بات من الواضح بالنسبة لي منذ عدت للعمل المنتظم في أنشطة الإغاثة الإنسانية الأممية، أن نظام المساعدات الدولي عاجزٌ عن إيجاد حل لجذور أي من تلك المشاكل التي رأيتها في بلدان متعددة، وفي ظل نزاعات متنوعة.
من مخيم جنين في الضفة الغربية المحتلة 2002، حتى الدمار المروع في جنوب لبنان 2006، ومن المنازل الفقيرة المحترقة في مذابح دارفور 2004، إلى المشاعر المشتعلة تحت الرماد في كوسوڤو حتى الآن. ومن تجمعات النازحين الروهينجا المستمرة في بنجلاديش، حتى اكشاك الصفيح والقماش التي يعيش فيها لاجئون صوماليون منذ عقود في كينيا.
وفي الحقيقة فإن هذا العجز ليس سُبَّة في جبين منظمات الإغاثة، لأن وظيفتها هي تقديم المسكنات وليس العلاج.
تداخل السياسة
لا يجب محاسبة منظمات؛ مثل برنامج الأغذية العالمي بسبب استمرار ظاهرة الجوع في عالم ينتج أكثر مما يحتاج من الغذاء، ولكن من حقنا أن نطلب من نفس البرنامج، الذي تعدت موازنته 14 مليار دولار في عام 2022، أن يتحدث أكثر عن أسباب الجوع وسوء التغذية، ومعظمها يعود للسياسات الاقتصادية والاجتماعية للدول، ونظام السوق المهيمن.
ويجب أن يتوقف البرنامج عن ادعاءاته بأنه لا يتحدث في السياسة ولا يتدخل فيها، وهو يلعب أدوارًا سياسية إما لصالح مانحين بعينهم، أو بالتوسط لحل صراعات بسبب طموحات شخصية، مثلما فعل المدير التنفيذي السابق للبرنامج ديفيد بيسلي في السودان في 2021، عندما أزعج أطرافًا كثيرة بمحاولة وساطة لم تكن في محلها.
من حقنا أن نطلب من البرنامج والمنظمات الشبيهة أن تقاوم التسييس الفج للمساعدات الإنسانية، وتحويلها أحيانًا أو جزئيًا لإحدى آليات السياسة الخارجية للدول المانحة، وأهمها الولايات المتحدة، أو إحدى سبل الضغط من الحكومات المتلقية أو الميليشيات على الأرض، مثلما فعلت كابول والخرطوم ودمشق وأديس أبابا، أو طالبان والجنجاويد والشبيحة.
ستظل المنظمات الإنسانية لاعبة في السياسة، ولكن عليها أن تواصل المحاولة، مثلما يفعل بعض قادتها، أن تلتزم بمبادئ الحياد، والاستقلالية، وعدم الانحياز، وإلا صارت جزءًا من المشكلة بدلًا من أن تكون مسكنًا مهمًا لأعراضها. منظمات همُّها الرئيسي مساعدة المحتاجين حقًا، وليس بقاء المنظمة ونموها كما لو كانت بيزنس خاصًا.
لم تعدم المساعدات الإنسانية دوافعَ سياسية منذ تطورها الشديد في مطلع القرن العشرين، خاصة في أعقاب الحرب العالمية الأولى، ثم صارت ساحة صراع بعد الحرب العالمية الثانية، وكانت المرحلة الثالثة من تطورها الدولي في التسعينيات عقب انهيار الاتحاد السوڤيتي. كان ذلك واضحًا في منطقة البلقان في التسعينيات عندما أنشئت ملاذات آمنة لمنع تدفق اللاجئين إلى أوروبا الغربية، وفي حين تم توفير الغذاء والمأوى، فإن الحماية لم تكن متوفرة وقُتل العديد من الأشخاص في أماكن مثل سربرنيتشا.
زاد تسييس العمل الإنساني وضوحًا أمامي عندما التحقت بالعمل في الأمم المتحدة في عام 1999 في أفغانستان، حيث كانت جماعة طالبان أكبر متحكم في استلام المساعدات على الأرض، فيما يتحكم المانحون في واشنطن وعواصم أخرى في تدفقها.
وتجلى هذا التسييس بعد هجمات 11 سبتمبر، عندما سمعنا بوضوح من المسؤولين الأمريكيين أنهم لن يسمحوا بوقوع مجاعة تستغلها طالبان أثناء الهجوم الأمريكي، حتى لو تكلف طن القمح أضعاف ثمنه، وأغرقت الأمم المتحدة أسواق البلاد بالطحين والزيت والسلع الغذائية الأساسية، ولم تحدث مجاعة متوقعة.
تطور التسييس لمستوى أعمق من التكامل في عام 2002 خلال أشهر التحضير لحرب العراق، عندما أعلن وزير الخارجية الأمريكي آنذاك كولن باول، أن وكالات المساعدة الإنسانية إحدى عوامل القوة الأمريكية في مكافحة الإرهاب. واطلعت بنفسي على خطط التدخل الإنساني من جانب منظمات أممية في خريف 2002 قبل غزو العراق بأسابيع عديدة، بل وتمت مشاركة بعض هذه الخطط مع واشنطن كما رأيت بنفسي.
وبعد حرب العراق اتسعت المشاركة المباشرة للفاعلين العسكريين من الدول التي كانت طرفًا في الحرب في العراق وأفغانستان، لتشمل توفير الإمدادات الإنسانية كجزء من حملة كسب القلوب والدعم وسط الشعوب المنكوبة بالحرب والطغيان المحلي والدولي.
صورة تنهار وثقة تتآكل
وهكذا، لم يكن من المفاجئ أن نشهد تحولًا في الرأي العام في الشرق الأوسط وجنوب آسيا ضد الأمم المتحدة ووكالات المساعدة الأخرى، التي اتُهمت بأنها أصبحت أداة غير محايدة للغرب. ولم يُساعد في نفي هذه الصورة مدى تعقيد وتداخل منظمات الأمم المتحدة، وكون المنظمة الدولية تلعب أدوارًا سياسية وإنسانية وحقوقية متداخلة، وتخضع بصورة ما لإشراف نفس البيروقراطية في أعلى المستويات.
فلديك مجلس الأمن الذي يفرض عقوبات على العراق، آنذاك، وعلى أفغانستان وسوريا، الآن. ثم لديك منظمات مثل يونيسيف ومفوضية اللاجئين وبرنامج الأغذية التي تعدى إنفاقها 26 مليار دولار في عام 2022، لمساعدة مئات الملايين من اللاجئين والنازحين والفقراء ومتضرري الحروب في مثل هذه البلدان، ثم مجلس حقوق الإنسان الذي يُصدر تقاريرًا عن انتهاكات الدول والحكومات على الجانبين.
ومهما كانت تفسيرات فشل وانحيازات منظمات الأمم المتحدة السياسية، فلا ينبغي أن تُصبح مبررًا لافتراض أنها مجرد صنيعة للغرب
ويزيد الأمر تعقيدًا أن اثنتين من الدول الخمسة دائمة العضوية في مجلس الأمن، وهما الولايات المتحدة وروسيا، تواجهان اتهامات بالتورط في انتهاكات للقانون الدولي الإنساني، فيما يتعلق بشن هجمات على منشآت طبية وصحية خلال نزاعات.
وهذه الدول الأربعة متورطة أيضًا في شن هجمات باستعمال طائرات مُسيّرة، واختطاف ومحاولة اغتيال الخصوم، واعتقال بعضهم دون وجه حق. وفي نفس الوقت فإن هذه الدول خاصة الغربية قدمت ما يزيد عن عشرين مليار دولار مساعدات لعمليات إنسانية تجري أحيانًا في نفس الأماكن، التي تشن فيها هذه الدول حروبها المستمرة بلا نهاية في الأفق، في بلدان مثل مالي واليمن وسوريا وأفغانستان.
وهذه ليست اتهامات بالنفاق بل توضيح لمدى تعقّد سلوك الدول والمنظمات الدولية التي تتنازعها اعتبارات متعارضة أحيان كثيرة.
لا توجد "زتونة"
ولكن في عصر تنهمر فيه المعلومات ويسعى الجميع لقصص مختصرة أو للحصول على "الزتونة"، ومعرفة كل شيء في جملة واحدة أو فيديو من عشرين ثانية، صار من السهل النظر للأمم المتحدة في العشرين عامًا الأخيرة، وخاصة منذ هجمات 11 سبتمبر الإرهابية، على أنها مجموعة منظمات فاشلة إنسانيًا تعمل في خدمة الولايات المتحدة سياسيًا، وعاجزة عن قيادة العالم لتحقيق الأمن والتنمية ودعم حقوق الإنسان. وهذه هي الأهداف الثلاثة الرئيسية منذ إنشاء هذه المنظومة الأممية بعد الحرب العالمية الثانية. ولكن كما هي العادة فواقع الأمر أكثر تعقيدًا.
ومهما كانت تفسيرات فشل وانحيازات منظمات الأمم المتحدة السياسية، فلا ينبغي أبدًا أن تُصبح مبررًا، وخاصة لدينا في دول الجنوب العالمي، لهدم أسس هذه المنظمات أو، وهذا أسوأ، افتراض أنها مجرد صنيعة بيد الغرب.
هذه التفسيرات المختزلة صارت وقودًا في خزانات الجماعات الإرهابية، التي واصلت الهجوم على الأمم المتحدة. سواء كان الهدف قوات حفظ سلام أرسلها مجلس الأمن، أو قوافل غذاء أو دواء أرسلتها منظمات المساعدات الأممية.
وهكذا صار المدنيون، ومعظمهم أبرياء، محشورون بين الاعتبارات السياسية للمجتمع الدولي من ناحية، والجماعات المسلحة، أو الدول، التي تسيطر على حياتهم من جهة أخرى. فكر في السودانيين في الخرطوم أو النازحين في شرق الكونغو أو في مالي، أو في سكان مناطق التماس في اليمن؛ هم كلهم وقود هذه المواجهات التي تجري على أجسادهم فعليًا.