هناك قاتل لا يمكن القبض عليه ومحاكمته وإيداعه السجن؛ إنه المجتمع أحيانًا. والمثال الخالص لهذا هو قضية سلمى المطعونة في الشرقية حتى الموت، التي يعود نصف جريمتها، على الأقل، إلى ميوعة موقف أغلب الناس من قضية سابقتها نيرة المقتولة بالطريقة نفسها في المنصورة. وما هو مروّع وفظيع ومقزز أن بعض الناس وقفوا يدافعون بقوة عن القاتل، ويختلقون له الأعذار، بل ويبذلون من المال والجهد في سبيل تبرير ما اقترفه من جرم أثيم.
فتاتان قتلتا في زمن متقارب بيد حبيبين، أو هكذا قالا هما، ويا له من حب غريب. قديمًا قالوا "ومن الحب ما قتل"، لكنهم كانوا يقصدون موت العاشق، وهو يذوب ويذوي من فرط الوله والتتيم والغرام وكتمان سر المحبة، أو يدافع رجل عن امرأة أحبها، ليحمي سيرتها وعرضها، حتى يموت في سبيل الحب، أو يودّع رجل الدنيا من انهمار الحزن والأسى لأن حبيبته ودعتها.
أحيانًا يُستعاد، على ندرة واستحياء، قول منسوب للرسول صلى الله عليه وسلم "من عشق وعف ومات، مات شهيدًا"، لكنَّ رؤىً دينيةً محافظةً تهيل التراب على هذه المحبة الطبيعية، والعشق المفطور عليه بني البشر، لترى الغرام حرام، أو أن الكثير منه لا يفيد أبدًا، بل يذهب متطرفون في الرؤى إلى أنه نوع من الشرك بالله.
التصور الأخير سادَ وتفشى، في ظل نوع من التدين القشري والمغشوش، الذي صار مرضًا عضالًا أصاب المجتمع، فرأيناه ينسى جوهر جريمة قتل المحبوبة التي ارتكبها شاب بالمنصورة، ويذهب في البحث عن تبرير له، بل ويتعاطف قطاع منه مع القاتل، وينبري فريق للدفاع عنه، إلى درجة أن تدعو امرأة إلى جمع نقود لتوكيل محام كبير يترافع عنه في ساحة المحكمة.
وهناك من رمى باللائمة على الفتاة، إما لأنها خلعت حجابًا كانت ترتديه، كما قالوا، أو كانت معجبة بتصوير جسدها وبثت الصور على حسابها في إنستجرام في تكريس للتصور التقليدي السائد بأن المرأة هي سبب الغواية.
وتحدث فريق رابع عن أن الفتاة استغلت حبيبها في مساعدتها على استذكار دروسها، فنالت جزاءها.
وأنشأ البعض حسابات على فيسبوك راحت تعرض صور القاتل على أنه ضحية، وتصفه بأنه شاب يتيم مغدور به، وصوره بعض من هؤلاء على أنه كان يدافع عن شرفه ورجولته ضد فتاة خذلته، سبق أن حذرها كثيرًا من التخلي عنه.
والعجيب أن من بين المدافعين كانت فتيات ونسوة، كل منهن لا يمكن أن تقبل أن يُفعل بها هذا، ولا في أي من بناتها أو قريباتها أو صاحباتها.
هذا الموقف الاجتماعي المفجع والمزري هو الجريمة الكبرى، التي يمكن أن تتناسل منها جرائم صغرى
هذا الفريق من الناس على اختلاف فئاته ودرجاته تحول إلى قاتل صامت، بدفاعه عن المجرم، وتبريره الإجرام، فشجع، دون أن يقصد، ودون أن يدري في الغالب الأعم، على أن تكون مثل هذه الجرائم أمرًا عاديًا، بل فتوحات مكللة بالدم، يُرفع مرتكبوها على الأكتاف، وتنهمر على رؤوسهم المدائح.
إن هذا الموقف الاجتماعي المفجع والمزري هو الجريمة الكبرى، التي يمكن أن تتناسل منها جرائم صغرى، قد تكون فردية ومعزولة، تُرتكب بين حين وآخر، بعيدا عن العيون الكليلة، والضمائر الخربة، التي فقدت إنسانيتها ففتحت مسربًا يتسع ويتعافى لتدفق دم جديد، يلطخ وجه المجتمع كله باسم هذا الحب الغريب.
كان لهذا المجتمع موقف آخر، مناقض تمامًا لما هو عليه الآن، حين وقعت جريمة مماثلة في ثمانينيات القرن العشرين. وقتها قتل شاب في كلية دار العلوم بجامعة القاهرة حبيبته.
كان ارتبط بها عاطفيًا في السنة الجامعية الأولى، وتواعدا على إكمال الطريق معًا، لكنها فاجأته بخطبتها في السنة الرابعة، فخرج ذات ضحى من حجرته في أحد مباني المدينة الجامعية، واشترى سكين مطبخ من محل لبيع المستلزمات المنزلية في حي "بين السرايات"، ودخل الجامعة عازمًا قتلها، وما إن رآها حتى ناداها، فجاءت إليه.
راح يلومها في قسوة، ويطلب منها فسخ الخطبة. ولما أبت، أخرج سكينه، فهربت من أمامه في فزع، لكن سوء حظها جعل قدميها تزلان حين اصطدمت بكومة من الأخشاب ملقاة على الأرض ضمن عملية ترميم لكلية الآثار، وما أن وقعت حتى كان فوق ظهرها يطعنها في قسوة حتى صعدت روحها إلى بارئها.
كان الحادث يومها غريبًا، قابله الناس باستهجان وفزع، وتساءل الكل: هل يمكن أن يقتل حبيب حبيبته؟ وفي قاعات المحاضرات تناول الأساتذة ما جرى، واجتمعوا مع طلابهم على رفضه، ولم يجد أي منهم نفسه في حاجة إلى البحث عن تبرير.
وحين أثبتت التحقيقات أن القاتل مصاب بالذهان، وأن هذا المرض النفسي اللعين يمكن أن يقوده إلى ارتكاب جريمة دون تردد أو عناية أو انتباه أو دراية، توجه اللوم إلى أهله الذين لم يعالجوه، وإلى المؤسسة التعليمية التي لم تنتبه إليه فتذهب به إلى طبيب نفسي يداويه، أو يخفف من أعراض مرضه أو اضطرابه النفسي الشديد، فلا يتحول إلى قاتل.
هذا هو الفرق بين المجتمع الآن، والمجتمع الذي كان. فقتلى زماننا يلامون، وقتلاهم يجدون من يعذرهم، ليس بجهل أو مرض أو غيبة بفعل مخدرات أو يأس من المستقبل، إنما لاعتقاد البعض أن ما قام به القتلة تصرف عادي، لهم الحق فيه، كله أو بعضه.
هذه هي الجريمة الحقيقية، فيمكن لشاب أن يقتل فتاة أو أكثر، من حب أو كره، من مودة أو بغضاء، لهوس أو جنون أو استباحة، أو حتى رغبة في الشهرة الزائفة، في زمن تلوك فيه السوشيال ميديا بإفراط الفحشاء والبغضاء والرذيلة أكثر من أي دعوة إلى المودة والتراحم والفضيلة.
لكن ما لا يمكن قبوله أبدًا هو أن يتواطأ الناس مع القتل، خصوصًا من هذا النوع. إن المقتول في جريمتي المنصورة والشرقية هو المجتمع، أو بالأحرى قطاع منه.
الحقيقة أن في مصر ملايين قصص الحب الناقصة، التي تنتهي بحرمان وفقد وأسى، وتضني أصحابها، وقد تجلب لبعضهم نكدًا دائمًا. لكن هؤلاء المحبين لا يقتلون، ولا يفكرون في هذا. بعضهم يتسامى ويتمنى السعادة لمن يحب حتى مع غيره، وبعضهم يراهن على الزمن كعلاج شاف في رحاب النسيان والتأسي أو حتى التلهي، وبعضهم يحتفظ لنفسه باستبقاء حق العتاب، وبعضهم لا يفقد الأمل مثلما حدث لبطل رواية ماركيز الحب في زمن الكوليرا، الذي كافح حتى ظفر بمحبوبته وهو في السبعين من عمره.
لكن القلة التي تفكر في قتل المحبوبة أو إيذائها بتشويه سمعتها أو جسدها، لا يمكنها تلويث مجتمع بأكمله، فهذه موجودة في كل زمان ومكان، لكن التلوث الحقيقي يأتي من قبول شريحة اجتماعية، لا يستهان بعددها وتوحش خطابها، لمثل هذه الجرائم البشعة.
لا أريد أن أذهب بعيدًا في البحث عن إطار تفسيري لما جرى، محيلًا إياه إلى الصراع السياسي الذي جعل القتل في حياتنا خلال السنوات الأخيرة أمرًا عاديًا، يستعذبه البعض، ويبرره آخرون. ولا أحيل إلى الظروف الاقتصادية الصعبة التي تسد أبواب الأمل أمام الشباب في تكوين أسرة مع من يريدونه، ولا إلى المخدرات التي انتشرت كالنار في الهشيم حتى أفقدت ملايين الشباب القدرة على التفكير الرائق السليم، الذي إن لم يوقظ الروح فعلى الأقل يعلي المصلحة والأمان الشخصي، فكل هذا قد يشكل هروبًا أو انحرافًا عن جوهر المأساة، المرتبط بالتغير الذي طرأ على تفكير شريحة من مجتمعنا، أخشى كل الخشية أن تتسع بمرور الوقت، فتبتلع كل أحد، وكل شيء.