منشور
الخميس 30 مارس 2023
- آخر تحديث
الأربعاء 22 مايو 2024
كان صوت نوارة نجم وهي تتحدث من هاتفها إلى قناة الجزيرة، خلال الأيام الأولى من ثورة يناير، هو صوت إعلان انفكاكي من سلطة أمي. كانت جملتها "مفيش ظلم تاني، مفيش ذل تاني" إيذانًا بالنزول للهو مع أصدقائي في الشارع، بمواجهتي لسلطة أمي التي حاولت منعي من النزول. شكَّل ذلك الصوت طبيعة علاقتي بالسلطة في طفولتي، التي فهمت أنها تنتظر صوتًا ما، لأعرف إن كنت أخضع لها أم تخضع لي.
عندما أعلنت دار الكرمة عن كتاب وأنت السبب يابا... الفاجومي وأنا، لنوارة نجم الذي يستعرض علاقتها بأبيها، لم أتحمس مطلقًا لقراءته لأسباب تتعلق بأن سيرة الشاعر الراحل قُتلت بحثًا، ونقل عنه ما فعل وما لم يفعل، وما يجب الآن، من وجهة نظري على الأقل، هو جمع أعماله مدققة في مجلد يحميها مما نسب إليها من شعر ركيك مثلما حدث مع طبعات كثيرة ادعت أنها أعماله الكاملة وصدرت عن جهات بعضها حكومي.
غير أن ما أحدثه الإصدار الجديد من ضجة دفعني لقراءته، ولكن بنية أنه لو كان عن "نجم" فسأتركه فورًا، ولكن سلاسة التنقل في حكي نوارة عن نفسها، وتبدل أصواتها من مرحلة الطفولة إلى المراهقة والشباب ثم الأمومة؛ أربكني.
ليس عنه بل عني
عنوان الكتاب اختارته نوارة من الأغنية الشهيرة لمقدمة مسلسل حضرة المتهم أبي، التي كتبها نجم، وتقول في مطلعها "نازل وأنا ماشي ع الشوك برجليا/ وأنت السبب يابا يالي خليت بيا"، في إشارة واضحة إلى أن بطل الكتاب ليس الشاعر نفسه وإن لن يغب عنه بالكلية، تقول نوارة، في حوارها للمنصة "لم أقصد الكتابة عن أحمد فؤاد نجم، بل عن علاقتي به كأب، وأثر اختيارته عليّ، وكيف أن تلك الاختيارات غيرت مجرى حياتي كله حتى بعد مماته، وكيف كنت أراه، كنت أتحدث عن نفسي، وفكرة الكتابة ألحت عليّ بسبب موته، لأنه لم يعد هناك متسع لإجابته عن أسئلة تشغلني عنّا".
يسيطر على الكتاب أرق الهوية التي يحددها سلفًا انتمائك لعائلة ما، وتتشكل وفق انحيازاتها وخلفياتها الثقافية والسياسية والاجتماعية، وكأن هناك شعور يهيمن على الكاتبة بأن كل اختياراتها لم تنبع من إراداتها الحرة بل نتيجة لانتمائها البيولوجي لأب وأم بعينهما، وربما توحي الأغنية التي اقتبست افتتاحيتها عنوانًا للكتاب، بسعيها لقطيعة أو تصالح مع تلك الهوية التي تحمّلها ذنبًا ما.
توضح للمنصة "علاقتنا كانت جيدة دائمًا خصوصًا عندما كبرت، ولكن هناك أسئلة تشغلني لم أثق فيما وصلني من إجابات عليها"، وأكثر سؤال ألح عليّها كان "إذا كان أبي يحبني أم لا؟ هذا هاجس عندي من بداية وعيي حتى لحظة كتابة الكتاب. 'بابا فين' كانت تلح عليّ تلك الجملة، الأسئلة كانت تدور من خلالها".
وتتابع "لمتُ أبي وأمي، لأنني كنت أظن زواجهما سبب المشكلات التي واجهتها في حياتي، ظللت أطرح على نفسي أسئلة مثل: هل كنت سأشارك في الثورة إذا لم أكن ابنتهما؟ ربما كنت أصبحت مثل أصدقائي فلول، لماذا أيضًا أعطي نفسي حق المشاركة في الثورة، ربما شاركت بسبب أنني ابنتهما، أعني نظرًا للبيئة، كل هذه الأسئلة طرحتها على نفسي".
وصاحبت نوارة تلك الأسئلة حتى "قبل بداية الكتابة لم أكن متسامحة مع أي منهما، لدرجة أنني تعاركت مع صورة أبي، حتى جاء الأستاذ إبراهيم عيسى وقال لي ما كتبته في بداية الكتاب 'يجب أن تكتبِ عن أبيكِ'، في الكتاب تحولت مشاعر الغضب تجاه الجميع إلى تعاطف وتسامح في النهاية، حتى أنني تسامحت مع سلطة الحجاب التي فرضتها أمي عليّ، من خلال التفكير في أنها كانت تربيني وحدها، وسط مجتمع يضطهد جميع النساء، خصوصًا الأرامل والمطلقات، بمعنى أو بآخر فهمت أنها كانت تريد ستري كما يقولون بالبلدي".
أب عارٍ وأم شجاعة
في "وأنت السبب يابا" تتداخل أصوات الساردة بين مراحلها العمرية ببراعة، تنتقد من خلالها مفهوم سلطتي الأب أو الأم، ثم تتعاطف معهما. وفي بعض الفصول، تحكي نوارة مواقف ربما لا يعرفها غيرها عن نجم، فتظهره في بعض الأحيان في صورة مغايرة لما اشتهر به، حيث أن الشاعر الثائر الذي عدّه المتظاهرون في يناير رمزًا، يرجو ابنته، خائفًا، أن تترك الميدان وتعود إلى البيت، وكأن نوارة تستخدم الكتابة في تعريته، وفي الوقت نفسه تسرد الموقف المعاكس للأم، الذي ربما يمنح القارئ شعورًا بأنها لا يهمها ابنتها.
تقول للمنصة "نجم وفر عليّ ذلك، لأنه كان يحكي عن نفسه كل شيء، الحديث عن الذات مع وضع فواصل أخلاقية، يزيفها وتصبح الكتابة غير صادقة، بلا قيمة. ما فعله أبي كان عاديًا، حتى برجائه عودتي إلى المنزل، في الآخر هو أب. ما كان عجيبًا هو موقف أمي، التي شجعتني على نزول الميدان، لكن ما أعتقده من خلال ما عايشته في حياتي أن تلك طبيعة الإناث، قدرتهن على التحمل، عكس الذكور دائمًا داخلهم أرهف في رأيي، تعلمت من أمي مثلًا الضغط على النفس".
تتراوح المشاعر في الكتاب بين الغضب والرضا، اللذان يظهران مثل طبقتين تعلو أولاهما الأخرى، فكأن الغضب من الجميع، الأب والأم والذات، تقبع تحته طبقة من التعاطف. توضح نوارة "الكتابة ساعدتني على مراجعة نفسي، لا الأم والأب فقط، أنا تحاملت على نفسي بسبب أنني كنت محاطة بأمي وأصدقائها الشُجعان وربما أثر ذلك عليّ، وأدركت مفهوم الشجاعة بشكل خاطئ، لأن ما فعلته مع نفسي أثناء الثورة، أنظر إليه الآن بعين أخرى. ما فعلته يعد قسوة على النفس وليس شجاعة. لماذا مثلًا قررت أن أذهب إلى المشرحة وأمر على الشهداء واحدًا واحدًا، أو أقبل على مواجهة الضرب بدلًا من الركض والهرب مثلًا. كل هذه الأحداث أثرت عليّ. صحيح أن الزمن لو عاد، سأفعل ما فعلته مرة ثانية، لكن عليّ مواجهة نفسي بأنني تحاملت عليها".
ربما تُحيلنا بعض من فصول الكتاب وما تحمله من مشاعر إلى رغبة في مناقضة الصورة المثالية عن الآباء وعلاقتهم بأبنائهم التي تصدرها الميديا الآن، لكن نوارة تنفي أن يكون ذلك ما أرادته من النص "لم يخطر لي أن الكتاب سيشتبك مع ذلك كله. بمجرد ما بدأت الكتابة، حدث نوع من أنواع التدفق الشعوري، ربما هذا رد مبالغ فيه لكن بسبب ما صنعته التربية التي تأمرنا على البر والطاعة فقط 'وبكرة أما تخلفوا هتعرفوا'، أنا عندما كبرت، أخبرت أمي أن ما كان عليّ فعله هو إبلاغ البوليس عنها وعن أبي بسبب ما حدث معي، وكانت تضحك. أعتقد أن هذا رد فعل على التراث التربوي الخاطئ، وربما بعد ظهور جيل آخر تربى بشكل مختلف يتوازن الأمر".
الناقص من الأسئلة
ورغم أن "وأنت السبب يابا" يُصدّر الشك والتساؤل أكثر من اليقين، كان غريبًا أن يتضمن حوارنا مع نوارة التي يعدّها البعض أحد ركائز ثورة يناير، ربطها المشاركة في الثورة بعلاقتها بنجم وصافيناز. هل يعني ذلك أن ثمة ندم على تلك المشاركة؟ تقول للمنصة "لم أندم مطلقًا على مشاركتي في الثورة، ولا أعتقد أن أي من أبناء جيلي نادم على ذلك. شغلني فقط سؤال حول إن كنت شاركت فيها لأنني ابنة نجم وصافيناز؟ أم شاركت لأنني جزء من جيل كان يحلم بوطن مختلف".
ولعل سؤال مثل ذلك وغيره، هو ما يفرض أن تتوقف نوارة بالتفصيل أمام قصصها التي ترصد علاقتها بأبيها وأمها والثورة. رغم ذلك يبدو أنها تمر عليها سريعًا، وتتركها مبتسرة في بعض الأحيان، وكأنها تترك عن قصد للقارئ مساحة لخيال تتمظهر فيها العلاقة بالسلطة بأشكال مختلفة "تعمدت الحقيقة المرور بهذا الشكل على الثورة، لأنني في بداية الكتاب قلت إنه عن علاقتي بأبي، وقصدت أن أحكي عن الثورة من خلال علاقتي به هو، ليس عن تجربتي أنا مع الثورة".
وتتابع "هناك قسوة في تذكر ما جرى معي وجيلي فيها، قسوة جعلتني بشكل لا واعي أنسى تلك الأحداث كأنها لم تحدث، عندما فرغت الشحنة كلها في الكتابة، لم يخطر لي إنه سينشر، لكن في احتمالية نشره، كنت أريد مواساة القارئ، أو بشكل أدق الطبطبة عليه، وتحديدًا النساء".
"النساء اللواتي عانين ومازلن يعانين من مشاكل تجاه الأب والأم، والمجتمع، وكان هذا من خلال توبيخ من تعرضوا لي عندما خلعت الحجاب، بأوصاف مثل 'كرته، الحجاب ياما بيداري بلاوي، ياللي تشبهي الترانسجندر'، كل ذلك كان مؤلم، لكن كان الألم مضاعف لأنه كان من نساء مثلي، لم أهتم بالهجوم الذي واجهته من الرجال، حاولت تأنيب النساء اللائي ألمنني، لكن لم أرد الانتقام منهن".
رغم تلك النية، نية الابتعاد عن وصف التجربة الذاتية لخوض يناير، فإننا لو أردنا اختصار الكتاب في كلمات كما فعل دافيد فونكينوس مع روايته نحو الجمال، فربما تصبح "تمرد، مساومة، غضب" وهي كلمات تعبر في ثناياها عن كلمة "الثورة"، الثورة على المجتمع وأفكاره عبر صوت نوارة التي تقول في نهاية حوارها مع المنصة "بعد الانتهاء من الكتاب رأيت نجم كقول رأفت الميهي 'شخص أوسع من الحياة larger than life، وربما أنا ممتنة لأن الكتاب جعلني أنظر إليه هكذا، وأنظر إلى الحياة بذلك الشكل".