عدسة: إسماعيل الإسكندراني
شروق الشمس في محمية وادي الجمال جنوب مرسى علم يوم 6 مارس 2023 صبيحة بدء إضراب جلال البحيري

رسالة الشاعر جلال البحيري من سجن بدر

منشور الخميس 9 مارس 2023

بدأ الشاعر جلال البحيري، المريض بالقلب والاكتئاب، إضرابًا مفتوحًا عن الطعام والعلاج يوم الأحد الماضي، الموافق 5 مارس/آذار. وأرسل إليّ، وإلى غيري، رسالة كتبها بالعامية المصرية طالبًا نشرها.

أنشرُها بنصها وحرفها، دون تدخل، ثم أكتب ردي..

اسمه شعر

"بسم الله الرحمن الرحيم 

الأحد 5 مارس 2023

خمس سنين عدوا بالتمام والكمال.. خمس سنين لو حاولنا نفكّهم ح يعملوا تقريبًا 1800 يوم وشوية أيام فكة.

يمكن يكون الرقم ده شكله عادي وسط الأرقام.. لكنه لما يتحول لأوراق بتسقط من شجر عمرك.. يبقي رقم إبليس ومُخيف.

كنت أعرف إن زمان اللي كان بيتسرق منه محفظة أو عربية بيروح لأقرب قسم شرطة ويمكن يساعدوه.. لكني ما عرفش اللي بيتسرق منه عُمره يروح لمين ومين يساعده!

مفهوم الوطنية اللي اتربينا عليه إنه كيان رَحب ومدهش ومعجز.. ليه الكيان الرحب يتم اختزاله لمساحة متر في زنزانة في سجن.. وليه هذا الكيان المدهش يتحول لمسخ مرعب دوره الأسمى هو نسف أعمار أولاده وتدمير كل شيء إنساني وجميل فيهم.. أعتقد إني واحد من أبناء هذه الأرض وأعتقد إن فيه أدوار أهم بكتير من إني أنا وكل اللي زيي.. اللي أيادينا ماعرفتش طريق الدم ولا عقولنا عرفت طريق التطرف.. ندبل ونشيخ ورا القضبان.

النهارده بيبدأ عامي السادس من عُمر مهدور في السجون.. وورايا تهم كتير مخجلة.. أدناها الكذب وأقصاها الإرهاب.. تهم كتير لم أرتكب منها إلا جريمة واحدة هي "الشعر".

شعر ناضج.. شعر ساذج.. شعر مثالي أو مراهق.. اسمه شعر.

والنهارده اخترت إني أمارس حقي الدستوري والآدمي في الاعتراض على هذا الوضع غير الآدمي بالإضراب مبدئيًا عن الطعام دون الشراب وعن علاج القلب وأقراص الاكتئاب وتدريجيًا بالامتناع حتى عن الشراب.

وحَ يستمر الإضراب لحد ما أسترد حريتي بالخروج حي أو مش حي.

جلال البحيري 

سجن بدر 1

زنزانة 55/2 

قطاع 4

الأحد 5 مارس 2023".


إلى هنا، تنتهي رسالة جلال، الشاعر الذي قضى في السجن ثلاث سنوات، عقابًا على ما أدانته به المحكمة العسكرية من تهمة الإساءة إلى المؤسسة العسكرية.

بعد انتهاء عقوبته لم يفرج عنه، ولم يرَ الشارع، بل أعيد تدويره في قضية جديدة قضى على ذمة تحقيقاتها سنتين في الحبس الاحتياطي، من دون إحالة إلى المحكمة، وما زال الحبس يتجدد.

سيظل سجانك أسير وظيفته وتتحرر أنت مع قلمك وخيالك الشعري تحررًا يحسدك عليه السجّان، لو فهمه أصلًا

حق القلم والكتابة

عزيزي جلال...

لقد بدأت إضرابك أثناء سفري في رحلة ترفيهية وسياحية أهزأ بها من سجني وسجّاني، أكثر من استمتاعي المجرد بها كرحلة، وأكثر من كونها للاستجمام.

لم تجمعنا صداقة قبل السجن، ولم يجمعنا الخبز والملح داخله؛ إذ كنا في زنزانتين مختلفتين. لكني أخبرتك في التريُّض أن التي تجمعنا زمالة في علاقتنا بالقلم والكتابة، وأن ذلك يجعل لك حقًا كبيرًا عليَّ إذا خرجت قبلك. لذا، أكتب عنك وإليك في سفري موفيًا بوعدي، وإن كنت آسفًا أن كلماتي لن تصل إليك بسهولة، وربما لن تقرأها إلا بعد خروجك، الذي آمل أن يكون قريبًا.

عزيزي جلال..

ستخرج يومًا وتستمتع بحياتك وتلقي وراء ظهرك بذكرياتك الأليمة مع السجن والسجّان. سيظل سجانك أسيرَ وظيفته وتتحرر أنت مع قلمك وخيالك الشعري تحررًا يحسدك عليه؛ إذا فهمه.

عرفتك في السجن مبدعًا أصيلًا؛ من الظلم اختزالك في الأغنية السياسية التي اشتهرت بها. فما سمعته من إبداعك وحسن أدائك يشي بما هو أكثر من الغناء السياسي الساخر، رغم أهميته الفنية والاجتماعية.

ولأنك شاعر، فما يميزك عن اللغوي المتمرس ليست لغتك، بألفاظها ومعانيها وأساليبها، بل خيالك. ولأنك تعرف أني كتبت الشعر في السجن، فدعني أخبرك أن الكتابة عمومًا، والكتابة الإبداعية خصوصًا، لا سيما الشعر، كانت من أساسيات مقاومتي للقبح بالجمال، ومقاومتي الواقع بالخيال.

وبالخيال الجميل، والجمال المتخيل، كانت لي تجربة ناجحة في الانتصار على الدفن في قبر السجن لسبع سنوات عجاف.

ستخرج يومًا وتجلس معي على شاطئ هادئ نتأمل الشروق أو الغروب، ونستمتع بالمنظر الخلاب والطعام الشهي، والشراب اللذيذ، وستترك وراءك سجّانك محاصرًا بالجراية والتعيين ومواعيد التريُّض والزيارات وتفتيش الأرز في الزيارة، وما إذا كانت المكرونة بالبشاميل مسموحًا بها أم لا.

ستخرج يا جلال.. وتكتب عن كل سنة قضيتها في سجن الوطن ديوانًا تضع به السجن وذكرياته تحت قدمك، التي كنت شاهدًا على المماطلة والتسويف في علاجها.

أستحلفك بالعزيز الغالي، حين تضع السجن تحت قدمك لا تضعه أسفل القدمين، أو القدم الخاطئة، بل تحت الإصبع الذي عذبوك حتى أُجْريتْ لك الجراحة فيه.

لقد أجروا لك عملية في قلبك الملموس، لكن أحدًا من الخلق لا سلطان له على قلبك المحسوس، قلب شِعرك. وأجروا عملية جراحية أخرى في جهازك الهضمي، لكنهم أبدًا لن يهضموا قلمك. سيظل قلمك شوكة في حلق من اعتاد بلع الحقوق، وستثأر كما أثأرُ ويثأر الأحرار كلهم، بالقلم والكلمة.

يتعذب جسدك الآن بآلام الجوع والهبوط ووقف الدواء، وهي تضحية يمكنك تعويضها لاحقًا، بأكثر مما تتخيل، كما عوضتها في وقت قياسي، بفضل الله. لكن آلام روحك لن تشفى إلا بالحرية الخاصة والحريات العامة.

دعني أذكرك يا جلال بقصيدة "تحية إلى الشباب" التي شارك بها أحمد شوقي في الاحتفال الذي أقيم لشباب ثورة 1919 الذين سجنتهم المحكمة العسكرية لجيش الاحتلال، ثم عفا عنهم سعد زغلول عقب توليه رئاسة أول حكومة برلمانية منتخبة.

يقول شوقي في قصيدته الطويلة "وجد الشباب يدًا تحرر قيده/ من ذا يحرر للبلاد قيودًا؟".

كان ذلك من قرن مضى. ويخطئ من يظن أن شيئًا لم يتغير. فأظنك توافقني أن الظلم الذي تعرضنا له بأيدي السلطة الوطنية لهو أحب إلينا من أن تنصفنا سلطات الاحتلال.

لم يضع نضال أجدادنا هباءً، ولن تذهب تضحياتنا سدىً، وسيأتي جيل أكثر وعيًا وإدراكًا يرد إلينا اعتبارنا ويذكرنا بالخير، في خضم ذكر أغلب معاصرينا بالشرور.

كل دعمي لك يا جلال، ولن يمنعني ذلك من استكمال رحلتي وترفيهي، ولو بدلنا المواقع لأحببت أن تريهم أن دفننا في السجون لم يقتل فينا حبنا للحياة.

شاءت الأقدار أن تكونَ في السجن الضيق الصغير، وأكونُ في السجن الكبير الأوسع قليلًا، وواجبي أن أدعمك وأن أواصل مهمتي في سحق تجربة السجن التي أُريدَ لها أن تحطمنا.

أنت تناضل من أجل حريتك، وأناضلُ من أجل حقوقنا وكرامتنا بطريقة مختلفة. أرجو أن يكلل نضالك بالنجاح العاجل، لتنضم إليَّ في نضال ممتع نستمع فيه إلى قول الشاعر مرسي جميل عزيز بلحن محمد الموجي وصوت محرم فؤاد وهو يغني "والله لنكيد العُذّال/ ونقول اللي ما عمره انقال".

أو ربما نغني بما تبدعه أنت ويلحنه ويشدو به فنانون من جيلنا.

ويسألونك متى هو؟ قل عسى أن يكون قريبًا.

إسماعيل

مرسى علم

6 مارس 2023.

مقالات الرأي تعكس آراء وتوجهات كتابها، وليس بالضرورة رأي المنصة.