هوس امتلاك الآخر بالحب ليس إلا ورطة نفسية يصعب الخروج منها. قد تكون أسوأ ورطة يمكن أن تقع فيها الأم التي تتصور أن الحبل السري لا يزال متصلًا مع الأبناء. يدفع بها ذلك الهوس إلى مسار رحلة بحث مستمرة عن هدف مستحيل أو وهمي، وهو بحث يسبب العوار النفسي الذي يأخذ شكل انعدام الثقة بالذات ومحاولة حمايتها بشتى الوسائل التي غالبًا ما تكون عدائية.
في عام 1986 كتبت الراحلة لطيفة الزيات قصة بعنوان الشيخوخة، صدرت في مجموعة بالاسم نفسه. يختلف أسلوب تلك المجموعة تمامًا عن الأسلوب الواقعي لروايتها الشهيرة الباب المفتوح (1960)، التي اتخذت من المسار الزمني الطولي ركيزة للأحداث، فكان من السهل تتبع نضج ليلى ووصولها إلى الجوهر الذي يمنحها معنى لوجودها كامرأة.
أما في الشيخوخة، فاعتمدت الزيات أسلوبًا مغايرًا تمامًا، فالقصة عبارة عن يوميات من أزمنة مختلفة ورسائل كتبتها امرأة وهي في الأربعين ثم الخمسين، وفي زمن القصة تُعيد امرأة في الستين النظر إلى كل ما كتبته في محاولة منها للخروج من أزمة شديدة نتجت عن تورطها العاطفي الكامل في مدار حياة ابنتها.
فهي غير قادرة على ترك ابنتها تعيش بكليتها مع زوجها وترى أن ذلك يعني خللًا في العلاقة معها. في الوقت ذاته تحاول الابنة بجهد نفسي كبير، ومعها زوجها، أن يساعدا الأم على الفهم وعلى الخروج من ذلك المأزق دون فائدة. لا تخرج الراوية من الأزمة إلا بإرادة واعية ومواجهة شرسة مع ذاتها وتحليل دقيق لأحلامها وكتاباتها.
هذه القسوة
تعلن الزيات في بداية النص أنها على وعي كامل بالأزمة المتداخلة، ثم يدفعها الوعي المتقد إلى المقارنة بين ما قبل الأزمة وما بعدها "تربكني المرأة في الخمسين التي تطل عليَّ من هذه اليوميات وتفرحني وأنا في الستين. تفرحني بقدرتها على التجاوز، وتربكني بحدة مشاعرها واستطالة هذه الحدة".
ولأن التواصل أصبح شائكًا بين الأم وابنتها "مجرد الكلام، مع حنان كالمشي على الشوك"، ولأن الأم متشبثة بالكمال المطلق الذي كانت عليه علاقتها مع ابنتها من قبل ظلت تحاول استعادة ما مضى بكل ما تملكه من جهد. كان لا بد أن تبدأ الانفجارات الصغيرة المتشحة برداء الابتزاز العاطفي، كأن تقول الأم مثلا "أرجو ألا يكون هذا بداية تخليك عني"، وعندما أوضحت الابنة أنها تحاول إضفاء التوازن على علاقتهما، جاء الانفجار الثاني.
كشفت الأم كل الرسائل التي كانت تكتبها أثناء غياب الابنة، بما في ذلك الرسائل التي وصفتها أنها غير موجهة لأحد، بل مجرد لحظات تعرية كاملة للذات. كان ذلك الفعل مثل صفعة لحنان التي لم تقو على قراءة الرسائل وأعادتها لأمها في اليوم التالي.
في إعادة تأملها لما فعلته تدرك الأم أنه كان يُعبر عن أنانية مطلقة، مما يجعلها تتساءل "كيف واتتني هذه القسوة في مواجهة ابنتي؟ كيف أصالح بين رغبتي الواعية في الانسلاخ عن عالم ابنتي لتستكمل ما بنت في غيبتي، وبين رغبتي العارمة في إملاء جحيمي الداخلي عليها؟"
بهذه المواجهة تصل الأزمة إلى ذروتها، الأزمة التي حاولت الأم أن تعزيها إلى كآبة الشيخوخة وهي الأزمة التي دفعتها إلى ترك العديد من مشاريع الكتابة غير مكتملة بالإضافة إلى تأجيل عدد آخر منها. احتل هوس الأم بابنتها مساحة الوعي كلها حتى لم يبق لها أي ثغرة لينفذ منها الضوء. كان لا بد من تلك المواجهة مع عدد لا بأس به من الكوابيس لتبدأ الأم محاولة كسر طوق الهوس بابنتها والخروج من نفق التورط العاطفي الخانق للجميع.
المعقل الأخير للإنسان
ما من سبيل للخروج التام من التورط العاطفي في رحلة الأم/ الابنة للبحث عن الحب. بمعنى أن ذروة الأزمة لا تنتهي بالحل السعيد الهادئ المسالم. ما تفعله الأزمة في سياق الشيخوخة هو أن الذات الغارقة في الألم وفي وهم ضرورة التوحد مع الآخر، الذات المهجورة، الوحيدة، الباحثة عن مطلق السعادة، تضطر إلى الاعتماد على نفسها في الفهم والتحليل. من هنا يبدأ الألم الحقيقي الذي يرافق الخروج من النفق النفسي المظلم.
في رحلة التأمل والتحليل لم يساعد الأم سوى استعادة علاقتها بزوجها الذي رحل مبكرًا. أدركت أنها وقعت في الفخ نفسه من قبل، فتشكلت كينونتها من سعيها للتوحد المطلق معه "توهمت أني معقل حنان الأخير حين تعثرت زيجتها. توهمت زوجي أحمد معقلي الأخير. وما من معقل أخير خارج عنا. قدرات الإنسان على التجاوز هي معقله الأخير".
باستعادة كل محطات البحث عن المطلق تصل الأم أخيرًا إلى الإدراك الضروري لحياتها، ويتعمق الانفصام بعثورها على ما كتبته وهي في الأربعين من عمرها "الرغبة في امتلاك الآخر تستوي والرغبة في أن يمتلكنا الآخر، والوضعان وجهان لنفس العملة: محاولة لرفض الحياة المحكومة بالتغير ونسبية الأشياء".
في بحثها عن المطلق في الآخر- التوحد معه- تصل الأم إلى فهم معنى تغير شكل المشاعر- وليس الشعور ذاته- وهي قناعة احتاجت إلى رحلة لابد أن تترك ندوبها على النفس. هل هي رحلة نضج؟ نعم ننضج حتى ونحن في الستين لندرك أن "الشيخوخة هي شعور الفرد بأن وجوده زائد على حاجة البشر، وأن الستار قد أسدل ولم يعد له دور يؤديه، وهي الافتقار إلى معنى الوجود ومسوِّغه الناتج عن هذا الشعور".