لطيفة الزيات، من مدونة الخماسين

أوراق لطيفة الزيات.. شجاعة التحليق فوق الحواجز

منشور الأربعاء 23 أغسطس 2017

 

منذ بدأت رحلة القراءة وأنا أعرج أحيانًا، لالتقاط الأنفاس في هذا الطريق الطويل، لقراءة الكتب التى تتحدث عن قصص حياة الأدباء والمفكرين، سواء كانت بقلمهم، مثل: "الأيام" لطه حسين، أو "قصة حياتى" لأحمد لطفي السيد، أو "حياتي فى الشعر" لصلاح عبد الصبور. أو كانت عن حياتهم بقلم آخرين ممن تأثروا بهم، مثل كتاب سلامة موسى: "هؤلاء علموني"، أو كتاب أحمد أمين "زعماء الإصلاح"، أوكتاب محمود العالم: "الإنسان موقف".

وبشكل عام فإن كتابات السيرة تحمل إلى جانب المتعة، أيضًا العبرة والخبرة والثراء، كيف كافحوا وتفوقوا وواجهوا الصعاب حتى صارت لهم بصمات مهمة في حياتنا. ومنذ فترة وأنا أفكر في الكتابة عن مجموعة من الشخصيات الذين كان لهم تأثير من خلال إضافاتهم الإبداعية الملهمة ومواقفهم النبيلة والشجاعة في الدفاع عن حرية الفكر والاجتهاد، ونضالهم في سبيل قيم العدل والمساواة، وكذلك إخفاقاتهم والعثرات في الطريق باعتبارهم بشر. وأنت لا تستطيع أن تفصل بين عظمة هؤلاء وبين ظروفهم، قوتهم وضعفهم؛ إنهم في التحليل الأخير نتاج سياقهم وواقعهم، ليس هناك عظمة مجردة، ولا عبقرية في المطلق، ولا دون قواعد.

ومن ضمن هذه الشخصيات تأتي الدكتورة لطيفة الزيات، فمنذ أيام قليلة مضت كانت الذكرى الرابعة والتسعون لميلادها. ووجدت نفسي قد تحاشيت أن أكتب أو أنشر في نفس يوم ذكرى ميلادها، أو بالقرب منه، تجنبًا للوقوع في فخ الكتابة الاحتفالية.

الدكتورة لطيفة عبد السلام الزيات ولدت في 8 أغسطس/آب عام 1923، وتخرجت من قسم اللغة الإنجليزية، بكلية الآداب، جامعة القاهرة وحصلت على الليسانس عام 1946. بدأ اهتمامها ومشاركتها بالعمل الوطني الديموقراطي من أوائل الأربعينيات من القرن الماضي. وأصبحت عضوة في منظمة إيسكرا - الشرارة (وهي أوسع المنظمات نشاطًا في هذا المجال ولعبت كوادرها الطلابية دورًا هامًا في الحركة الطلابية - كما يشير الدكتور رفعت السعيد في كتاب "تاريخ الحركة الشيوعية المصرية من 1940 إلى 1950"). وحين وصلت للفرقة الرابعة من دراستها الجامعية انتُخبَت في سكرتارية اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال التى شاركت في تنظيم المظاهرات الطلابية في 9 فبراير/شباط (حادثة فتح كوبري عباس الشهيرة التي خلفت العديد من الجرحى والقتلى)، والمظاهرات الواسعة والإضراب الطلابي العام ضد سلطات الاحتلال البريطاني في 21 فبراير 1946.

في نفس الوقت ومع هذا الزخم الوطني كانت هناك دعوات نسائية للمطالبة بمزيد من الحقوق للمرأة، فبعد معركة السفور أصبحت هناك معركة جديدة هي حق المرأة في الانتخابات والترشح للبرلمان، مثلها في ذلك مثل الرجل. ورفض البرلمان في الأربعينيات الاعتراف بهذا الحق للمرأة في جلسة شهيرة حضرتها وتحدثت فيها هدى شعراوي ممثلة عن "الحزب النسائي الوطني". كانت هذه معركة الكثير من النساء والمؤمنين بحريتها، أطلقت بنت الشاطئ في عام 1944 دعواها للنهوض بالمرأة وتمكينها.

وفي عام 1946 أقامت رابطة فتيات الجامعة والمعاهد المصرية مؤتمرًا في قاعة مدرسة الليسيه للمطالبة بحقوق المرأة السياسية حضره حوالي 500 سيدة وكان اجتماعًا حماسيًا. وكانت لطيفة الزيات عضوة نشطة وقيادية في هذه الرابطة، وكان معها زميلاتها إنجي أفلاطون وفاطمة زكي وثريا أدهم وجنفيف سيداروس وآسيا النمر وسعدية عثمان وثريا المنيري. تحدثت لطيفة الزيات في هذا المؤتمر وقالت: "لقد قمنا بحركتنا في أكتوبر/تشرين الأول عام 1945، وانضمت إلينا الفتيات المثقفات. وفي غدنا سنضم النساء المصريات، فلاحات وعاملات. إننا نود أن نردّ على أولئك الذين يزعمون أن المرأة لا تستطيع أن تجمع بين واجب بيتها وواجبها كمواطنة. سنعمل على أن يكون للمرأة حق الانتخاب والنيابة والمساواة مع الرجل في الأجور والأعمال. سنُمَكِّن المرأة من أن تلعب دورها في الإنتاج القومي". وظل هذا الكفاح إلى أن أُقِر دستور 1956 للمرة الأولى بمبدأ المساواة بين المرأة والرجل في كافة الحقوق السياسية.

السجن والزواج

سُجنت لطيفة الزيات مرتين، وتزوجت، أيضًا، مرتين. سُجنَت في المرة الأولى عام 1949، في قضية الانضمام لتنظيم شيوعي، وكان عمرها 26 عامًا. وكانت قد تزوجت من أحمد شكري سالم زواجًا لم يستمر أكثر من عامين (1948-1949)؛ كان رفيقها في التنظيم ومثقفًا ماركسيًا كبيرًا وأستاذًا بكلية العلوم فيما بعد. خرجت بعد الحكم عليها مع إيقاف التنفيذ، لكن هو صدر ضده حكم بالسجن لمدة 7 سنوات (1949- 1956)، وانفصلا بعد هذا الحُكم. وداخل السجن قلل من ارتباطه التنظيمي، ولكنه ظل متعلقًا بها لفترة وكان يقول كلما جاء ذكرها: "دي لطيفة". وتقول في مذكراتها عن هذه الفترة وهذة الزيجة: "وحين تزوجت زيجتي الأولى بدأت مرحلة جديدة من مراحل الانتقال من مكان إلى مكان، كان محركها هذه المرة المطاردة الدائبة من جانب البوليس السياسي لزوجي، أو لي، أو لكلينا. وقد تنقلت مع زوجي الأول في المدة الزمانية ثمانية وأربعين ـ تسعة وأربعين في خمسة منازل كان آخرها بيتي الذي شمعه البوليس السياسي في صحراء سيدي بشر التي لم تعد بصحراء. وفيما بين عمليات الانتقال الرئيسية في هذه المرحلة، تَعيَّن عليّ حين عنفت مطاردات البوليس السياسي أن أنتقل ليلًا من مسكن إلى مسكن إلى أن وجدت السجن مسكني في مارس ألف وتسعمئة وتسعة وأربعين. ولم يكن انتقالي إليه هذه المرة اختياريًا".

 

المرة الأخرى التي سُجنت فيها لطيفة الزيات كانت في عام 1981، ضمن حملة الاعتقالات الواسعة التي جرت بحق كتّاب وصحفيين ومعارضين لحكم الرئيس السادات، وكان عمرها وقتها 58 عامًا. لكنها كانت قد خاضت تجربة الزواج (والطلاق) الثانية لها قبل هذا التاريخ بوقت كبير جدًا. فقد تزوجت من الدكتور رشاد رشدي في عام 1952 واستمرت العلاقة بينهما حتى انتهت بالطلاق في يونيو/حزيران عام 1965. لكننا سوف نحتاج هنا إلى الرجوع إلى الوراء قليلًا، أي بعد خروجها من السجن لنعرف ما حدث ولنكمل هذه المسيرة.

بعد خروج لطيفة الزيات من السجن في المرة الأولى، عادت لتُكمل حياتها ومسيرتها العلمية وحصلت على دبلوم معهد الصحافة في 1952، وعلى درجة الدكتوراه من قسم التحرير والترجمة والصحافة  بكلية الآداب، جامعة القاهرة، عن بحث بعنوان "حركة الترجمة الأدبية من الإنجليزية إلى العربية في مصر في الفترة ما بين 1882- 1925 ومدى ارتباطها بصحافة هذه الفترة". وظهرت أخيرًا هذه الرسالة، المقدمة والمجازة منذ عام يونيو 1957، في العام الحالي وفي نفس شهر ذكرى ميلادها، أي في أغسطس 2017 عن سلسلة "دراسات الترجمة" ضمن إصدارات المشروع القومي للترجمة. وقام الدكتور خيري دومة أستاذ الأدب العربي الحديث بكلية الآداب جامعة القاهرة، بهذا الجهد في التنقيب والاستكشاف، ليقدم لنا هذا العمل الثقافي المهم والذي كان مفقودًا لفترة طويلة تمتد إلى الستين عامًا تقريبًا، وقام بتحريره وتقديمه على أكمل وجه ممكن.

لكن أين كانت هذه الدراسة، والتي تعتبر رائدة وتمثل إضافة أساسية، في وقتها، للمكتبة العربية في هذا الباب من أبواب البحث؟ وما هي أسباب هذا الاختفاء؟ في المقدمة التي كتبها الدكتور دومة للكتاب يتحدث عن رحلة بحثه عن هذه المخطوطة وعن سبب اختفائها، ويشير إلى أنه الأرجح أن لطيفة الزيات نفسها كانت هي السبب وراء هذا الاختفاء، من يقرأ كتاب لطيفة الزيات "حملة تفتيش - أوراق شخصية"، رغم أنه مكتوب بعد زمن طويل من إنجاز هذه الرسالة وانتهاء علاقتها برشاد رشدي، يلاحظ أنها لا تكاد تشير إلي موضوع رسالتها، فقط تتحدث عن روايتها الأولي "الباب المفتوح" التي بدا أنها كانت بمثابة العلاج من صدمة زواجها برشاد رشدي وطلاقها منه، وهي الصدمة التي تسردها بشيء من الإيجاز الموجع. ولعل القارئ يتذكر مشهدًا تسرده لطيفة الزيات في كتابها حين يواجهها زوجها عند طلب الطلاق قائلًا: "ولكني صنعتك". من الواضح أن شيئًا من فجيعة علاقتها برشاد رشدي قد ترك أثره على موقفها من رسالتها هذه؛ إذ لم تجد في نفسها الرغبة في أي مرحلة تالية لنشرها علي القراء المهتمين، كأنها تريد أن تنسى الأمر برمته وبكل ما يتعلق به من تفاصيل، بما في ذلك هذه الدراسة التي تمت وقت زواجها منه".

يمكن فهم زواج لطيفة الزيات الماركسية اليسارية من رشاد رشدي صاحب الفكر اليميني، والكاتب المسرحي والأستاذ المرموق، وقتها، وأبرز أعضاء لجنة مناقشة رسالتها للدكتوراه، باعتباره جزءًا من التناقضات المعتادة لأبناء الطبقة الوسطى. هذا الزواج استمر لمدة 13 سنة وهاجمها بسببه الكثير من الرفاق. ويشير البعض إلى أن الدكتور لويس عوض في كتابه الساخر "المحاورات الجديدة أو دليل الرجل الذكي إلى الرجعية والتقدمية وغيرهما من المذاهب الفكرية" كان يقصد بالشخصية الحوارية المتخيلة والتي أطلق عليها "الماركسية المسخسخة" لطيفة الزيات. ومن يجتهد ويقرأ هذا الكتاب سوف يجد أنه لطبيعته الساخرة تخيل "محاورات" تجري بين شخصيات حقيقية أطلق عليها أسماء لاذعة مثل: ناظر مدرسة ابن العميد، على الزيبق الجوكي الشهير بالزنبرك، أبو سيفين صفيح، وإذا كان أرسطو هو المعلم الأول فلويس عوض يسمي نفسه في الكتاب، ساخرًا، المعلم التاسع، أو روستوفتيف الذي يرد على الماركسية المسخسخة التي تتحدث عن "الحب الأفلاطوني" (حتى اعتناقها للماركسية العلمية كانت تقول عنه في مذكراتها: "كان تعلقي بالماركسية انفعاليًا عاطفيًا") قائلًا لها: "لا تعولي على حكاية الحب الأفلاطوني هذه يا سيدتي.. إنها خطأ شائع". وفي موضع آخر من الكتاب يقول عن رشاد رشدي: " وإن نساء رشاد رشدي سيعشن فقط حتى يحال إلى المعاش، فرشاد رشدي هو الوحيد الباقي بين كتاب مسرحنا الذي لا يزال يكتب عن النساء وأحوالها وعن الحب وأوضاعه".

أتاح رشاد رشدي لزوجته وضعًا ماديًا مستقرًا طوال فترة زواجهما وقدم لها أفضل ما يمكن أن تحظى به زوجة من متطلبات العيش، إلا أنها، مع الوقت، وجدت نفسها تعيش معه، رغم ذلك، في تعاسة ممتدة، تعاسة التناقض بين أفكارها اليسارية التقدمية وأفكاره اليمينية المحافظة. التناقض بين ما كانت تشعر به وتعتبره "الحب"، وبين الخيانات المتعددة والمستمرة من جانبه. التعاسة التي جعلتها لا تريد أن تنشر رسالتها للدكتوراه حتى تتخلص من كل هذه الذكريات المؤلمة. التعاسة حين يجبرها على أن تهديه روايتها "الباب المفتوح" دون إرادتها، أما هو فقد أهدى كتابه الصادر وهما معا إلى زوجته السابقة. وتسأل لطيفة نفسها في مذكراتها "حملة تفتيش أوراق شخصية": "وانطوى من عمري عمر قدره ثلاثة عشر عامًا بوهم التوحد مع المحبوب لفترة، وبإصابتي بالشلل المعنوي والعجز عن الفعل في الفترة الأخيرة. ولم أشأ أن أصعد النغمة حتى لا تفشل مهمتي (الطلاق)، وتساءلت وأنا أرقبه: أي مرحلة من مراحل عمري المنقضي صنع؟ أكل المراحل، أو لم يصنع هو شيئًا؟ انقضى الزمن الذي كنت أعلق فيه على مشجبه سعاداتي وتعاساتي، انقضى يوم برئت من الشلل، حتى لو كنت صنعتني فعلًا كما تقول، فهذا لا يعطيك الحق في قتلي".

كانت تبرر وتدافع عن هذا الزواج (المتناقض) بأن السبب كان ببساطة أنه "كان أول رجل يوقظ الأنوثة فيّ". ورغم جرأة وصدمة مثل هذا التصريح، لكننا نجدها في جانب آخر خجولة أحيانًا وأقل جرأة أحيانًا، ففي المذكرات الشخصية لا تذكر اسم زوجها الثاني، الدكتور رشاد رشدي. ويبدو راجحًا فعلًا ما ذهب إليه الدكتور دومة بأنها هي التي لم تهتم بنشر رسالتها ومجهودها هذا؛ كجزء من نسيان وتجاهل هذه السنوات التعيسة.

ليلى المتمردة

 

من يقرأ "الباب المفتوح" (1960) سوف يجد أن لطيفة الزيات تتحدث فيه عن قناعتها وحلمها بضرورة التغيير الكامل للمجتمع، لكن التغيير سوف يحدث من خلال تحرر ليلى، الشخصية المحورية هنا، يتحرر الفرد ويشارك بعد تحرره في تحرير المجتمع كله. وخط تحرر الفرد هو الذي تطور وتبلور ويظهر أكثر في مجموعتها القصصية "الشيخوخة" (1986) التي تبحث فيها بطلتها عن ذاتها ومعنى وجودها، عن فرص وإمكانيات التغيير الفردية لنفسها. كان هذا القلق والتأرجح الفكري بين الإيمان بالفرد وبالذات، والإيمان بالمجموع، هو أيضا أحد ملامح تناقضات الطبقة الوسطى. ورغم أن كتابة لطيفة الزيات وشخصيتها كانت تتميز بالجرأة والصراحة، فقد قالت مثلًا لمنتقدي زواجها من الدكتور رشاد رشدي، أن الجنس كان سببًا في سقوط الإمبراطورية الرومانية، والمقصود أن الجنس هنا أيضًا كان سببًا في سقوط أي خلاف أيديولوجي بينهما. ولشدة تعلقها به بالفعل، كتبت بعد الطلاق تسأل نفسها: "هل استطعت حقًا أن أقتلعه تماما من جلدي حيث سرى في أعمق أعماق مسام جلدي؟".

 

مقابل هذه الجرأة يمكن تسجيل ملاحظة عن أن ليلى في الفيلم المأخوذ عن الرواية كانت أكثر جرأة من ليلى بطلة الرواية التي كتبتها لطيفة الزيات. في الرواية - مثلًا - لا يوجد مشهد قرار ليلى بفسخ خطوبتها من رمزي، خطيبها وأستاذها بالجامعة. بينما في الفيلم تقوم ليلى بمواجهة خوفها وهي تخلع خاتم الخطبة، وتضعه في يد فؤاد (محمود مرسي أستاذها وخطيبها في الفيلم) وتُخبر والدها بأنها ستسافر إلى بورسعيد تماما كما أرادت وكتبت في طلب تعيينها.

ليلى فتاة ذكية وحيوية في مجتمع تقليدي لا يريد ولا ينتظر من المرأة أن يرتفع صوتها أو تطالب بحقوقها، وهي لا تستسلم ولا تترك نفسها للوقوع أو للتوقف أمام المزالق الصعبة ولحظات اليأس أو الفشل في طريقها، لكنها تناضل كإنسانة من أجل هذا التحرر. ليلى هذه هي بمعنى من المعاني لطيفة الزيات نفسها.

بعد سنين من التجربة والمعاناة تقف لطيفة الزيات لتستعرض وتتأمل، ونحن معها، شريط حياتها وتقول: "كانت المرأة في زيجتها الثانية تختط طريقًا غير الذي اختطته امرأة سجن الحضرة، وتسعى إلى خلاص غير خلاصها، وتتغنى بحب غير حبها، تركت خلفها القصة حول حوض أسماك في بيتها مع زوجها الأول في سيدي بشر، والشعور بالزمالة والانتماء والرفقة، والود الصافي بلا تعقيدات، والموت خوفًا والبعث تجاوزًا للخوف، ونشوة الخطر والتحدي وممارسة الشعور بالتحليق فوق الحواجز، واختارت العودة إلى الحظيرة، والأغنية التي كانت للكل أصبحت أغنيتها وحدها، وكانت غارقة في وهم التوحد مع الآخر، كانت صغيرة ولم تعرف أن هذه بداية الانحباس في بئر بلا قرار، ولو لم تأت المرأة التي كانتها ومتأخرة لنجدتها لبقيت محبوسة، تتخبط في قاع البئر، أعرف الآن أن الحب الكبير لم يكن وحده محركي إلى زيجتي الثانية، لكنه قناع الرغبة في التواؤم، في الرجوع إلى البيت القديم والى أحضان الأب خوفًا ورعبًا، في الارتداد على ما كان، أتوقف الآن لاهثة وأنا أدرك أن الإقرار بهذه الحقيقة اقتضاني عمرًا، غيبته خلاله عامدة خائفة محملة بالشعور بالذنب، وإن تغييب هذا الإقرار هو الذي جعلني ردحًا من الزمن هشة كقطعة من البورسلين، قابلة للجرح من هبات النسيم".

يقول كامل زهيري في كتابه الممتع "مائة امرأة وامرأة" في مقال بعنوان "لطيفة الجسورة": "ونجحت في الدكتوراه ولم تحصل على الابتدائية في الزواج كما كانوا يقولون". وعن طلاقها من رشاد رشدي: "الطلاق كان إعلانًا بالإفراج عنها لأنها أخرجت رواية الباب المفتوح". يعود اسم الدكتور رشاد رشدي للظهور اليوم، بعد وفاته بسنين وبعد وفاتها بسنين، لا بدور "الصانع" هذه المرة، ولكن بدور أقرب إلى حفار القبور، بصفته السبب وراء اختفاء رسالة وإبداع وجهد الدكتورة لطيفة الزيات.