كان الفنان التشكيلي الكبير الراحل محيي الدين اللباد (25 مارس/ أذار 1940 - 4 سبتمبر/ أيلول 2010) والذي مرَّت ذكر ميلاده منذ أيام، يفضِّل دائمًا أن يقال عنه إنه "صانع كتب".. أسطى في الاعتبار الأول، ولذلك أحدث نقلة كيفية في صناعة الكتاب، ولم تقتصر تلك النظرة على الغلاف وحده، بل على ماهية الكتاب والنظرة إليه والتعامل معه.
أسعدني زماني وشرفت بعلاقة امتدت لأكثر من ثلاثة عقود باللباد، وتعلمت من كتبه مثل كشكول الرسام، وسلسلة ألبوماته نظر، وتي شيرت، و30 سؤالًا، و100 رسم وأكثر، وحكاية الكتاب، ولغة بدون كلمات، ويوميات المجاورة.. وغيرها من الأعمال الباقية للكبار والصغار.
السطور التالية استعادة لفنان كبير، صمَّم العشرات من كتب الأطفال، وعشرات أخرى من كتب الكبار، وصمَّم أكثر من مجلة للأطفال، وصجف حائط مطبوعة للمخيمات الفلسطينية، فضلًا عن وضعه للماكيت الرئيسي لعدد من الصحف والمجلات، ومئات من رسوم الكاريكاتير السياسي اللاذع.
وربما كان من أهم إسهاماته المشاركة في تأسيس دار الفتى العربي، وهي أول دار عربية متخصصة في كتب الأطفال عام 1974، وبعد عامين أسس الورشة التجريبية العربية لكتب الأطفال، وفيما بعد صمم المشروع الأساسي وأخرج العدد رقم صفر من مجلة العربي الصغير، وتولى الإشراف الفني لمشروع إصدارات الأطفال عن دائرة الثقافة لمنظمة التحرير الفلسطينية.
هذه الوقائع تشير إلى دور تأسيسي وريادي لعبه اللبَّاد في إنجاز مشروع كتاب للطفل العربي، بحيث يمكن الحديث عن نقلة كيفية أخرى حققها فيما يتعلَّق بكتاب عربي لطفل عربي، ليس فقط من زاوية المادة التي يضمها بين صفحاته، بل أيضًا من زاوية شكل الكتاب أو المجلة: الغلاف والصفحات الداخلية والقطع والتوضيب على النحو الذي سوف أحاول تفصيله فيما بعد.
من جانب آخر، وُلِد اللباد في حي القلعة، وتفتحت عيناه على عمارة الحي الإسلامية العتيقة ومساجد مثل السلطان حسن والرفاعي وقلعة صلاح الدين وشارع محمد علي، بكل ما يضمَّه من مساجد وأسبلة ومبانٍ، وعلى مبعدة عدة خطوات تقع منطقة طولون بكل ما تزخر به من بيوت أثرية وجوامع.
عرف طريقه بسرعة إلى الصحف والمجلات، ونشر رسومه في عدد كبير منها، وعندما حصل على الثانوية العامة، كان من المفترض أن يلتحق بكلية طب الأسنان، لكنه تركها والتحق بكلية الفنون الجميلة، على الرغم من اعتراض العائلة ورفضها لهذا التصرف الذي بدا جنونيًا، فكيف يفلت فرصة أن يكون طبيبًا محترمًا، ويدخل كلية تعلّم طلابها الرسم؟.. كانت كارثة عائلية، حتى إن والده عندما يزوره الأقرباء، كان يتحدث عن دخول ابنه كلية الفنون الجميلة منكسرًا وكأن مرضًا ألمَّ به.
قال لي الراحل الكبير إن هناك كتبًا أنارت حياته مثل كتب كامل الكيلاني عام 1947 تقريبًا، ورسوم حسين بيكار التي فتحت له طاقة حقيقية، وخصوصًا رسومه لكتاب الأيام لطه حسين الذي كان علامة فارقة في فن الكتاب، فقد عكف بيكار عليه ورسم الغلاف والرسوم الداخلية أبيض وأسود.
الانتقال الأكبر حدث عندما صدرت مجلة سندباد، وكان عمره عندما صدرت 11 سنة، وكان بيكار يرسم 16 صفحة نصفها أبيض وأسود ونصفها الآخر بالألوان. من هذه المجلة تحديدًا عرف أنه ليس مصريًا فقط، بل وعربيًا أيضًا من خلال رسوم بيكار الذي كان عائدًا من رحلة إلى المغرب.
وقبل دخوله كلية الفنون الجميلة بعام رسم أول صفحة كاريكاتور في مجلة التحرير عام 1956. وأثناء دراسته التصوير في الكلية، بين عامي 1957 و1962 أصدر أول كتاب من تأليفه بعنوان ملكة الجزر عن دار المعارف، وفي الوقت ذاته التحق بالعمل رسامًا بمجلة سندباد، وفي العام التالي بدأت مسيرته كرسام كاريكاتور بمحلة صباح الخير إبان العصر الذهبي لها.
وهكذا انخرط في العمل في أكثر من اتجاه منذ شارك في تأسيس مجلة كروان للأطفال مديرًا لتحريرها عام 1963، ثم مشرفا فنيًا ومديرًا لتحرير مجلة سمير بعد توقف كروان لأسباب مالية. وفي عام 1974 خاض تجربة دار الفتى العربي، وبعد ذلك بعامين تجربة الورشة التجريبية لكتب الأطفال كما سبق الإشارة.
يكمن التغيير الحاسم الذي استحدثه اللباد في هذا المجال، في رفضه مثلًا لاستلهام الشخصيات الغربية المعروفة مثل سوبرمان وميكي ماوس، وارتجل بدلًا منها شخصيات عربية. وفي كتيبه الملون تي شيرت قدّم 25 اقتراحًا للمطبوعات على التي شيرت مستلهمة من الواقع سواء التراث القديم أو الواقع السياسي والثقافي المعاصر، بدلًا من الرسومات المستوردة.
كشكول اللباد
كما كان له الفضل في اجتذاب كبار الكُتاب للكتابة للطفل أثناء وجوده في دار الفتى العربي، وحقق من خلال ذلك طفرة على صعيد الشكل والمضمون والفئات العمرية. لنقرأ مثلًا تلك الحكاية بالغة القِصر التي كتبها الكاتب السوري الكبير زكريا تامر ورسمها اللباد ونالت عدة جوائز عالمية. الحكاية هي "البيت"، ولا تتجاوز خمسين كلمة وتعد من أعذب ماكُتب عن فلسطين والفلسطيني منذ بدأت القضية. تقول كلماتها:
"الدجاجة لها بيت. بيت الدجاجة اسمه القن. الأرنب له بيت. بيت الأرنب يقال له الجحر. الحصان له بيت. بيت الحصان يسمى الاسطبل. السمكة لها بيت. بيت السمكة في البحر والأنهار. القط يحب التجول في الشارع لكنه يملك بيتًا يحبه ويفخر به. العصفور له بيت. بيت العصفور يدعى العش. كل إنسان له بيت. البيت هو المكان الذي يمنح الإنسان الطمأنينة والسعادة. الفلسطيني لا بيت له. والخيام التي يحيا فيها ليست بيوت الفلسطيني. أين بيت الفلسطيني؟".
أكرر أنَّ ما قدَّمه اللباد للطفل من إبداع بصري ووجداني وعقلي سيظل واحدًا من الإنجازات الكبرى. ويمكن هنا الإشارة إلى كتابه الفاتن كشكول الرسام، الذي حصد عدة جوائز عالمية وتُرجِم إلى العديد من اللغات. باختصار قدَّم في الكشكول سيرته الذاتية للطفل بلا حذلقة أو ادعاء، والأهم أنه لم يلجأ إلى التبسيط والتسطيح باعتباره يكتب للطفل الذي لا يفهم مثلنا نحن الكبار.
كتب ورسم عملًا فاتنًا للصغار والكبار معًا، يضم حكايات قصيرة سريعة تبدو متناثرة، لكنها في الحقيقة متتالية موسيقية، مكتوبة بخط يد اللباد وليست آلية، بدءًا من الترويسة واسم دار النشر وحتى السطر الأخير، لتحقيق الألفة وعقد أواصر الود مع الطفل، فهو لا يلجأ مثلا للمواعظ والوصايا والتوجيهات، بل يتحدث مع الطفل حول أسراره الشخصية والتذكارات التي يحتفظ بها منذ طفولته، وينشر صورًا فوتوغرافية لها مثل طابع بريد قديم أو تذكرة ترام أو صورة عائلية قديمة.
كما يكشف لصديقه القارئ الطفل عن أحلامه، ومن بينها حلمه بأن يصبح سائق ترام رسم نفسه ضخمًا وسائقًا لترام ضخم، وهو الترام الذي كان يراه في طفولته في حي القلعة الذي كان يسكنه.
وكما كتب"كان سائق الترام عندي أعظم وأهم رجل في العالم لأنه يقود هذا الوحش العملاق المهيب".. وظل يتمنى أن يصبح سائق ترام عندما يكبر، إلا أنه لم يتمكَّن من ذلك و.."تعلمتُ الرسم وأصبحت مجرد رسام، ووجدت، والحمد لله، إن هذا العمل يتيح لي فرصة مدهشة، وهي أن أستطيع أن أرسم سائق ترام كما تمنيت تمامًا".
هكذا يمكن تحقيق الأحلام دائمًا، حتى تلك التي تبدو بعيدة المنال. ليست هناك وصفة جاهزة لتحقيق الأحلام سوى الصدق مع النفس، والابتعاد عن محاكاة الواقع كما هو، وحسبما كتب في حكاية تالية عندما تعلم منذ طفولته حقيقة مهمة أنه "يجب أن ينسى رسوم الآخرين" وأن يرسم القط الذي يعرفه ويراه في الشارع الذي يسكن فيه.
من اليمين
ثمة تفاصيل وتفاصيل في المتتالية الموسيقية الفاتنة كشكول الرسام. فعندما كان طالبًا في كلية الفنون الجميلة كان هناك لون يستخدم لتلوين البشرة مستورد من أوروبا وأمريكا، وهو بالطبع لون بشرتهم وليس لوننا، لذلك توقف عن استعماله.. هكذا يتحدث اللباد مع الطفل بلا مواعظ وخطب عصماء، ويكشف عن حقائق بسيطة تغيب عن الذهن غالبًا، منها أننا نقرأ ونكتب من اليمين لليسار، بينما يكتب الغرب ويقرأ من اليسار لليمين، لذلك تشكّلت عيوننا بجيث يكون "مدخل الفرجة" على حد تعبيره من اليمين إلى اليسار، وهو ما يستلزم انقلابًا كاملًا للطريقة التي تعودت عيوننا عليها.
أما الجانب الثاني في إنجازه، والذي يفخر به دائمًا، فهو دوره كـ"صانع كتب".. أسطى.. معلم في ورشة. أبادر إلى القول أنه رسم أغلفة لعشرات وعشرات الكتب والمجلات للصغار والكبار، وصمَّم الماكيت الرئيس لعدد من المجلات والصحف وسلاسل الكتب، إلا أن كل ما قام به، لم يتعارض مع قناعاته المبدأية وأفكاره ومواقفه، لذلك اشترط دائمًا أن يقرأ المادة جيدًا قبل أن يبدأ عمله.
ولعلي لا أكون مبالغًا عندما أقول إن تصميم الكتاب وإخراجه قبل اللباد، يختلف تمامًا بعد الثورة التي أشعل نارها الراحل الكبير، فقد استعاد بقوة واستلهم الكثير من جماليات الخط العربي، مما يمكن تلمسه بسهولة في أعماله، كما عكف على قراءة المخطوطات العربية التراثية واستفاد من منجزها، مثل ضرورة مساحات البياض لراحة العين، ورفض الجمع الإليكتروني الذي يجعل هامش اليسار منتظمًا، واستبدله بما يريح العين، وهو عدم انتظام الهامش.
إن تصميم كتبه يعد درسًا في فن التوضيب، سواء فيما يتعلق بالمكان الذي يختاره لوضع اللوحة على الصفحة، أو العلاقة بين الكتلة والفراغ، وبداية الصفحة ونهايتها، والفواصل البيضاء بين كتل السواد.. في هذا السياق كتب اللباد:
"عندما تزور بيتًا من بيوت الكرام يفتح أهله الباب مرحبين بك: مرحبًا .. أهلًا وسهلًا.. شرّفتنا بالزيارة.. وزمان كانت الكتب أيضًا ترحب بقرائها وكانت أول صفحة يراها قارئ الكتاب تقول له: مرحبًا .. أهلًا وسهلًا.. شرفتنا بالقراءة.. نظرة عزيزة.. الكتاب نوّر".
وكانت تلك الصفحة كما يضيف "مزوّقة ومزخرفة بعناية وكرم وذوق سليم وظُرف حلو، مثل التحية والترحيب والحلوى والمرطبات والشاي والقهوة التي يقدمها أهل البيت للزائر". لم يقتصر ذلك التقليد على المصاحف الشريفة والكتب الدينية وحدها، وإنما في أنواع الكتب الأخرى أيضًا.. ويضيف أيضًا "لماذا نسينا هذه التقاليد الجميلة؟ ولماذا لانعود ونزخرف ونزوّق الصفحات الأولى من دفاترنا وكتبنا ورسائلنا لأصحابنا".
ويتساءل اللباد "هل كانت كتبنا العربية زمان أجمل؟" ويجيب "يبدو أن هذا صحيحًا، فربما كان صناع الكتب زمان أكثر رقة وتهذيبًا، ويعملون حسابًا للقارئ. كيف؟ لم يكن هؤلاء يملأون صفحة الكتاب كلها بكلمات النص، بل كانوا يكتبون النص في ثلاثة أرباع الصفحة تقريبًا ويتركون الباقي بياضًا. لماذا؟ كانوا يتركون هذا البياض بطول الصفحة ليكتب القارئ عليه ما يشاء تعليقًا على النص مثلًا".
وإذا كان اللباد ركّز على الأصالة والتراث ورفض التبعية والاستفادة من جماليات الخط العربي، إلا أنه لم يُغفِل الفن الغربي أو يتجاهله سواء بالنقد أو الإعجاب، كما لفت النظر إلى فنون الثقافات الأخرى في الشرق الأقصى وأمريكا اللاتينية. وفي ألبومه الثالث من سلسلة نظر مثلًا خصص جانبًا كبيرًا من صفحاته لفنون الغرب، فكتب عن الدور الذي لعبته مجلة بانش البريطانية الكاريكاتورية، وتابع ماقامت به مجلة كروكوديل الروسية الكاريكاتورية، هذا إلى جانب تناوله لأعمال الكثيرين من فناني الكاريكاتور الكبار.
بقي أن أشير إلى جانب آخر وملمح لا يقل أهمية من ملامح الراحل الكبير، وهو تعليقاته وكتاباته النثرية التي وجدت مكانًا لها في سلسلته الشهيرة نظر، واستوحى عنوانها من بيت في قصيدة للشاعر بشارة الخوري "إن عشقنا فعذرنا/ أن في وجهنا نظر"، تعد ألبومات حية تتضمن ماكان ينشره أسبوعيًا في مجلة صباح الخير، حول الأعمال والنشاطات التي تتوجه للعين على مدى أربعة كتب متميزة ومختلفة سواء فيما يتعلق بالقطع أو التوضيب أو اللمسات البصرية، هذا بالطبع فضلًا عن كتبه الأخرى السابق الإشارة إليها مثل تي شيرت، وملاحظات، و30 سؤالا، و100 رسم وأكثر، ولغة بدون كلمات.
تللك هي وجوه فناننا الكبير وإضافاته وإنجازاته الباهرة، وهي إنجازات، كما يرى القارئ، ذات طابع تأسيسي وريادي لن يمحوه الزمن.