحة والذخائر"، حسبما ذكر سمير غطاس في تقديمه للكتاب، وكل من اللواء شاهين واللواء عبد السلام المحجوب.
مقابلة نادرة مع الكاتب والسياسي الفلسطيني غسان كنفاني، أجراها معه الصحفي الأسترالي ريتشارد كارلتون في بيروت 1970
بل أن خروج ياسر عرفات حيًا من مذابح أيلول الأسود، ووصوله للقاهرة للمشاركة في مؤتمر القمة العربية الذي دعا إليه عبد الناصر، لم يكن ليحدث إلا عبر عملية خاصة قامت بها المخابرات المصرية. وهنا يضيف سمير غطاس أيضًا أن "أبو جهاد" ذَكر له أن المحجوب تحديدًا كان يحمل صواريخ الكاتيوشا على كتفيه وينقلها إلى نهر الأردن، وكان يساعد دوريات الفدائيين على اجتياز نهر الأردن والموانع التي نصبتها إسرائيل على طول الحدود.
أما سردية الدكتور هاشم فهي واحدة من الصفحات الناصعة لتاريخنا الحديث وليس لتاريخ الفلسطينيين وحدهم، فشمس الثورة الفلسطينية سرعان ما أشرقت في أعقاب الهزيمة التي أصابت النظام العربي بكامله في مقتل، وهي هزيمة مذلة جرى خلالها احتلال أراضٍ تشكّل ما يقرب من ضعف مساحة إسرائيل. لكن بدأت بعض العمليات الفدائية ضد إسرائيل، وشكلّت الحدود المشتركة الطويلة بين الأردن وإسرائيل فرصة مناسبة لعمليات الكر والفر، وفي الوقت نفسه بدأ عمل سياسي للمنظمات الفلسطينية في صفوف الفلسطينيين والأردنيين من أصل فلسطيني، من أجل تعزيز وتدعيم ارتباطهم بالقضية الفلسطينية. غني عن البيان طبعًا أن الوعي الشعبي والتنظيمات السياسية العربية كانت تقف بكل قوتها وراء القضية.
ومن بين مظاهر ذلك الدعم تطوُع الكثيرين من دول عربية مختلفة في منظمات الثورة الفلسطينية، وعلى الأخص في "فتح"، كبرى تلك المنظمات، وشغل المصريون تحديدًا مناصب مؤثرة، وكانوا على استعداد لدفع الثمن نظير مواقفهم. وفي هذا السياق قرر اتحاد الأطباء العرب إرسال أطباء ومساعدات طبية عاجلة للمستشفيات في الأردن، وكان أغلبهم من مصر، بينما أسهمت دول أخرى بالدواء والأجهزة وطواقم التمريض.
ردية الدكتور هاشم تتناول تلك الملحمة المذهلة التي لم يكن مجرد شاهد عليها، بل مشارك فيها وأحد أبطالها، فكرر في أكثر من موضع أنه ليس كاتبًا، والتجربة التي خاضها لا تحتاج كاتبًا يلعب بالكلمات أو يتميز بمهارات خاصة، تحتاج فقط للصدق والشجاعة والتماسك الإنساني.
الملحمة هي باختصار الصدام بين الفدائيين الفلسطينيين، وجيش الملك حسين بالاشتراك مع البدو، وانتهت بحرب حقيقية عجز الملك حسين عن القيام بمثلها ضد إسرائيل في حرب الأيام الستة، حيث جرى حصار الفلسطينيين وتصفيتهم جسديًا عبر مذابح نُفذت بمهارة.
وإن كان الدكتور هاشم يرصد بدقة أخطاء الفلسطينيين وتصرفاتهم التي تتصف بالرعونة والحمق والطفولة اليسارية، فهو يؤكد في الوقت نفسه أن الملك حسين ترك لهم الحبل على الغارب متعمدًا ليرتكبوا المزيد من الأخطاء، ودفعهم دفعًا نحو العاصمة عمان ليسهل تصفيتهم.
على كثرة ما كُتب عن القضية الفلسطينية وشتات الفلسطينيين وتجربتهم المٌرة، تبقى سردية الدكتور هاشم الأكثر صدقا وتوهجًا. صحيح أنه يركّز على الأيام الإحدى عشر من سبتمبر/ أيلول 1969، التي مات بعدها جمال عبد الناصر، عقب توديعه لآخر ضيف من ضيوف مؤتمر القمة العربية، الذي كان عبد الناصر قد دعا إليه لوقف الاقتتال الفلسطيني الأردني.. صحيح أن الكاتب ركّز عليها، لكنه قدّم بانوراما واسعة للمسرح والزمان والمكان والبشر والقوى السياسية في ضفيرة واحدة.
وكان اللقاء الذي تم بالمصادفة بينه وبين الطبيب الشيوعي رؤوف نظمي الذي عُرف بعد ذلك بمحجوب عمر نقطة تحول فاصلة، ويكاد يكون الشخصية الرئيسة في سردية الدكتور هاشم، كطبيب وسياسي وكادر يساري مهم، والمعروف أنه كان من أسبق المتطوعين للعمل في صفوف الثورة الفلسطينية، وخاض ببسالة معارك الفلسطينيين في الأردن ثم في لبنان.
تدور أحداث السردية في البداية في جنوب الأردن الملاصق للحدود الإسرائيلية، لذلك كان الجميع بما في ذلك الأطباء مسلحين وهم ينتقلون بين المستشفيات في ظروف بالغة الدقة والخطر، ويتعرضون للغارات الإسرائيلية وتحرشات السكان من البدو الذين شكلّ منهم الملك حسين جيشًا غير نظامي يتبعه ويستخدمه.
ومع تصاعد المعارك في بداية الصدام، بدأت المستشفيات تعاني من نقص الدواء وصعوبة الإمداد وتزايد الجرحى. واستدعت الظروف انتقال الدكتور هاشم بين أكثر من مستشفى باعتباره جراحًا. أما الأيام الأحد عشر المشار إليها فهي قطعة من الجحيم، حيث تعرضت مستشفى الأشرفية في عمان لحصار وقصف يومي من الجيش الأردني بعد أن انتقل إليها. نعم قصف يومي متعمَّد لمستشفى، وكلما تهدَّم جزء، يتم الانتقال لجزء تال.
كان من الطبيعي مثلًا أن يتساقط التراب والجير من السقف على بطن المريض المفتوح أثناء إجراء الجراحات، ومن الطبيعي أيضًا أن تتعفن الجثث حرفيًا وتتكدس وتزاحِم الأحياء. وكان من الطبيعي أن يتم اقتحام المستشفيات وقتل من فيها رميًا بالرصاص.
ربما لن يجد القارئ وحشية تقترب مما يصفه الدكتور هاشم وشهده، وظل يقظًا في ذاكرته ما يزيد عن نصف قرن.
نفس الأخطاء والخطايا
وأخيرًا، من المعروف أن المحطة التالية للمقاومة الفلسطينية كانت بيروت، وتكررت فيها الأخطاء والخطايا نفسها تقريبًا، وانتهت أيضًا بحصار إسرائيل والولايات المتحدة للمقاومة ونزع سلاحها وتصفيتها قبل أن تتوزع في المنافي المختلفة، ثم دخلت القضية الفلسطينية بمباركة النظم العربية نفقًا مظلمًا بعد اتفاق غزة- أريحا الذي تم بموجبه سجن الفلسطينيين، فكيف يمكن استيعاب وتمثل التجربة التي قدّمها الدكتور يسري هاشم في كتبه السابق الإشارة إليه؟
ولعله يكون مناسبًا أن أضيف أيضًا أن المسؤول عما آلت إليه الأمور أصلًا هو النظم العربية التي كانت قائمة قبل وبعد 15 مايو 1948، وهي ذاتها النظم التي ماتزال تحكم اليوم حتى لو تغيرت أسماء الحاكمين.
بل يمكن القول إن تلك النظم هي من سلّمت فلسطين للصهيونية، منذ "مثّلت" أنها ذاهبة للحرب. وحسبما أشار محمد حسنين هيكل في كتابه العروش والجيوش مثلًا إلى أنه "يوم صدور قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بتقسيم فلسطين، أي قبل ستة أشهر من بدء القتال، لم يكن احتمال فضلا عن قرار الحرب واردًا على بال الدولة في مصر، ولا حتى كخاطر ينشغل به طرف من أطراف السلطة، يستوي في ذلك القصر الملكي والوزارة القائمة في الحكم والأحزاب السياسية خارج الحكم"
ويضيف بأرقام موثقة تبعث على الذهول:
"إن الجيش المصري دخل فلسطين وهو لا يعرف شيئًا عن جيش اليهود ولا قادتهم، ولا عدتهم العسكرية وأسلحتهم ومدى قدرتهم على القتال. كان عدد الجيوش العربية بالمتطوعين 26 ألفًا، بينا كان عدد الجيش اليهودي 120 ألف رجل وامرأة، وكنا نطلق عليهم العصابات الصهيونية تهوينًا من شأنهم واحتقارًا لهم".
كما يورد شهادة اللواء المواوي القائد العام للقوات المصرية في فلسطين، حين نصح النقراشي باشا رئيس الوزراء في البداية بعدم دخول الحرب لأن الجيش غير جاهز مطلقًا، لكن الأخير أجاب بأن موقفنا أمام الدول العربية يحتم علينا دخول الحرب، وأكدّ أن المسألة سيتم تسويتها سياسيًا وأن الأمم المتحدة ستتدخل.. إلخ
وإذا علمنا أن عمَّان كانت مركز القيادة العليا للجيوش العربية، وأن جلالة الملك عبد الله حصل على مملكة شرق الأردن مكافأة له على خدماته للإنجليز، فإن هذا الملك نفسه كان بمثابة القائد الأعلى لكل الجيوش العربية. ويروي هيكل في كتابه السالف الإشارة له على نحو تفصيلي لقاءات الملك عبد الله بممثلي الوكالة اليهودية لضمان ضم الضفة الغربية إلى مملكته، وهو الهدف الوحيد لدخوله الحرب. وأضيف هنا أن الجنرال الإنجليزي جلوب باشا كان القائد الفعلي للجيش العربي بكامله، ولم يكن قائدًا للجيش الأردني وحده.
وفور صدور قرار تقسيم فلسطين كان هناك اتفاق مسبق وكامل بين الهاشميين والحركة الصهيونية، وكان جوهر الاتفاق أنه عندما يسري مفعول قرار التقسيم وينتهي الانتداب البريطاني على فلسطين فإن دولة يهودية سوف تعلَن على الفور في الجزء المخصص لليهود بمقتضى قرار التقسيم، وأما بالنسبة للجزء المخصص للعرب فإنه ينضم إلى شرق الأردن بحيث لا يكون هناك داع لدولة فلسطينية بين إسرائيل ونهر الأردن.
وهكذا قامت النظم العربية بتسليم فلسطين، وجعجعت بأعلى صوتها بأنها ضد قرار التقسيم الذي رفضته بإباء وشمم. بينما كان هو الموقف الوحيد الصحيح الذي كان يجب اتخاذه اعتمادًا على علاقات القوى آنذاك. وكان أغلب المنظمات الشيوعية في مصر وافقت على قرار التقسيم، وتعرضت للتخوين والتشويه بسبب موقفها ذاك، على الرغم من أنه كان بالفعل القرار الوحيد الصحيح.
وتكرر الأمر نفسه عام 1967، بالتفاصيل ذاتها وعلى النحو الذي يعرفه الجميع عندما قامت الدول العربية بتسليم ما تبقى من فلسطين لإسرائيل خلال حرب الأيام الستة، وعاشت"الأمة العربية" كارثة هي الكبرى والأسوأ في تاريخها الحديث، حتى قيام المقاومة الفلسطينية بإطلاق أول رصاصة ضد الاحتلال الإسرائيلي. كان اندلاع الكفاح المسلح هو البداية الحقيقية لأي مواجهة مع إسرائيل، وعلى مدى السنوات التالية حققت المقاومة الفلسطينية التي انتزعت لنفسها ما تستحقه، واعتبرت "ثورة"، ونالت اعترافًا دوليًا وتأييدًا كاسحًا بسبب عدالة القضية من ناحية، وبسبب الجهود الأسطورية التي بذلتها منظمة التحرير الفلسطينية في صفوف الشعوب العربية أولًا، ثم في سائر شعوب العالم من ناحية أخرى، لتوضيح القضية والدعاية لها في عمل سياسي مشهود له بالكفاءة.
المحطة التالية للثورة الفلسطينية كانت في الأردن، وخرجت الثورة منها منتصرة على الرغم من مذابح أيلول الأسود. وكانت مواقفها تجاه التسوية منسجمة وظل شعارها الأساسي "دولة فلسطينية عاصمتها القدس" منسجمًا مع تبنيها للكفاح المسلح، وامتلكت القوة اللازمة لرفض الدخول في الترتيبات التي أعقبت حرب أكتوبر، وانتهت بزيارة السادات المشؤومة لإسرائيل ثم اتفاقيات كامب ديفيد بتداعياتها التي تضمنت صلحًا منفردًا ألقى بالقضية الفلسطينية في جُب عميق.
وعندما انتقلت أو أجبرت على الخروج من الأردن إلى لبنان، ولم تكن تملك ترف الرفض، تحالفت مع الحركة الوطنية اللبنانية. ومهما كانت الأخطاء الصغيرة التي ارتكبت هنا وهناك فإن التجربة الفلسطينية اللبنانية كانت ملحمة من ملاحم العمل المشترك الجبهوي والذي كان ينذر بانتقاله إلى آفاق أوسع، لكن الظروف العربية والدولية الموضوعية لم تكن تسمح بذلك. فإذا كانت الحدود المشتركة بين لبنان وإسرائيل متلاصقة، فلن يمكن السماح إسرائيليًا وأمريكيًا وأوروبيًا بمثل هذا الهذر، ولذلك قامت إسرائيل بغزو لبنان في صيف 1982 وإجبار المقاتلين الفلسطينيين على التخلي عن أسلحتهم وتم شحنهم في سفن توزعت في المنافي. وعلى الرغم من كل هذا فقد تمكنت المقاومة الفلسطينية بقيادة أبو جهاد، بعد انتقال مكاتب منظمة التحرير إلى تونس، من تنظيم انتفاضة في الأرض المحتلة استمرت سنوات، سببت أكثر خسائر إسرائيل فداحة.
أما خطيئة أبي عمار الكبرى فتتمثل في إقدامه على توقيع اتفاقية غزة- أريحا، التي سلّمت لإسرائيل الكثير من أوراقها دون مقابل تقريبًا. ليس هنا المجال لمناقشة الاتفاقية وتـأثيرها وتداعياتها، وربما كان أبو عمار مجبرًا إلى هذا الحد أو ذاك، بسبب تغير الظروف العربية والدولية. كان العالم يعيش مرحلة جديدة كان يتم فيها التخلي عن قضايا الشعوب وحركات التحرر الوطني، وكان المعسكر الاشتراكي تعرّض لهزيمته التاريخية.
لكن الهزيمة الكبرى فيما أرى، والتي لا تقل في تأثيرها عن النكبة الكبرى عام 1948 فهي الانقسام الفلسطيني/ الفلسطيني، واستيلاء حماس على غزة بينما تسيطر السلطة على الضفة الغربية. ليس المجال هنا صالحًا للكتابة حول أي الموقفين أصح، فمجرد الانقسام يعني أن هناك مصيبة وكارثة لحقت بالقضية.. والآن وبعد مرور عدة سنوات على نكبة الانقسام فإن القضية الفلسطينية تخسر كل يوم وتستمر في الخسارة.