ربما لم يتحرك كتاب القاص هيثم الورداني الأحدث "بنات آوى والحروف المفقودة.. عن الحيوانات الناطقة في لحظات الخطر"، كثيرًا عن منطقة بدت مترسخة مع كتابه السابق "ما لا يمكن إصلاحه"، كتنويعات قصصية على المشروع الفكري الواحد الذي يُقدَّم ضمن أفكار تحوم حول اللغة ومن خلالها.
ابن آوى أساسًا من الحيوانات المألوف رؤيتها في الحياة اليومية، ربما لأنها مخلوقات كثيرة الترحال، فتوجد خارج المتنزهات وفي الأراضي الزراعيّة وداخل القرى والمدن.
وفي حواره مع المنصة، ينطلق الورداني من تسمية الكتاب المربكة نوعًا ما، مقارنة بعناوينه السابق الأبسط في تركيبها ومعانيها. يقول "كنت أبحث عن عنوان يشبه عناوين كتب الصغار. فأفكر مثلًا في عناوين الروايات التي كتبها صنع الله ابراهيم للأطفال، أو عناوين قصص المكتبة الخضراء. ربما لأني كنت أشعر أن هذا الكتاب بحاجة إلى عنوان أكثر خفة من المتن المثقل بتفاصيل وإحالات كثيرة. كان واضحًا بالنسبة لي أني أرغب في استخدام كلمتي "بنات" و"آوى" في العنوان، بسبب خصوصيتهما اللغوية، فالكلمتان تشيران إلى فصيلة أفرادها مذكرة في حالة المفرد، ومؤنثة في حالة الجمع. وقعت في غرام هذا الاسم. كما هو معروف فإن تلك الفصيلة هي فصيلة الأخوين كليلة ودمنة. وكتاب كليلة ودمنة هو أحد الكتب الرئيسية التي يدخل كتابي في حوار معه. جربت أشياء كثيرة في العنوان مستخدما بنات آوى، إلى أن ارتحت إلى الصيغة الحالية".
بعد كتابه الأول "خيوط على دوائر" الذي نشره بالتعاون مع عدد من المؤلفين، قدّم أول أعماله المنفردة "جماعة الأدب الناقص"، الذي دار حول لحظة مثالية ينتظرها "مستقبلًا"؛ تلك اللحظة المتخيلة الوهمية التي ينشأ عنها الحدث وأزمته، ومن خلال تأمل لغوي استهجن النظر إلى المستقبل كطوق النجاة.
ثم في كتاب "حلم يقظة" حكى بفرادة عن هوية المهاجرين وتصوراتهم عن المكان وعن العيش في "لغة أخرى" غير اللغة الأم، كتب عن حالة البين بين، يندم على سفره ويتعايش معه، يرمم الماضي ويسعى للمستقبل غير المفهوم، وعن أبطال يفكرون من خلال اللغة التي تُعيد تعريف ذواتهم مرة أخرى.
ثم في "كتاب النوم" الذي كان مثل تمارين للاختفاء والظهور من جديد كإنسان دون ماضٍ أو رافض له "النوم في انشداده نحو المآسي وفي استعادته لها يستخلص من الماضي لغة جديدة، إذ ما هي اللغة إن لم تكن تلك القدرة على انتزاع ما حدث من نفسه ليصبح قادرًا على الحدوث خارج نفسه؟ ما هي اللغة إن لم تكن قادرة على التحوّر ومغادرة ذاتها لصنع معاني جديدة؟".
بحث طويل أم قصص
يقف مشروع الورداني في مقابل الأسلوب الذي يغري الأغلبية من الكتّاب والقراء على حدٍ سواء، فإنه لا يتجاوز المنطقة التي جرّب فيها كتابه السابق، ربما ينطلق منها لا ليكرّر ذاته بل للحفر أعمق، وربما تساعده أصالة تلك المنطقة التي يختارها وجموحه المستمر للتنقيب عنها من خلال قصصه للنجاح.
كل قارئ لكتاب الورداني سيدرك معركته الشخصية مع تصوراته/ تصوراتنا عن اللغة، كيف نفهمها ونتواصل من خلالها أو بالتنازل عنها؟ ماذا تعني السردية التي تخص الكلام والصمت؟ هل ثمة طرق أمامنا للتواصل لا نراها من خلالها جمودنا "اللغوي"؟ هذه المرة يترك الورداني مساحات الصمت التي كانت تقول كل شيء في بعض قصصه السابقة في "ما لا يمكن إصلاحه" ويذهب للتواصل الحيواني الذي يصلح كمجاز واضح للتواصل البشري من خلال استنطاق الأولى.
كيف يمكن أن نفهم الخرافة في إطار تواصلنا البشري؟ ماذا تعني لو أردنا التواصل من خلالها؟ منذ كليلة ودمنة وحتى الآن ماذا يعنيه تواصل الحيوان كتصحيح لفهمنا اللغوي؟ وما علاقتنا أساسًا باللغة التراثية التي حملت تلك الكتابة الأولى عن الخرافة ومنها بالظرفية التاريخية الزمانية والمكانية التي نعيشها؟
أحيانًا يبدو الكتاب كبحث طويل وسرد عقلي. المؤكد أن سردية القصص لا تأخذ الشكل التقليدي للحكي وسط مئات الهوامش والمقاطعات التي تذكّرك أن المؤلف يريد أن يفكر معك لا يحفز خيالك فقط، قصة مثل "اللسان المشقوق" تشهد على ذلك ككتابة تبدو بحثية تمامًا في قالب قصصي.
بينما في القصة التي سبقتها "الأيدي العاملة" التي كانت إلى جانب قصة "وأين قلبك؟" أرق قصص المجموعة على الإطلاق، وضع الورداني ربما كل شيء يحكي مشروعه في أبسط وأعمق شكل ممكن، تحدَث عن الحيوان ككلمة علينا الوعي بمجازها، الحيوان ككلمة تعني التكرار المستمر دون توقف، تلك الحياة في اللغة تسمى الحيوان، ما يعني أن الحيوان ليس اسمًا فحسب بل صفة منحتها اللغة لكل حياة منزوعة التاريخ. حياة من يحياها لا يعيش أو يموت، أسس التاريخ واستبعد، فجمّد في داخله، الحيوان إذن موقع خاص داخل التاريخ.
كتاب مرهق أكثر مما يبدو
يهتم الورداني بتفسير ما تضمنه كتابه من هوامش كثيرة، قد تقلل من تورط القارئ في الخيال القصصي الذي قد يعده بحث طويل في قالب أدبي، يقول للمنصة "الهوامش في الكتاب، ليست مجرد سرد لمصادر معينة، وإنما تحدث فيها أيضا أشياء أخرى. ليس في كتبي السابقة هوامش كثيرة، ولم أستخدمها بشكل واع من قبل.
الهوامش هنا فرضت نفسها بسبب الطابع البحثي الموجود في الكتاب، ثم بدأت انتبه شيئًا فشيئا إلى حضورها. وجدت أن بالإمكان الاشارة إلى أشياء في الهامش وليس في المتن، من أجل الاحتفاظ بسلاسة الأخير. يكفي وضع علامة الهامش في موضع معين من الجملة من أجل الانتقال إلى سياق آخر له صلة بما تقوله الجملة، لكني لا أرغب أن أثقل الجملة به، على أهميته. في البداية كنت أشعر باغتراب حيال الهوامش، ثم أصبحت أحب استخدامها بالشكل الذي أوضحته، أي تخفيف حمولة الجمل، ووضع سياقات مهمة في حوار معها".
ويستكمل "لكن هذا السؤال هو أيضًا سؤال عن جنس الكتاب الأدبي. هل هو كتاب قصصي أم بحثي؟ ما أفهمه عن نفسي هو أني كاتب وجد نفسه مهتما بأشياء تحتاج إلى بحث، وفي الوقت نفسه لا يملك أدوات بحث أكاديمية، ولا يرغب في الكتابة مثل الأكاديميين. فماذا يفعل هذا الكاتب؟ بالنسبة لي هذا الكتاب هو كتاب أدبي، حقله الأساسي الأدب، وليس الأكاديميا أو الفلسفة، رغم صلة القرابة التي تجمعه بهما. ورهاني أن القارئ سيجد قيمة أدبية في عدم احترافية أدوات البحث، أي في الإصرار على رفض تقسيم المعرفة إلى حقول منفصلة مثل الأدب والفلسفة والأكاديميا. إذا كان لازمًا ولا بد من تصنيف الكتاب، فأنا لست معجبًا بتقسيمات مثل فيكشن ونونفيكشن السائدة حاليًا".
يقترح الورداني تصنيف الكتاب "بوصفه كتابًا شعريًا، على غرار كتب أخرى مثل كتب علاء خالد وإيمان مرسال. كتب مثل خطوط الضعف أو مسار الأزرق الحزين، أو كيف تلتئم أو في أثر عنايات الزيات. هذه الكتب المدهشة والمربكة هي أعمال تندرج في إطار مشروع الشعر، رغم نثريتها. الشعر كما أحب أن أفهمه ليس جنسًا أدبيًا، بل إن الأدب بأكمله جنس من أجناس الشعر. وما مشروع الشعر؟ لعل هناك مشاريع كثيرة له، لكن المشروع الذي يخصني هو العثور على شكل يمكن أن يتجسد فيه عدم قبولنا بما هو معطى لنا. الشعر هو طريقة أدبية لرفض القبول بالمكتوب".
يسير الورداني في القصص بتأملات سردية اعتادها القارئ، حتى يتطرق إلى تصوراتنا الشخصية عن الخرافة التي تنتج في حديثنا عن الحيوان كحياة وصفها من قبل أو ربما من خلال ذلك كله، يعيد إنتاج لغة حية أكثر في سياق حوار عن خرافة تعدها اللغة المعتادة موت وسكون. قصة متماسكة تنتج تصورًا شاملًا يحتاجه مشروع الكاتب ببساطة شديدة غير مخلّة.
في 12 قصة يتابع الورداني مرة بعد أخرى تأملًا سرديًا في ما يمكن أن نتواصل من خلاله، حول استحاله تواصلنا عن طريق اللغة أكثر من تواصلنا بها، فيما يمكن أن نعيه من خلالها تصوراتنا الشخصية غير الواعية عنها، لا يطرحها كنقطة ضعف بشري قدر ما يحاول تأملها مع قارئه دون وصاية، تارة يتعامل مع الكلام لا كسلوك بل كعلم قائم بذاته مثلما فعل في قصة "علم الكلام" مثلًا، وأخرى يتناول السعادة في سياق لغوي يجعلها تُسمع لا يستخدمها كفعل شعوري معتاد مثلما كان في قصة "تأتي السعادة فلا نكاد نسمعها"؛ عناوين وسياقات متداخلة تعيد استقبال اللغة في كل مرة ولا تيأس من إنتاج تأكيد مستمر حول إجبارية إعادة تأويلنا للغة وما يمكن أن يُنتج من خلالها.
ينقل الورداني حيرته من الكتاب قائلًا إنه أحيانًا يفكر أنه "كتاب عن العجماوات (البهائم) إذا تكلمت"، وأحيانًا "كتاب عن وراثة الماضي المفجع"، وأخرى عن المستقبل والاقتباس واللغة. يقول "لا يمكنني الجزم حول موضوع الكتاب الأساسي، لكن اللغة محور جوهري فيه بكل تأكيد، لأن اهتمامه الأساس هو سؤال عن الذي يمكن أن يحدث عندما يتكلم من لا يمكنه الكلام. هو سؤال يخص اللغة بالتأكيد، لكنه يخص ملمحًا محددا فيها، وهو كلام من اُستبعِد من الكلام. لا أدري حقًا لماذا أعود كثيرًا إلى أسئلة تتمحور حول اللغة. كل ما يمكني قوله هو أن أسئلة اللغة بالنسبة لي ليست أسئلة تخص اللغة في حد ذاتها، وإنما دائمًا أسئلة لها علاقة بأشياء أخرى مثل التاريخ والخبرة المعاشة والرغبات… إلخ، كلها أشياء تكوّن اللغة، وتتكوّن بها".
"هناك شيء غير محلول في هذا الكتاب. شيء مشوَّش، ومشوِّش. هناك تداخل، أحيانًا مزعج، بين ما هو قصصي وما هو فكري وأيضًا ما هو بحثي. في هذا الكتاب الروح القصصية تعكّر صفو الروح المتأملة، والعكس صحيح. ولم يكن لدي رغبة في تنظيم وتشذيب تلك المادة. بل كنت أشعر أن شكلها الحالي هو أقرب شكل يناسبها. تيارات مختلفة يخترق بعضها البعض. لكن تلك الطريقة ليست المناسبة دائمًا. أعتقد أن كل مشروع أدبي يحمل معه شكلًا خاصا به، ويفرضه على من يكتبه من أجل تطويره". يقول الورداني. الذي ربما يوحي تصريحه ذلك بأن ثمة ما ينتظر "المنطقة" ذاتها من الكتابة والبحث في عمله المقبل. رغم أنه حسبما ختم حديثه للمنصة ينوي "الابتعاد قليلًا عن الكتابة، فـ"بنات آوى" جلعه يشعر بالإرهاق بعد الانتهاء منه أو "الزهق"!