كتبت الصديقة السكندرية ميار مكي على فيسبوك عن واقعة التحرش التي تعرضت لها في منطقة السيوف، قريبًا من قسم شرطة المنتزه بالأسكندرية أول هذا الأسبوع. كان الشارع نصف مظلم بسبب "تخفيف الأحمال"، فتحرش بها حدث. أخبرتني أن عمره لا يتجاوز الخامسة عشرة.
صَرخَت وركضت وراءه حتى كادت سيارة أن تصدمها، فأمسك به المارة لظنهم أنه سرق منها شيئًا، ولكن ما أن علموا أنه تحرش بها إلا وتبخّرت المروءة، وبدأوا يساومونها بضربه لتأديبه، عوضًا عن اتخاذها الإجراءات القانونية.
تمسكت ميار بحقها القانوني، ورفضت العدوان البدني على الحدث الجاني، وهنا تحول المارة إلى كتلة ذكورية متضامنة مع الصبي/الذكر، رافضين تعرضه للحبس. ونجحوا أخيرًا، بعد العدوان اللفظي عليها وعلى المحامي الذي هُرِع إليها، في تهريب الجاني.
في قسم الشرطة، غرقت ميار وزوجها والمحامي في إجراءات بيروقراطية طويلة تتخللها ضغوط من أفراد الشرطة للتصالح والنزول عن حقها. لم يتعامل معهم بشكل مهني وحقّاني سوى اثنين من الأفراد.
ولكن ميار تمسكت بحقها، خصوصًا ضد المتواطئين الذين هرّبوا المتحرش وتعدوا عليها ومحاميها لفظيًا، وأصرت على تحرير المحضر. وهي الآن في انتظار إحراز أي تقدم في ضبط وإحضار المطلوبين.
محاولة للفهم والتفسير
فور قراءتي لتفاصيل ما كتبته ميار شعرت بغضب عارم، متخيلًا نفسي ذاهبًا إليها للتضامن والمناصرة، ثم مشتبكًا، ربما بدنيًا، مع أكثر من 10 من المتواطئين دفاعًا عن متحرش مجرم، في عمر الأحداث. لقد انفعلت جدًا بهذه الواقعة؛ ذلك لأني أتضامن، حتى المنتهى، مع الغريبات عني اللاتي لا أعرفهن شخصيًا، فكيف حالي مع صديقة وزوجة صديق عزيز؟
أظنها كانت ستعفو رحمةً به، ولكن بعد ضمان أنه تلقى الدرس القاسي الذي سيردعه عن تكرار جريمته
الأهم من ذلك أن التواطؤ مع المجرم لا يعني، بالنسبة لي، إلا الصورة المقيتة لمن يمارسون التبرير لمن ظلموني وظلموا كل سجناء الرأي. فقد هيّأت نفسي منذ سنوات، أنه حين تتغير الظروف ونضع الضمانات لعدم تكرار المظالم والانتهاكات لنا أو لغيرنا، فإنه ينبغي لي أن أكون من الدعاة إلى العفو والصفح، المشروطيْن بالاعتراف والاعتذار. وذلك حرصًا على مستقبل الأجيال الذي ينبغي أن يتحرر من ثأر الماضي.
لكني أبدًا لم أستطع أن أتخيل نفسي صافحًا عن المدافعين عن الظلم من غير أن يكونوا متخذي قرارات فيه، ولا حتى أصحاب منفعة مباشرة منه. فهؤلاء المتواطئون المتطوعون بحماية القذارة والأذى لم أنجح يومًا في فهم ما يفعلون. أو ربما فهمت، جزئيًا، لكني لم أتصالح مع هذا السلوك الذي لا أعرف له مثيلًا في سلوك الحيوانات!
بعد مرور يوم من الغضب والحنق، بدأت أرسم سيناريوهات أخرى..
ماذا لو لم يتكتّل الذكور ضد الضحية؟ ماذا لو كان من بينهم بعض الرجال الأسوياء الذين دعموا ميار وضمنوا لها اتخاذ الإجراءات القانونية؟ ماذا سيحدث إذا رأتْ هي الصبي مقيدًا ومعرضًا للحبس الذي سيؤثر في مستقبله؟ هل ستتمسك بعقابه بالحبس وهي تعرف من زوجها، الشاعر عمر حاذق، عن أحوال السجون ما لا يسر عدوًا ولا حبيبًا؟
أظنها كانت ستعفو رحمةً به، ولكن بعد ضمان أنه قد تلقى الدرس القاسي الذي سيردعه عن تكرار جريمته. الراجح في ظني أنها كانت سترق لحاله، ولكن بعد أن تشعر باسترداد حقها، والانتصار على هذه النوعية من الهزائم والإذلالات المعنوية التي تتعرض لها النساء.
هل تواطؤوا ضدها أم ضد سجن الصبي؟
المربع السكني الذي وقعت فيه الجريمة، والأوصاف التي قصّتها ميار، ترجّح أن المتواطئين على خبرة جيدة بأحوال السجون ومقار الاحتجاز، إن لم تكن خبرة ذاتية فهي خبرة اجتماعية قريبة. وهو ما يفتح عليّ بوابات من التفكير البعيد عن الصوابية السياسية والحقوقية.
ربما يقودنا تفسير تواطؤ المارة إلى الثنائية التي تحكم تعامل الجهاز الشرطي مع الأمن العام: التجاهل أو البطش
أعود بذاكرتي لحوار بين اثنين من السجناء الجنائيين دار أمامي في سجن مزرعة طرة، حيث سأل أحدهما زميله الصعيدي: هل تقبل أن يصفعك الضابط أو القاضي على قفاك ثم تذهب إلي بيتك عوضًا عن السجن؟.
أجاب النزيل الصعيدي برد مخالف للتوقعات، حيث قال: نعم أقبل!.
لم يكن الحوار جادًا، بل محاولة لتمضية الوقت. أراد السائل، وهو من محافظة ريفية في دلتا النيل، أن يُزايد على زميله الذي أهدر تراث الصعايدة وصورتهم النمطية في العزة والإباء والكرامة. فكان الرد المُفْحم من الصعيدي: ومن منّا لم تضربه الحكومة على قفاه؟ وهل إذلال أهالينا في الزيارة أهون من الضرب على القفا؟ وهل انتهاك حقوقنا حتى صرنا نأمل في معاملة الحيوانات الأليفة ليس ضربًا على القفا، بل أكثر؟!، وهل... وهل...
وهكذا، ظل يُعدد له مظاهر الإهانة، الشخصية والعائلية، التي يتعرض لها السجين وأهله، حتى سمعت غيره من الجنائيين يقول "والله لا نرجو السجن حتى لخصومنا".
وأرْجحُ ظني أن الحدث المتحرش لو كان قبض عليه في حينها، لم يكن عمر حاذق سيتردد في دعم قرار ميار بالعفو عنه (بعد المقدرة، وليس عجزًا عن الإمساك به). فكيف يقسو قلب شاعر حتى يغيّب إدراكه عما عاشه بنفسه في غياهب السجن، وعما يعرفه جيدًا عن السجون؛ أنها ليست، واقعيًا، للتهذيب ولا الإصلاح ولا التأهيل؛ بل هي للإذلال وتحسين مستوى الإجرام؟!
فهل يمكن أن نفهم العرْض الذي أبداه المارة الذكور حين أمسكوا بالصبي بأنهم سيضربونه باعتباره مساومة لتفادي مأساة السجن، التي لن تتناسب أهوالها مع ما اقترف الصبي من جُرْم؟!
لا أُجمّل جريمة التستر على متحرش والتواطؤ مع مجرم، لكني أتساءل بغرض الفهم. وليكون التساؤل شاملًا لكل الاحتمالات، ينبغي أن نسأل: لماذا هانت أجساد النساء على من تطوعوا بإمساك الصبي كَلِصٍّ محتمل؟ هل كانوا سيستردون منه ما سرقه ويضربونه للتأديب ثم يهرّبونه كي ينقذوا حدثًا من براثن مستقبل مظلم وسوداوي؟ أم أنهم كانوا سيرحبون باتخاذ الإجراءات القانونية إذا كان العدوان قد وقع على أشياء لا على جسد امرأة؟
هل صارت أجساد النساء أرخص عند المارة من خاتم ذهبي أو ساعة أو موبايل، فيتسامحون مع العدوان على الأول ويتشددون في أي شيء آخر؟
لماذا تباطأت الشرطة؟
ربما يكون في محاولتي لتفسير تواطؤ المارة من الذكور طرفُ خيطٍ يقودنا إلى الثنائية القاتلة التي تحكم تعامل الجهاز الشرطي مع الأمن العام (الاجتماعي)، بعيدًا عن الأمن السياسي للأنظمة والحكومات؛ وهي ثنائية: إما التجاهل أو البطش العنيف.
المواطنون كلهم، من غير استثناء، ضحايا محتملين للتواطؤ والتباطؤ
فإذا كان من يعرف السجن حريصًا على ألا يتعرض بنفسه أو يعرض شخصًا يهتم لأمره لهذه التجربة المريرة؛ فذاك لأنه بات معلومًا أن المبادئ القانونية الناصّة على أن "العقوبة شخصية"، وعلى "منع العقوبة بغير نص قانوني"، لا تتجاوز قاعات الدراسة. أما الواقع فإن من يتعرض للعقوبة، ظلمًا أو عدلًا من حيث المبدأ، فإن بطش السلطة به يتخطى أي فلسفة عقابية إصلاحية، بل هو العقاب الانتقامي العنيف.
والطرف الثاني من الثنائية هو الكسل، أو التكاسل، عن القيام بالمهام البحثية الجنائية. فتفريغ الكاميرات للحصول على وجوه المطلوبين وتتبعهم أمر مجهد بالنسبة للشرطة، خصوصًا مع ارتفاع معدلات الجريمة في بعض الأحياء والمدن عن أخرى.
فلو لم تكن المهمة الشرطية تكليفًا من قيادة أو توصية من ذي نفوذ أو مجاملة لشخص مهم، فإنها تكون ثقيلة على نفس الشرطي. وقد تكررت ملاحظاتي وملاحظات كثير من الزملاء حول التطور الإيجابي في تعامل صغار الضباط حاليًا عما عهدناه قديمًا، وهو ما يناقض استمرار أداء الأفراد، من أمناء ومساعدي الشرطة، بالوتيرة القديمة والنمط المعتاد ذاته. المزعج أن الأفراد لا يزالون هم أكثر عناصر الشرطة تعاملاً مع الجمهور، وهو ما يعني استمرار المأساة.
صحيح أن تواطؤ المجتمع وتباطؤ السلطة عن ردع الجاني، وغيره من الجناة المحتملين، الذين سيسيؤون التصرف إذا أمنوا العقاب، يصب في قهر النساء بشكل غير متوازن مع قهر المواطنين من الرجال. لكن النظرة فيما وراء الجندر/النوع الاجتماعي تخبرنا بأن المواطنين كلهم، من غير استثناء، ضحايا محتملين للتواطؤ والتباطؤ.
في حالة ميار، فإن تمسكها بحقها دفع الشرطة إلى القيام بوظيفتها الخادمة للشعب، بنص الدستور. لكن نضالها وبطولتها الميدانية قد هُزِما في معركتها مع المجتمع، ولم تستطع أن تصل مع المارة سوى إلى مزيد من إحساسها بالغبن والاعتداء.
فلا بأس من أن نذكّر المهتمين بالإصلاح الاجتماعي والسياسي بأن: السلالم تُكْنس من أعلى، لكن بعد أن تُبنى من أسفل.