فكر صديقي المقيم مثلي في محافظة سوهاج أكثر من مرة في مسألة السفر إلى الإسكندرية، أخذ يحسبها بالورقة والقلم. أُسرة مكونة من أربعة أفراد كي تسافر يُكلفها الانتقال ما لا يقل عن ألف جنيه. قررنا غلق هذا الموضوع، لأن الحِساب مُرهق، واكتفينا يتأمل الزروع الممتدة أمامنا بلونها الأخضر الزاهي، قلنا إن أهل المدن الكبرى كالقاهرة والإسكندرية لو رأونا جالسين تلك الجلسة لحسدونا على ما نحن فيه، فكرنا في الملل من تكرار تلك المشاهد بشكل رتيب، وصمتنا.
أفسر أنَّ حبَّ الصعايدة للبلاد الساحلية يكمن في البحر؛ فالنيل عندنا هادئ، راكد، يضيق أحيانًا في مناطقَ فتشعر أنه ترعة كبيرة نسبيًا، بلا أمواج، لا يسمح بالسباحة، ماؤه عذب كالذي نشربه. فما المختلف فيه سوى أنه يبتلع كلَّ عامٍ مغامرًا يحاول السباحة في مائه.
في العام الماضي حين زرتُ الإسكندرية، كانت المدينة صاخبة كعادتها في الصيف، لم أسمع شكوى من غلاء أو مبالغة في الأسعار. وبين رغبة صديقي وذكريات رحلتي السابقة، قررت الكتابة، ليس عن اللحظات الطازجة التي لم تفارق خيالي بل عُدت إلى أبعد من ذلك، حين زرت المدينة لأول مرة في العام 2013. أحيانًا نحتاج إلى البعد الزماني كي نكون أكثر قدرة على الإدراك، وربط المكان بزمنه أو بالظرف التاريخي.
الزيارة الأولى
دخلتُ الإسكندرية، لا كما يدخل الفاتحون الحالمون بمملكة متسعة بين بحر وبحيرة؛ فقد مات الإسكندر الأكبر واندثر قبره في دروبها الواسعة، وشوارعها الطويلة، المحيرة لصعيدي مثلي.
لا أذهب إليها كما بعض المُصطافين كل عام، رفاهية السفر الطويل أكثر من عشر ساعات غير متوفرة لدى من يسكن مدينة جنوبية. في تلك الزيارة كان العام عام اقتتال وصراع والشوارع أشبه بساحات الحرب؛ خناقات في محطات البنزين، أولاد أشقياء يحرقون أُطر سيارات يسدون بها الطرق، غازات تدمع العيون، ورذاذ بارود موزع في ذرات الهواء.
الطريق ملبد بالخطر، الأتوبيس لا يمكنه التحرك وسط كتل النار، نفد البنزين، ركن السائق، وعلى الركاب خبط رؤوسهم في أصلب حائط، لن يبالي بهم أحد.
رقعة الإسكندر الممتدة
كانت الإسكندرية قبل الإسكندر أقل نداوة، بحر الإسكندرية قبله غير البحر المعروف، وناسها غير الناس، لكن الفاتح فتح كلَّ شيء، فتدفق كلُّ شيء. خطَّطها على هيئة رقعة شطرنج، حلُم بهذه اللعبة في مناماته القصيرة، بين غفوة وأخرى، ينقل قطعة، يتقدم للأمام، انتصارات الواقع أكثر من رقعة الأحلام المحدودة، لم تكن هناك فرصة لالتقاط حلم في منام قصير. الحياة هرولة، والجاد هو مَن ينتقل خطوة على رقعة تزداد كل يوم اتساعًا.
ضرب الفاتح رمحه، خط خطوطًا، راقب المهندسون سِنَّ الرمح، بدأوا التنفيذ فيما كان هو في سَفره نحو الغرب، نحو الإله القابع في حِضن واحة سيوة. هناك، بعد رحلةٍ طويلة، اكتشف أن مشقة الذهاب لمغرب الشمس ليست كافية، من سيوة غرز رمحًا آخر، بحنان ولباقة، بنى له في قلوب المصريين معابد وهياكل من محبة.
يشير غومبرتيش في كتابه "مختصر تاريخ العالم" إلى أنَّ "الإسكندر كان مُصرًا أن يكون حاكمًا حقيقيًا لمصر، من النوع الذي كانوا هم معتادين عليه، توجه الإسكندر عبر الصحراء لإله الشمس وأمرَ الكهنة بإعلانه ابن الشمس، وعليه، الفرعون الشرعي".
حريق يزحف نحو الحضارة
في طريق رحلتي، عندما بلغ بنا التعب أشده، ولم يزل الأتوبيس متوقفًا نمنا في حديقة ظليلة، كانت الحشرات تناوشنا لكنها أرحم من بني البشر، عاودتني ذكرى الإسكندر، ها نحن نقترب من الإسكندرية، هل سأرى هناك أطياف الفاتح؟ هل أجد عنده بشارة بزوال الغُمة، هل ساء الحال لهذه الدرجة التي نتمنى فيه النصرة من طيف رجل وطأ بكل رجولة وعزم أرضًا غير أرضه واستطاع أن يؤسس فيها فجرًا جديدًا للضمير.
غادرنا القاهرة عصر يومٍ قاس، منفلتين من فخاخ الأرذال، تسلل الأوتوبيس نحو طريق مصر-الإسكندرية، بعدما وفرنا له المؤونة. عاودني نزغ الضمير، تجلت أمامي كتب التاريخ والمجلدات الضخمة في الأقبية المستترة، وفي ممرات المكتبات في زوايا القاهرة، شممتُ رائحة تأتي من ألف سنة أو أكثر، يوم دخول أول كتاب لمكتبة الإسكندرية. رأيتها في غفوة وأنا على مقعد غير مريح تحترق، تخرج ألسنة اللهب من كل صفحة وكتاب فيها.
خنقتني الأدخنة وأنا نائم، كان كابوسًا مريعًا، ذبحني الألم وأنا أتذكر حرق المجمع العلمي بعد ثورة يناير، النار تخرج من كل مكان، يخرجون ألسنتهم من أفواه قذرة، يرقصون، يغيظون الإسكندر في قبره المجهول. رأيت التتار وهم يزحفون على بغداد، ورأيت الكتب في كل مكان، والأقدام بلا رحمة تدهس الحضارة. نفس الصبية في كل عصر وزمن، الأفاعيل نفسها، الحضارة تحترق، خربت الأرواح ولا منجى. ناديت وأنا نائم، أيقظوني، فتحت عيني، كان البحر يبدو من بعيد غريبًا، زحام شديد، ونهار يرحل يحمل مجهولًا. قلت لهم الحضارة تحترق، تعاطفوا معي، هلوساتي لا تُحتمل. وصلنا أخيرًا إلى الإسكندرية، اِنس مشقة الرحلة، واستعد للاستمتاع.
ستتبعك هذه المدينة
لم يكتمل بناء الإسكندرية في حياة الإسكندر، غادرها إلى بقاع شتى، معه جنود يزيدون مع كل بلدة يدخلها. تأتيه أنباء الإسكندرية، يفكر في العودة إليها ذات يوم، يبني له قصرًا على البحر، يتخذ منها عاصمة ليس لمصر فحسب بل للعالم بأسره.
كثرت فتوحاته، وفي صبيحة يوم، وجد جنوده نائمين في خيامهم، حثَّهم على السير، لم يعصوه، لكنه رأى في عيونهم المللَ، ما فائدة ذلك المجد الذي يُنسب لشابٍ لم يكد يبلغ الثلاثين من عمره، شعر أن رحلته أوشكت على الانتهاء، جمع متاعه، نادى أتباعه يدعوهم للعودة[1].
صارت المدينة مِلكهم، يتمتعون بجوها مكافأة على حروب خاضوها. لم تبدُ علامات الانكسار على الفاتح العظيم. كان يدرك، أنه وصل لقمة هرم طموح جنوده، وأنهم لن يتحملوا أحلامه التي توشك أن تلتهم العالم.
ابتلاع الوافدين
هل الإسكندرية تمتص البشر النازحين إليها أم تطردهم؟ بخلاف الصيف، وقدوم آلاف المصطافين كل عام، يذهب المئات طلبًا للرزق، فبلاد بحري خيرها كثير كما يُردد الصعايدة.
أتأمل العلاقة بين صاحب البلد والوافد سواء أكان عابرًا مثلي أم مقيمًا؟ أراها من زاويتين: المزاحمة في طلب الرزق حيث القادمون أكثر مما يمكن أن تتحمل المدينة، و"التأفف"، فكل وافد يأتي بعاداته التي لن يغيرها، فيحدث الصدام الذي يمكن أن يُطلق عليه التأفف.
أتعجب أن البعض لا يفرق بين العوم في ترعة قريته الصغيرة، والسباحة على شاطئ مليء برجال وسيدات من مختلف الأعمار. الوافد يأتي بثقافته وعاداته. من عادتي ألا أنزل البحر إلا نادرًا، أراقب وأتأمل، عينٌ على الحاضر، وأخرى ترتد ناحية الماضي.
هَدَّتنا الرحلة من سوهاج إلى الإسكندرية، كنا نأمل أن نأخذ قسطًا من الراحة، لكن الأحداث لم ترحم. شوارع مصر كلها تغلي، يوم 30 يونيو يدنو وينتظر الجميع رحيل رئيس. كانت أصداء ثورة 25 يناير مستمرة، وشعلتها متقدة، الكل طالب الرئيس بالتوقف عن قيادة السفينة، سقط بعد عام واحد من حكمه، مثلما سقط راحلٌ قبله. تذكرت الإسكندر، هنا مرَّ ورحل، قبل أن يُتم الواحد والثلاثين من عمره.
دون الوصول
مات الإسكندر، كما يُشير غومبرتيش في القصر الصيفي لنبوخذنصر عام (323 ق. م) بعد خذلان جنوده له. كنت حائرًا بين الماضي والحاضر، تسارع الأحداث عجل برحيلنا، البحر بلا مصطافين، أمواج من الجماهير تهدر، بينهم صعايدة مثلنا لكنهم بنوا بيوتًا واشتروا شققًا، تزوجوا وألحقوا أولادهم في المدارس الحكومية، البعض منهم انغمس في قلب المدينة، لكن أغلبهم سكن الأطراف، حيث الحياة أقرب للريف منها للمدن.
كنت أعرفهم من الصوت والهتاف؛ قليل من أهل الصعيد يغير لهجته، ليس تفاخرًا فقط لكن عجز عن التحول منها إلى اللهجة الأكثر رقة.
رفعت ورقة مكتوبًا عليها باللون الأبيض "ارحل" بخلفية حمراء أعطتها لي امرأة من المتظاهرين، التقطها مني آخر، ورفعها بيده إلى أعلى بينما زميله يقوم بتصويره. لحظتها تماهت الفروق، اختفى التأفف الذي يمكن أن تشاهده أو تسمع عنه من المصطافين وسكان البلد، لحظة تنداح كماء راكد أُلقي فيه حجر صغير.
لا أستطيع أن أقول إني أعشق الإسكندرية وأيضًا لا أكرهها، فالكاره لا يشتاق أبدًا، لكني أردد في كل مرة وأنا أنسلُّ منها حزينًا مع الشاعر اليوناني كفافيس عندما كان في مثل موقفي "وستتبعك هذه المدينةُ إلى آخر العمر، فالداخل فيها، خارج منها، والخارج منها سوف تنتهي خُطاه إليها".
[1] كتاب مختصر تاريخ العالم لغومبرتيش.