ختمت مقالي الأخير عن الأربعين أمًّا مكلومة ورمضان الحزين بذكر زيارة السجن لمنامي لأول مرة منذ خروجي. والآن، أراه مناسبًا لحكي جانب مما رأيته في أحلام السجن.
على مدار سبع سنوات كبيسات في السجن، رأيت فيما يرى النائمون، كثيرًا جدًا مما أذكر ولا أذكر. فإن نسيت أغلب محتوى تلك الأحلام، لا أنسى أبدًا محاورها، أو "تيماتها"، إجمالًا. بعضها كان عن السفر والتجوال، وبعضها عن الإقامة في أماكن محببة إلى قلبي في مصر وخارجها، وطرف منها عن أشخاص أحبهم. وقليل منها كانت كابوسًا بــ "تيمة" واحدة تكرر عدة مرات باختلاف الأشخاص... وغير ذلك مما قد أسميه "فئات" لأحلامي.
أؤمن بأن هناك قلة مما يراه النائمون ليس له إلا تفسيرات ميتافيزيقية، أو ما اصطلحنا على تسميته بــ"الرؤى"، جمع "رؤيا"، بالألف لا بالتاء المربوطة. لكني أعتقد أيضًا أن أغلبية الأحلام يمكن أن تفهم كما يراها أنصار مدرسة التحليل النفسي، كتعبير عن المشاعر والرغبات والمخاوف الدفينة في العقل اللاواعي.
ربما يكون علماء النفس تجاوزوا مدرسة التحليل النفسي واجتهاداتها التي لم يقم عليها دليل علمي، لكن الأكيد، من وجهة نظري، أنها أضافت إلى المعرفة البشرية شيئًا ذا قيمة في نظرة الإنسان إلى أحلامه.
وبخلاف "رؤى" قليلة، أزعم أني رأيتها في سجني وأجزم أني لن أبوح بها على الملأ، فإن ثمة أحلام، ليست بالرؤى، لا أزال أذكرها جيدًا كأني رأيتها الليلة الفائتة، رغم السنوات التي تفصل حاضري عن زمن رؤيتها.
عقب المحاكمة العسكرية
لم يكن مرّ عليّ زمن طويل عقب التصديق على حكم محكمة الجنايات العسكرية بمعاقبتي بالسجن لمدة عشر سنوات، حين زارني الجيش المصري في منامي. لم أكن أفكر في شيء محدد ذي علاقة بالجيش في الأيام السابقة لهذا المنام، فأتاني بلا مقدمات.
رأيت، فيما يرى النائم، أني أسير مع صديق لي، لم تظهر ملامحه ولا هويته، وإن كان أقرب ما يكون في سياق ما سيأتي من الحلم إلى الصديق والزميل السكندري العزيز عبد الرحمن يوسف، الصحفي المهاجر حاليًا إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
كنا نحمل معدات صحفية ونترجّل في منطقة كفر عبده، وهي منطقة كانت، فيما كان، موازية لجاردن سيتي أو الزمالك في القاهرة، من حيث المظهر والتخطيط العمراني الأخضر واحتضان السفارات والقنصليات وسكن الأجانب المقيمين. هو حي داخلي، لا يرى البحر، لكنه كان أرقى أحياء الإسكندرية بدرجة لا تضاهيه فيها سوى زيزينيا القديمة.
لم يعد كفر عبده الآن سوى عشوائية خرسانية بازغة بين أطلال منتحبة لحي جميل قديم، كحال سائر أحياء ما كان يعرف بــ "رمل الإسكندرية". لكن الأحلام المعبرة عن مكنونات النفوس، بحنينها إلى الماضي وتطلعاتها إلى المستقبل، لا تعترف بمثل هذه الأمور الواقعية. كنت أسير مع صديقي صباح شتاء مدرسي نتنسّم عبير أشجار وورود تتراقص على زقزقة عصافيرها، وصأصأة صغارها، فإذا بنا أمامها مباشرة.. نعم هي ولا أحد غيرها.
ليس في الشوارع الداخلية لحي كفر عبده مدارس، لكنَّ الحلمَ وضع مدرسةً كبيرةً في قلب الحي، أشبه ما تكون بالمدرسة الأمريكية في حي "شُدْس"؛ وهو من أجمل وأهدأ أحياء الطبقة الوسطى السكندريّة غير المشهورة خارج المدينة، ربما لكونه لا يرى البحر. وكنا على مقربة من المدرسة في شوارعها المحيطة. وكانت خارجة من عمارتها، حيث تسكن، وبصحبتها ابنتاها، ابنتها الكبرى الجامعية، وابنتها الأصغر التي غالبًا كانت ستتجه إلى المدرسة نفسها التي رأينا تلاميذها وسمعناهم يُصأصِئون في الجوار.
خرجَتْ من باب العمارة بزيها العسكري، المزيّن بكتّافة لم تحملها امرأة مصرية من قبل، وحجابها الأبيض. اتجهت نحو باب قيادة السيارة، وهي سيارة حديثة لكنها صغيرة تشبه سيارات نساء الطبقة الوسطى. واتجهت ابنتها الكبرى بشعرها الهفهاف وملابسها الشبابية إلى الكرسي المجاور، بينما ركبت الصغرى في الخلف.
وكعادة الأحلام التي نوقن فيها بأشياء ويغيب التفسير تمامًا عن أشياء أخرى، كنت متأكدًا أن الابنة الصغرى التي ترتدي الزي المدرسي ستنزل أولًا، ثم تتجه الأم السمراء إلى توصيل ابنتها الكبرى إلى جامعة الإسكندرية. بالتحديد، كانت ستوصلها إلى مجمع الكليات النظرية في الشاطبي، المقابل لمكتبة الإسكندرية.
مشهدها كأم محجبة تصطحب بسيارتها ابنتها الجامعية غير المحجبة يرمز إلى درجة عالية من التفاهم
تبادلت الحديث مع مرافقي، وقلت له هذه فرصة صحفية لا تُعوّض، هيا بنا نحاورها. تردد صديقي، فحاولت إقناعه أن حوارنا سيكون من زاوية إنسانية واجتماعية، وأنه سيكون سبقًا لأنها لم تظهر في الإعلام من قبل. تلكأ، فلم أنتظر، وأقدمت على الذهاب لإجراء أول حوار صحفي مع أول امرأة تصل إلى رتبة "فريق أول" في الجيش المصري!
قائدة استثنائية.. وسكندرية
لم تكن رتبتها العليا مزيّتها الوحيدة أو مكمن فرادتها، بل منصبها غير المسبوق نسائيًا. كانت بذلتها العسكرية زرقاء، أشبه ما تكون ببذلة القوات الجوية، لكن أرض الحلم كانت الإسكندرية، فكان الحلم أنها قائدة قوات الدفاع الجوي، ليس فقط عميدة لكليّتها التي تقع في الشرق من الثغر.
المميز في الحلم، وهو ما شجعني على الذهاب إلى الحديث معها، أنها لم تكن تسير بحراسة. كانت تتهيأ لقيادة سيارتها الأُسَرية، ولم تكن ستذهب إلى قاعدتها العسكرية، بعد توصيل ابنتها الكبرى، في سيارة مصفحة بسائق وحارس وموكب تأميني، بل بسيارتها.
منصبها يعني أنها، بالضرورة، كقائدة لفرع رئيسي من أفرع الجيش، عضوة في المجلس الأعلى للقوات المسلحة. وعفوية حركتها في الشارع بزيها الرسمي دون صخب أو هستيريا أمنية أوحت بشيوع الأمان والسلام، سياسيًا واجتماعيًا. ومشهدها كأم "عسكرية" محجبة تصطحب بسيارتها ابنتها "المدنية" الجامعية غير المحجبة يرمز إلى درجة عالية من التفاهم والتعايش العائلي وإدارة الاختلافات.
وأن يختار ذلك الحلم البعيد في عقلي اللاواعي مكانه في الإسكندرية، مسقط رأسي ومربط ذكرياتي، فذلك يقول الكثير.
نحب بلدنا رغم الظلم
أدعو من لا يزال متمسكًا بتراث مدرسة التحليل النفسي إلى تفسير حلم رجل شاب، في مطلع عقوبته الظالمة، بعد أن تم التصديق على الحكم عليه.. فإذا به يرى في منامه حلمًا سعيدًا بمستقبل المؤسسة الوطنية التي ظلمته ظلمًا بيّنًا، وعاقبت معه أسرته وأمه التي حرمت من جواره في مرضها بالسرطان واحتضارها ووفاتها.
هكذا فعلت مصر بواقعنا، وهكذا نراها في أحلامنا. فلو كان حلم يقظة، مما نسميه في العلوم الاجتماعية "الخيال السياسي"، لقال من أراد أن يقول إنها مجرد تأثيرات للقراءة والاطلاع على تجارب دول أخرى في التحول الديمقراطي وإدارة العلاقات المدنية العسكرية، أو اقتباسات من تجارب مجتمعات أخرى في تمكين المرأة. لكني، قسمًا بالله، لم أفكر في تلك الفكرة غير الواقعية، الأكثر من خيالية، في يقظتي عمدًا، ولا مرّت به سهوًا. وكان ذلك عام 2018، قبل بدء قبول الإناث في الكلية الحربية.
صحوت يومها وأنا كلي دهشة؛ كيف جاءت تلك التوليفة الخيالية في منامي؟ امرأة مصرية تكون قائدة عسكرية، بل عضوة في المجلس الأعلى للقوات المسلحة؟! قائدة لقوات الدفاع الجوي، أحد الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة؟! وبرتبة فريق أول؟! تقود سيارتها الشخصية في شوارع المدينة بلا حراسة؟! تسكن في شقة في عمارة؟!
فإذا كانت مصر في أحلامنا بهذا الجمال، فلماذا تصرّ على إقحام قبحها فيما تطاردنا به من كوابيس؟!