كعادتي، أصحب معي كتابًا من أجل رحلة الترام في طريق عودتي إلى البيت. هناك متعة ما عندما تجري عيناي على السطور، تحاول الإمساك بها وتثبيتها وسط إيقاع الاهتزازات المستمرة للعربات. كأنَّ التِرام يخلطنا سويًا، أنا والكتاب والسطور والأفكار، ويحوِّلنا إلى كتلة واحدة.
لا أحبُّ القراءة جالسًا. أفضِّل عادةً الوقوف في منتصف العربة بالتحديد، بسبب اتساع المكان كأنه حجرة المعيشة التي تمتلئ بحيوية الزمن المتجدد، بحركتي الصعود والنزول الدائمتين، من زائري الترام المعتادين.
لا أدري بالضبط سبب هذه المتعة وسط هذه الاهتزازات، كأنك تثبت عصًا وسط رمالٍ متحركةٍ. أستبعد أن يكون السبب رغبةً دفينةً في الرقص أمام جمهور العربة مثلًا، أو التطوح الذاتي داخل بقعة صغيرة تهتز. ربما هذا الإيقاع ينسخ بطريقته السرعة التي تجري بها الأفكار داخلي أثناء القراءة، ويتحول الكتاب عندها إلى بساط الريح، يطوف بي بعيدًا.
أحيانًا تستعصي القراءة في الترام، وأفقد الاتساق مع موجات الاهتزازات المتتالية، وتتحول القراءة إلى مطاردة عبثية للسطور والأفكار التي تهرب مني، فأعود مسافةً للخلف لأعثر على السطر الذي انقطع عنده خيط الأفكار، ولا أفلح، فأتراجع عدة صفحات أخرى حيث البداية. مثلما يفعل متزلجو الأمواج، عندما تبتلعهم الموجة العالية، فيخرجون إلى الشاطئ ليكرروا المحاولة.
عندما يتكرر هذا الفعل عدة مرات، يصبح نذيرًا بالتيه الشخصي، فأوقن عندها ألا أمل في الاستمرار، فأضم الكتاب وأضعه في حقيبتي الجلدية، وأكمل المحطات في تأمل أيِّ شيءٍ تقع عليه عيناي عندها أصادف دومًا تلك العين التي كانت تراقبني من بعيد، هذا الآخر الذي يقرأني كأنني كتاب. أو أنتبه على صوت أحدهم، أراد أن يكسب ثوابًا في هذا "الحاج"، الذي هو أنا، "فيه كرسي فاضي أهو يا حاج"، ويشير إليه، لضمان ألا يفلت الثواب.
كتاب ساحر
حديثًا بدأت أقرأ الكتب من شاشة الموبايل، بعدما قاومت كثيرًا هذا النوع من القراءة، ربما بسبب هذه الإضاءة الاصطناعية التي تتحرك وراء الكلمات، كأنها تقف على خشبة مسرح وأنا المتفرج الوحيد، كما حدث في ذلك اليوم.
يومها دعتني امرأة للجلوس عندما فرغ أحد الكراسي من شاغله. رأيت الكرسيَّ قبل إشارتها لكني تغافلت عنه، وأيضًا تغافل شعري الأبيض وعمري عن هذه الهدية الثمينة. لكنها ظلت توجه نظرها إليَّ فاستسلمت لندائها وذهبت للكرسي، وبصحبتي كتاب نظام الزمن لعالم الفيزياء الإيطالي كارلو روفيللي.
كتاب ساحر، جعلني أقرأ صفحاته كأنه قصيدة شعر كونية، وكأني منوَّمٌ تحت سيطرة هذا السحر المنبعث من صدمات الحقيقة التي يطرحها، وألمس هذا الوهج الشعري العميق الذي يتردد صداه في طبقاتٍ نفسيةٍ لم يصل إليها هذا الوهج وهذه العبارت من قبل. ربما كنت أقف على حدود زمنٍ آخر، خارج هذه الحياة.
قرأت عن الكتاب في تعليقات أحد الأصدقاء على فيسبوك. كتاب يتحدث، ضمن ما يتحدث، عن طبيعة الزمن كمادةٍ يمكن فحصها، كجزءٍ من المكان ليست مفصولةً عنه، يكوِّنان معًا ما يُسمى الزمكان، فالزمن لا يعيش إلا في حيز مكان. ويتحدث أيضًا عن اختلاف الزمن من مكان لآخر، فالمكان المشغول بكتلةٍ ما يجعل الزمن المارَّ به بطيئًا، بعكس الفضاء، فهناك يجري الزمن أسرع.
ويُفضي الكتاب، ضمن ما يُفضي، إلى سؤالٍ عميقٍ عن قصور نظرتنا المشوشة للكون، وعدم اكتشافنا لمحتواه وتقصي خاصية هذا الزمن وطبيعة مادته، التي تفيض في الكون وتحاصر حياتنا ونلمسها يوميًا، وتمس جلودنا، في رحلتها من الماضي إلى المستقبل، وليس العكس.
طبيعة أيِّ مادةٍ أنَّ لها خاصية الارتداد للخلف، أو الماضي، عندما تصطدم بحاجزٍ ما، باستثناء الزمن، لا يرتد، ويسير دومًا إلى الأمام. لذا الماضي دومًا مفقود، ويتحول إلى ذكرى، فنشأت ذاكرة الإنسان بتعقيدها الحالي، لتحافظ على هذا الزمن المفقود.
ولكنَّ هذا الانفصام بين الزمنين انقسام شكلي، راجعٌ لخطأٍ ما في رؤيتنا، الخطأ الذي كان يخفي قلقنا النفسيَّ وخوفنا من الموت، وكان سببًا في فصل الماضي عن المستقبل الذي يعيش فيه الموت، ودخول الحاضر، كشكلٍ من الأبدية الاصطناعية.
جار من زمن آخر
كنت غارقًا في الصفحات الأولى أمتصُّ بخيالي مباشرة وقع هذه الجمل الساحرة، غير مشغولٍ تمامًا بمن حولي. كانت هناك امرأتان تجلسان أمامي، تتحدثان عن غلاء المعيشة، تحكي إحداهن كيف ربت أولادها وكان مرتبها خمسمائة جنيه فقط، بينما الأخرى تسخر من حياتها، وتطلق معها ضحكة مكررة لا مبالية.
شعرت بجاري ينقر على كتفي، التفتُّ إليه مستفسرًا، كان يفتح أيضًا شاشة موبايله على أحد الكتب. وقرَّب شاشة هاتفه مني ، وقال لي "اقرأ هذا الكتاب". وجدت اسم الكتاب البحث في الزمن لكاتب اسمه دان فالك. ثم اعتذر بأنه كان يقرأ معي في شاشة هاتفي، فقد جذبه ما كنت أقرأ فيه حول الزمن.
لوهلةٍ اعتقدت أنَّ الكتاب الذي يقرأ فيه جاري هو نفسه الذي أقرأ فيه. كنت ما زلت في الصفحات الأولى منه ولم يثبت اسمه بعد في ذاكرتي. قلت له بفرحةٍ "إنني أقرأ في الكتاب نفسه". لم أندهش لهذه المفارقة، فطبيعة التزامن الذي تقول به نظرية الكتاب، وأحيانًا تنفيه، تسمح بحدوث معجزة من هذا النوع.
كنت أنتظر مثل هذه المفاجأت في حياتي، تلك التي تغير من نظرتنا الثابتة والقدرية لحركة الحياة، لنتساءل كلَّ صباحٍ هل من جديد، غير شروق الشمس وغياب الليل؟ فهناك نظام، أيًا كان، يقارب بين عدة أزمنة، كأنها تتجاذب فيما بينها عن بُعد، ولا يعنيها تمامًا من ينتظرها من البشر.
ولكني استدركت بعدها، عندما اكتشفت اختلاف اسمي الكتابين. ولكنها كانت صدفة خاصة، أن يجلس اثنان جنبًا إلى جنب معزولين عن بعضهما البعض، ويقرأ كلٌّ منهما، في الوقت نفسه، عن الزمن، حيث يلتقيان في فضاءٍ آخر يجمعهما.
كان لنا ماضٍ مشترك
حكى لي جاري "المتلصص" أنه خريج قسم الكيمياء الخاصة بكلية العلوم منذ 42 عامًا. كان العام نفسه الذي تخرجت فيه من كلية العلوم جامعة الإسكندرية، قسم الكيمياء الحيوية.
ربما من هذه النقطة وهذه الصدفة بدأت أبحث عن ملامحه في ذاكرتي التي أحملها لسنوات الجامعة، وربما خلَّفت له، بسرعة رغبتي في تصديق المفاجأة، شبيهًا في هذه الذاكرة. لم أصرح له بأنني تخرجت في السنة نفسها، تركته يقف بعيدًا وحرمته من أن يلامس هذا الزمن الذي تكشَّف لي فجأةً.
ربما هذا اللقاء مع هذا الرجل زميل الدراسة كان يتم في المستقبل وليس الماضي
أخذ يحكي لي عن اكتشافاته المثيرة منذ كان طالبًا يبحث في طبيعة الزمن وتفسير ظواهره. كان صوته عميقًا ومتأملًا ومريحًا في سماعه. أخبرني أنه لو ترك حبه للقراءة وركز في تقديراته في الكلية لكان له شأن آخر الآن. كان يعمل مدرسًا ثانويًا للكيمياء، ويعتبر هذا فشلًا بالنسبة له، كونه كان يمتلك معرفةً عميقةً عن الكون منذ سنٍّ مبكرةٍ، بغزارة قراءاته وتأملاته الشخصية.
"ولكنَّ القراءة منحتك حياةً جديدةً"، قلت له. أمَّن على كلامي وقال إن ابنته خريجة كلية الهندسة وتعمل مبرمجة، ويبدو أنها من تكمل مسيرته التي حادت عن الطريق.
أبحرنا سويًا في فيض زمنه الخاص المُحبط. ولم أشأ أن أفتح له أبواب زمني. عند وصولنا محطة النهاية قال لي "أشوفك على خير"، وأمَّنت على كلامه، وأضفت أنه لو أراد أن يلقاني سيجدني دومًا أقرأ في الترام. لم أشأ أن أنظر لوجهه مرة أخرى لأثبِّت ملامحه في ذاكرتي.
لا أخاف الموت أخاف المعاناة
هذا التزامن بيننا كان يصنع حاضرًا ما، أو أنَّ الصدفة كانت تفعل هذا بنا. رغم أنَّ كتاب نظام الزمن ينفي وجود هذا الحاضر، ويعتبره وهمًا، مثل أيّ حكايةٍ نؤمن بها. فهناك أكثر من حاضر، ولقاؤنا سويًا حدث خلال حركة الزمن بين الماضي والمستقبل.
ربما هذا اللقاء مع هذا الرجل، زميل الدراسة، كان يتم في المستقبل وليس الماضي. وكما يقول كارلو روفيللي في كتابه إن "عاطفة الزمن هي الزمن بالنسبة إلينا". هناك عاطفة، ربما حنين ما، كان ينسج حولنا هذا الزمن الذي التقينا فيه.
يكتب كارلو روفيللي مرثاةً سعيدةً في الفصل الأخير من كتابه، يشرح فيها أنَّ علاقتنا بالخلود وخوفنا من الموت هما ما أصابا عقولنا وتخيلاتنا بالوهن والنظرة المرتاعة أمام الزمن وحقيقته.
"لن أتمنى العيش كما لو كنت خالدًا. أنا لا أخاف الموت، أخاف المعاناة، وأخاف التقدم في السن، وإن بدرجة أقل الآن بعد إذ شهدت أبي في شيخوخته، منعمًا بالسكينة والسرور. أخاف الوهن، وغياب الحب. لكنّ الموت لا يفزعني. لم يخفني وأنا صغير، وظننت عندها أنَّ ذلك راجع لكونه شبحًا بعيدًا لكن الآن وأنا في الستين، لم يصلني الخوف من الموت بعد. أنا أحب الحياة، لكنَّ الحياة أيضًا صراع، معاناة، ألم. أفكر في الموت كصنوٍ لراحةٍ مستحقةٍ. باخ يسميه في أنشودته البديعة 'الكانتانا' شقيقة النوم. شقيقة حنون، تسارع بإغلاق عينيَّ والتربيت على رأسي".