كان عمال الإغاثة الإنسانية، حتى جرى تفجير مقر الأمم المتحدة في العراق في 2003، يضمنون سلامتهم إلى حد كبير، من خلال عرض شعارات وأسماء منظماتهم على مكاتبهم ومنازلهم وسياراتهم، واتخاذ احتياطات بسيطة ومنطقية.
واستنادًا على تاريخ طويل من العمل في مناطق النزاعات، منذ نشأت أول منظمة إنسانية وهي اللجنة الدولية للصليب الأحمر في عام 1863، توفرت حماية نسبية لعمال الإغاثة، حيث نُظر إليهم على أنهم مستقلون ومحايدون لا ينحازون لطرف دون آخر في النزاعات المسلحة، يعملون في منظمات مستقلة عن دولها المانحة، تُوجه مساعداتها للمنكوبين بناءً على احتياجاتهم دون تمييز بسبب انتماءاتهم السياسية أو العرقية أو الدينية أو الطائفية، إلخ.
ظنّ كثيرون أن هذه التصورات أو الادعاءات تُبالغ قليلًا، وخاصة فيما يتعلق بالاستقلالية. ولكنَّ الأغلبية بدت مطمئنة إلى سعي عمال الإغاثة المستمر من أجل مساعدة المحتاجين دون تمييز، حتى لو قدمت منظماتهم تنازلات هنا للسلطات التي تُسيطر على أماكن عملهم لضمان أمن عملياتهم، ومساومات هناك للمانحين المسيطرين على مواردهم لضمان استمرار تمويل عملياتهم.
تغير هذا في التسعينيات مع النشاط المتزايد لمجلس الأمن والمفوض السامي لحقوق الانسان، وتَضَخُّم مشاريع الإغاثة حجمًا وعددًا. حيث زاد في الأمم المتحدة وخارجها تداخل العمليات الإنسانية مع الاعتبارات السياسية والأنشطة الحقوقية. بل وبات الأمين العام للأمم المتحدة وكأنه يرأس كل هذه المنظومة الأممية، ويُديرها فعليًا.
بل وتمادى البعض في الحلم بأن المنظمة الدولية بإمكانها أن تتحول في بعض الأوجه إلى منظومة كونية فوق الحكومات، فيما يتعلق بأمور البيئة والصحة والتسلح والتدخل لحفظ السلام بالقوة. وسخر أصحاب الخبرة والنظرة الواقعية المكيافيلية للعلاقات الدولية من تلك التخيلات. وتحدث نيابة عنهم دبلوماسي روسي ذات مرة قائلًا إن اسم الأمين العام بالانجليزية هو Secretary General، ولكنه مجرد سكرتير أكثر منه جنرال يقود جيشًا!
وشكّلت برامج الأمم المتحدة وتدخلاتها السياسية والإنسانية، خلال الحرب على أفغانستان ثم غزو واحتلال العراق، المسمار الأخير في نعش سمعة المنظمات الأممية؛ كمؤسسات محايدة غير منحازة ومستقلة.
وبغض النظر عن حقيقة العلاقات المعقدة بين منظمات الأمم المتحدة والدول المانحة الكبرى، خاصة الولايات المتحدة، تلطخت سمعة المنظمات. والسمعة أحيانًا أهم من الحقيقة. وبات عدد متزايد من الناس، خاصة في المجتمعات المتلقية، ينظر للأمم المتحدة على أنها وكيل غربي أو منظمة ضعيفة خاضعة. وأصبح العاملون فيها أهدافًا أسهل وأقرب للانتقاد، وتوجيه الضربات الموجعة.
من السيارات المتهالكة إلى الدفع الرباعي المدرعة
في عامي 2000 و2001 كنت استقل سيارات تاكسي صفراء متهالكة لأذهب للسوق في كابول مساءً، حيث ينتشر جنود طالبان في الشوارع. أو أقود سيارتي التي تحمل أرقام الأمم المتحدة بنفسي للمناطق القبلية في باكستان، حيث تتمركز جماعات جهادية وعصابات مخدرات وسلاح.
صار عمال الإغاثة مغلفين بخوذاتهم وستراتهم الواقية
وبعدها بسنوات قليلة، وفي بعثاتي لما يسميه عمال الإغاثة "الميدان"، أي مناطق النزاعات، كان عليَّ الحصول على تصريح أمني وأنا جالس في مكاتب محصنة جيدًا كي أخرج في سيارتين إحداهما مدرعة، بمفردي مع اثنين من السائقين، لأحضر اجتماعًا بإمكاني الذهاب إليه سيرًا على الأقدام.
تعيَّن عليَّ ارتداء سترات واقية من الرصاص وخوذات كي أذهب للخليل، عابرًا بنقاط تفتيش إسرائيلية يرتعش فيها جنود يبدون في العشرين من العمر، وهم يوجهون بصلافة مدافعهم الرشاشة تجاهك، أو كي أذهب لكردفان في وسط السودان بعد مذبحة في إحدى بلدات الولاية، أو كي أقود قافلة إغاثة لجنوب لبنان في مرمى نيران القصف الإسرائيلي وصواريخ المقاومة.
وهكذا صار عمال الإغاثة مغلفين بخوذاتهم وستراتهم الواقية؛ إذا خرجوا من مكاتبهم ومنازلهم المحاطة بأكياس رمل وموانع للصدمات ومصدات، وهي المنازل والمكاتب التي صارت فضلًا عن كل هذا، معزولة خلف أسلاك شائكة ونظم أمن فائقة، في أماكن بعيدة عن المجتمع الذي تتم "خدمته".
علت الأسوار حول المكاتب، وانتقل كل العاملين في مناطق الصراعات للعيش داخل ما يشبه المحميات المؤمنة، وقلَّ كثيرًا عدد البعثات التي ترسلها منظمات دولية للمناطق النائية في بلدان الصراعات.
تساهم كل هذه التحولات في تفسير انخفاض معدل الضحايا بين عمال الإغاثة الأجانب، لأن المنظمات الأممية صارت ترسل عددًا أقل من الموظفين الدوليين إلى المناطق غير الآمنة. أصبح الخطر يُدار عن بُعد، أو ببساطة ترسل المنظمات موظفين وطنيين/محليين للقيام بالعمل في المناطق الخطرة، بدلًا من الموظفين الدوليين.
في 2003، قُتل وأصيب أو اِخْتُطِف ما مجموعه 117 عامل إغاثة وطني، مقارنة مع 26 من زملائهم الدوليين. وفي 2023 ارتفع عدد الضحايا من العمال المحليين إلى 431 شخصًا، مع انخفاض عدد الضحايا الأجانب من عمال الإغاثة إلى 23 شخصًا.
من الواضح أن الأخطار زادت لكنَّ توزيعها انعكس تمامًا، ليتضاعف نصيب العمال المحليين منها قرابة أربع مرات، وينخفض عدد الضحايا من الموظفين الدوليين.
وفي الوقت نفسه، ورغم أنها ما زالت تعتمد على الموظفين الدوليين في أخطر أماكن النزاعات، حفاظًا على استقلاليتها وخشية انحياز الموظفين المحليين أو تعرضهم للضغط، فإن خسائر اللجنة الدولية للصليب الأحمر هبطت من ثمانية ضحايا عام 2003 لضحية واحدة بعدها بنحو عشرين عامًا. وذلك بفضل التواصل المكثف والحوار الإنساني في المجتمعات التي يخدمونها، مما حماهم من السمعة السيئة، المُكتسبة عن حق أو باطل، للأمم المتحدة.
من المستحيل تقريبًا أن تتخلص الأمم المتحدة من اتهامات التحيز، لأنها تعتمد على أريحية وكرم موازنات حكومية منطلقاتها مصالح وطنية. ورغم أن ميثاق المنظمة والقانون الدولي هما الحاكم الرئيسي لسلوك منظماتها، فإن شريان حياتها الرئيسي يأتي من الولايات المتحدة وأوروبا، التي تبرعت في عام 2022 بأكثر من عشرين مليار دولار، أي أكثر من 60% من التبرعات التي تلقتها المنظمات الإنسانية هذه السنة.
ظلت الأمم المتحدة عاجزة عن إصلاح حالها رغم كل هؤلاء الضحايا
يهيمن المانحون من الدول الكبرى على شرايين حياة العمل الإنساني، فيما تؤثر السلطات الحاكمة على الأرض في البلدان المنكوبة المتلقية على كيفية توزيع المساعدات ومنح التعاقدات. على سبيل المثال؛ تتدخل الولايات المتحدة بقوة في العمليات الإنسانية في الصومال وسوريا واليمن، وغيرها، لضمان ألا يُنفق دولار واحد من مساعداتها بصورة مباشرة أو غير مباشرة بشكل يفيد منظمات أو مؤسسات تُدرجها واشنطن على قوائم الإرهاب.
وعلى الناحية الأخرى، وفي نطاق سيطرة الدول المتلقية، كشف تقرير موثَّق العام الماضي عن تعاملات بعشرات الملايين من الدولارات بين منظمات إغاثة إنسانية تابعة للأمم المتحدة وشركات قطاع خاص سوريّة، يُشارك في ملكيتها أو يسيطر عليها ممثلون لأجهزة أمنية أو أقارب لمسؤولين سوريين كبار، بعضهم مدرج على قوائم العقوبات الغربية. ونالت هذه الشركات المشبوهة، نحو 47% من إجمالي تعاقدات الأمم المتحدة في عامي 2019 و2020.
لماذا عدتُ إذن؟
لم تعني عودتي الفعلية للعمل والسفر المستمر في مهام أممية اعتبارًا من 2005 أنني رجعت إلى ما كنت عليه في صباح 19 أغسطس/آب 2003 قبل وقوع الهجوم. أحب أن أعتقد أنني أصبحت شخصًا أكثر حساسية وحرصًا على ذاتي وعلى من حولي، وأكثر تأملًا في قيود العمل الإنساني وإمكانية إجراء إصلاحات في نظام المساعدات الإنسانية الدولية، بل وفي صلب الأمم المتحدة ذاتها.
غير أنني أيضًا أظل واعيًا بأهمية العمل الإنساني ودوره في تلطيف حدة الخسائر الرهيبة للمدنيين فيما يتعلق باحتياجاتهم الأساسية وأمنهم.
لم أمكث في منظمات الأمم المتحدة سوى ثماني سنوات بعد عودتي. لأنني كنت تغيرت كثيرًا، بينما ظلت المنظمة الدولية عاجزة عن التغيير لأسباب كثيرة ومعقدة، حاولت تقديم بعضها في هذه المقالات الأربعة.
استقلتُ في عام 2013 من أجل السعي وراء أحلام أخرى، بعضها تبين أنه أوهام لكن لا يهم! غادرت مكتبي في يونيسيف في نيويورك وأنا مرتاح الضمير أنني انتقدت الأمم المتحدة ووكالاتها المتعددة التي عملت بها وأنا داخلها، وليس فقط بعدما تركتها.
ما زلت واعيًا بمشاكل الأمم المتحدة العديدة، وعارفًا بفوائدها الكثيرة، ومدركًا لمعضلاتها وصعوبة تغييرها ما لم تتغير سياقاتها، وخاصة توازنات الدول الكبرى السياسية والاقتصادية.
في الذكرى السنوية لانفجار بغداد الذي نجوت منه، فكرت كثيرًا في الشخص الذي كنته منذ عشرين عامًا عندما فقدت 22 من زملائي في مقر الأمم المتحدة الرئيسي في العراق. فكرت في الثمن الذي دفعته، وفكرت في كيف وكم تغيرت.
فكرت أيضًا في أن كثيرين من الذين عملوا مثلي في هذا المجال فقدوا حياتهم أو جُرحوا أو اُختطفوا على مدى العقدين الماضيين؛ ستة آلاف منهم تقريبًا، كان آخرهم زميلي الراحل مؤيد الحميدي، رئيس مكتب برنامج الأغذية العالمي في مدينة تعز باليمن، الذي قُتل في أواخر يوليو/تموز.
لقد ساهم ذلك الانفجار الدموي المجنون في دفعي لأن أتغير للأفضل، ولكن الأمم المتحدة تظل عاجزة عن إصلاح حالها والوفاء للمبادئ التي تؤسسها بالكامل، رغم كل هؤلاء الضحايا.
لا شك أن إصلاح وتبديل مؤسسات ضخمة أصعب بكثير من شفاء أفراد وتبدلهم. ولذا، ربما علينا العمل بصبر وأناة، والسير في محاولات الإصلاح خطوة خطوة، وبرنامجًا بعد برنامج، إلخ، حتى تصبح الأمم المتحدة أكثر تعبيرًا عن روح ميثاقها الموقع في سان فرانسيسكو منذ أكثر من 80 عامًا.