في ربيع 2015، كانت السيدة العجوز تبتسم وهي تقرأ خبر وفاتها على فيسبوك وبعض المواقع الإخبارية. في ذلك اليوم، ضحكت السيدة على الشائعة التي من المفترض أن تكون مثار إزعاج. لكن بالنسبة لها هي، نوال السعداوي، كانت مثار "سعادة بالغة"، لأنها أظهرت "قيمتها الكبيرة" التي أكدتها عشرات الاتصالات التي أتتها من مختلف أنحاء العالم، لتطمئن على أنها ما زالت قادرة على المشاغبة.
اليوم، وقد تغير الموقف، وما كان شائعة في زمنه بات حقيقة تؤكدها عبارات رثاء من مئات المحبين، ربما ما زالت السيدة على موقفها المستهين بالموت، الذي أكدته قولًا وفعلًا بأفكار ستعيش طويلًا بعد فناء الجسد. أفكار تحدت موروثات المجتمع وسلطته الأبوية، وانتصرت للمرأة بعد أن رسّخت جلّ حياتها في نضال لتحقيق المساواة على مدار عقود بدأت منذ خمسينيات القرن الماضي وربما أبعد.
صراخ الطفلة
استيقظت الطفلة نوال من نومها الآمن في سريرها على وقع كابوس حقيقي؛ أيادٍ كثيرة حولها تعبث بجسدها وتنتهكه، واحدة تحكم قبضتها على فمها لكتم صراخها، وأخرى تثبت رأسها وثالثة ربما تمسك بيديها وساقيها. أيادٍ أكثر من أن تحصيها طفلة ما زالت تتعلم العد قيدتها وشلت حركتها، لحساب يدٍ تسنَّ نصلًا سيبتر بعد لحظات أعضاءها التناسلية ويترك أثرًا لن ينمحي.
في ذلك اليوم صرخت الطفلة، فتحت عينيها لتفاجأ بمن حولها وهم يحتفلون بما حدث لها ولشقيقتها الصغرى، ومنذ ذلك اليوم وحتى رحيلها عن 90 سنةً ظلت العينان مفتوحتان دون غفلة، أما الصوت فلم يعد صراخ طفلة بل نبرات هادئة حينًا وغاضبة أحيانًا ولكنها واثقة دائمًا، لا تأبه أبدًا بما تجلبه عليها من هجوم حاد.
عدم الاكتراث للهجوم والثبات على القناعات الصادمة للمجتمع وتقاليده، ظل سمّة مرتبطة باسم نوال سعداوي، التي لم تتزحزح عن هذه القناعات حتى حينما كانت سجينة، كتبت مذكراتها على "ورق تواليت"، وفيها اعترفت أنها "اقترفت الجرائم جميعًا".
نوال المولودة في الربع اﻷخير من عام 1931، وبينما هي تتم عامها الخمسين في 1981، أودعت السجن بسبب هجوم السادات على الجميع.
في تلك الأوراق التي صدرت عام 1983 تحت عنوان مذكراتي في سجن النساء قررت نوال أن تعترف بجرائمها، ليس للسلطات بل لقرّائها. اعترفت بأنها ارتكبت كل الجرائم "كتابة القصة والرواية والشعر، ونشر البحوث العلمية والأدبية، والمقالات المنادية بالحرية".
لم تكن تلك فقط الجرائم التي ارتكبتها الطبيبة، فما سمته نوال بـ"الجريمة الكبرى" كان أنها "امرأة حرة في زمن لا يريدون فيه إلا الجواري والعبيد".
لم تستسلم نوال للزمن وأهله. اختارت الحرية والاستقلال منذ طفولة تعلمت فيها معاني الألم والانتهاك، مثلما تعلمت معاني المقاومة عندما هم شقيقها الأكبر بعد سنوات بصفعها، فما كان منها إلاّ أن باغتته هي بيد أعلى من يده وصفعته، في صدام ليس فقط مع الأخ الأكبر بل ما كان يمثله من سلطة بدا أنها في طريقها إلى أن تنتهي، على الأقل بالنسبة للطفلة نوال.
أكثر من مجرد صفعة
صفعة نوال للأخ رسمت لها فيما بعد نمطًا في التعامل مع أي صفعات أخرى محتملة، فهي نفسها الزوجة التي استبقت صفعتي زوجيها الأول والثاني، وقررت هجرهما لمجرد محاولتهما السيطرة عليها.
نوال أيضًا هي من صفعت البيروقراطية حين هددها رئيس عمل بدرجة وزير إما بالامتثال للطاعة أو الفصل؛ فاختارت الفصل عن الانقياد، في تطبيق لقرار وعهد قطعته على نفسها بمجابهة أي وجهة للسلطة كان منه ما شوّه طفولتها بواقعة البتر البعيدة تلك.
طلاق، فصل من العمل، وهجوم مجتمع كامل عبر وسائل إعلامه. خسارات فادحة؟ نعم. هل التعرض لها مؤلم؟ بالتأكيد، ولكنها كانت في الوقت نفسه خيارات جسورة، ومجنونة، يمكننا أن نصفها بأشياء كثيرة لن تغير شيئًا مما قررته نوال؛ أن تسنَّ قواعد جديدة في التعامل مع النساء، فجابهت السلطة بكافة أشكالها، وفي مختلف مراحلها العمرية، مراهقة شابة وعجوز، وكذلك مختلف أدوارها الإنسانية والمجتمعية، طبيبة كاتبة وزوجة.
أدت السيدة أدوارها من أجل مجتمع أفضل، تعيش فيه بينما تدرك جيدًا أنها لن تكون مفضلةً بالنسبة لأي سلطة، سواء أبوية أو دينية أو سياسية، حتى تلك التي كرمتها. في أعقاب تكريمها رسميًا بوسام قلّدها إياه الرئيس التونسي آنذاك، الباجي قايد السبسي، علّقت على هذا التكريم بقولها إنها لم تحصل عليه ﻷنها في صف السبسي، بل إنها ذهبت لأبعد من هذا القول، وأكدت أن "مفيش رئيس دولة أو حكومة يحبوها"، وأن مَن منحها التكريم هو الشعب "بفضل تأثير كتاباتها على الناس".
بالمثل وفي مصر، كان للسعداوي آراؤها في النظام الحالي وأدائه، فهي من مدحت الرئيس عبد الفتاح السيسي باعتباره "رجل جيش" أعلنت تأييدها له في "التخلص من الإخوان"، لكنها في الوقت نفسه انتقدت ما جرى فيما بعد 30 يونيو من "سجن الشباب، خاصة المرتبطين بثورة يناير"، وكذلك إصداره "قانون التظاهر"، الذي رأت فيه محاربة لمتظاهرين سلميين على فكرهم.
فكر العجوز
وكأن كل ما مرّ بنوال أو مرّت هي به في سنوات الصبا والشباب لم يكن مُشبعًا لروح المغامرة والتجديد بداخلها؛ فحافظت على أفكارها ثابتة لكن متجددة تبعًا لما تشهده مصر بل والعالم من مستجدات.
فالطفلة التي تعرّضت للختان، هي مَن قالت في شيخوختها إن البنات هن من يطلبن ارتداء الحجاب والخمار، وليس عن حرية اختيار، بل "غسيل مخ" ألقت باللوم فيه على الحكومات المصرية لأنها فتحت المجال للسلفيين وحدهم لنشر أفكارهم عن "الختان والحجاب وزواج القاصرات وعذاب القبر".
وحين ظهر تنظيم "الدولة الإسلامية" رأت فيه نوال "صنيعة الاستعمار الغربي"، ونفت بشدة الاتهامات التي ترددت آنذاك للثورات العربية من أنها "السبب في ولادة التنظيمات الأصولية" واعتبرته من قبيل "تشويه الثورات العربية" التي أكدت أنها الربيع العربي "ضد الأصولية الدينية التى صنعها الاستعمار الخارجي منذ ولادة جماعة الإخوان المسلمين في عهد الاحتلال البريطاني لمصر".
ورغم من وضوح مواقفها، خاصة فيما يتعلّق بتجديد الخطاب الديني، لكن بعض التجارب التي شهدتها مصر في العقد الحالي لم ترّق لها، إذ رأت فيها أفكار مراهقة أكثر من كونها تجديدية، فالحديث عن البخاري وروايته للأحاديث لم يكن بالنسبة للسيدة أهم من تعديل السلوكيات، خاصة فيما يتعلّق بإجبار الفتيات على الختان أو الحجاب أو الزواج المبكر.
صفعات نوال للسلطات المختلفة، ومحاربتها لسلوكيات شائعة اجتماعيًا، لم تكن بلا ثمن، فهي الكاتبة التي منعت السلطات الدينية تداول روايتها سقوط الإمام، وقدمت بلاغًا ضدها للنائب العام بسبب رواية أخرى هي الإله يقدم استقالته.
الضرر لم يصب نوال على المستوى المهني فقط، بل طال حياتها الشخصية، فهي التي حاول البعض إقامة دعوى حسبة للتفريق بينها وزوجها، في تكرار لما حدث من قبل مع الدكتور نصر حامد وزوجته.
لكن وعلى الرغم من الهجوم والدعاوى، ظلت نوال على موقفها، تتحدث بثقة عن قناعاتها، تعارض السلطات المجتمعية والدينية والسياسية وممارساتها ولو كان الجميع ملتزمًا بها، وظلت على قناعتها دون تزحزح أو شك حتى يوم رحيلها.