IMDB
نور الشريف وعلي إدريس من فيلم البحث عن سيد مرزوق

كالصائد يقفز ليلاقي فريسته: الزمن في سينما داود عبد السيد

منشور السبت 9 يوليو 2022

كل فيلم من أفلام المخرج داود عبد السيد يفرض زمنًا خاصًا، له شخصية، تشعر كأنه أحد أبطال الفيلم، وليس فقط ستارة في الخلفية تمر أمامها الأحداث. هذا الحضور العضوي والمكثف للزمن ربما يدل على أن المخرج يضعه ضمن أولوياته عند بداية التفكير في الفيلم.

في الغالبية من الأفلام المصرية، تلمح استقلالية الزمن كمفهوم، له حضور مهيمن، منفصل عن مصير الأحداث والأبطال وربما يتداخل أحيانًا مع مفهوم "التاريخ". في هذه الأفلام نعايش زمنًا منفصلًا، لم يذب بعد داخل حياة الفيلم وأبطاله. رغم أن شريط السينما هو كون جديد له خالقه وزمنه الخاص؛ مازال هذا الزمن الخارجي القدري، يفرض سيطرته، التي تمنعه من الذوبان الكامل فى الكون الجديد المخلوق داخل الشريط السينمائي.

لذا نجد في أفلام داود محاولة للتعامل والمواجهة مع مفهوم الزمن بأشكال مختلفة، وتلمس تركيبة جديدة له، وهي تركيبة قلقة بالضرورة، تجعله أحد أبطال الفيلم من دون هيمنة، بمنح أبطاله أزمنة خاصة استثنائية، أو عبارة عن فقاعات زمنية يعيشون فيها تجاربهم الهامة، مع حضور نسبي لذلك الزمن الخارجي القدري.

فالزمن في بعض أفلامه لا يلعب دور التاريخ، ولكن له حضور محرض، بل أمومي أحيانًا، في تجربة أبطاله، يسير بجوارهم ويحتويهم، كي يمنحهم في النهاية خلاصًا ما، أو بمعنى استنارة ما، فالزمن يمنح جزءًا من أبديته وقوته لهؤلاء الأبطال، ويجعل تجاربهم في الحياة تجارب تشبه الولادة الجديدة.

الخطأ يفتح زمنًا جديدًا

في فيلم البحث عن سيد مرزوق، يبدأ بصوت هذا الزمن الخارجي المتمثل في دقات ثواني المنبه التي تشير لزمن محدد. يستيقظ البطل يوسف كمال، بميقات زمنه الداخلي، الذي أخذ شكل الزمن الاجتماعي الرتيب للموظف الحكومي، وهو يعتقد بأن المنبه لم يضرب، فيجهز نفسه سريعًا للذهاب إلى العمل.

ولكنه هذه المرة كان مخطئًا في تقديره، فاليوم عطلة، ولكن ذلك الخطأ في زمنه الداخلي الرتيب، يفتح له زمنًا جديدًا مليئًا بالسحر والتجارب، يستغرق يومًا واحدًا، داخل زمنه القديم المنضبط، المعلق على الثواني والدقائق.

زمن مفكك حر لا يخضع لسلطة اجتماعية أو قدرية أعلى تحركه وتصل بين أجزائه، ويتم فيه تحدي السلطة في كل صورها. يأخذه هذا الخطأ في الاستيقاظ، إلى زمن التجربة السوريالي، حيث تتوالى فيه الحكايات والمفاجآت والتحولات من دون رابط منطقي، وتعرف في النهاية أن هذا اليوم الطويل، هو يوم عيد ميلاده، أو اليوم الذي يتجدد فيه الميلاد.

زمن كالصائد

في فيلم أرض الأحلام، هناك أيضًا زمن مكثف، يستغرق يومًا واحدًا، وهو يوم رأس السنة. يبدأ ذلك الزمن أيضًا بخطأ في التقدير، حين تظن مدام نرجس، وهي على وشك الذهاب في اليوم التالي لتقديم طلب هجرة مع ابنها وزوجته، أن باسبورها ضاع، فيؤدي بها ذلك الخطا لسلسلة من المفاجآت الليلية التي تغير من حياتها، وتجعلها في النهاية ترفض خطوة السفر.

ظهور ذلك الزمن الداخلي الخاص للأبطال يتم دائمًا عن طريق خطأ ما، فليس له مداخل أخرى، إلا عبر هذا النوع من الصدف، التي تقوم بتغيير العلاقة مع الوسط الاجتماعي المحيط، وتكشف عن إرادة كامنة تنتظر ذلك الخطأ لتمسك بزمام ذاتها.

سلوك نرجس هنا قريب من استنارة البطل يوسف كمال في البحث عن سيد مرزوق، عبر يوم واحد أيضًا يكتشف فيه السجن البرجوازي الذى كان يعيش فيه، ويرى الحياة ونفسه من مكان جديد عبر مخاض ليلة مليئة بالمفاجآت والصدف ومواجهة السلطة والمجتمع، وتتجمع فيها رهانات العمر كله.

الزمن هنا يقوم بمهمة محددة، مرتبط برصد لحظة تحول مفصلية، وليس فقط كمكان لنمو حياة الأبطال عبر أزمنة الماضي والحاضر والمستقبل. حياة الأبطال هنا معلقة داخل ذلك الزمن المستقطع من الزمن الاجتماعي الكبير. هو زمن التحول أو التجربة، أو الولادة، لذا هو استثنائي، ليس هو الليل والنهار وتعاقبهما، هو زمن كالصائد يقفز ليلاقي فريسته التي على وشك أن تهرب من الحاضر، وتصبح جزءًا من الماضي، الذي لا يشغل المخرج، فداود يهتم في أفلامه بزمن الحاضر، أو المضارع.

ولكي يشحن هذا الحاضر ويكسبه مذاق أبطاله الخاصين، يكشف عن عالم باطني ساحر داخل هذا الحاضر الاجتماعي الواضح، لذا يسمح لأبطاله بان يكون هذا الحاضر بالنسبة لهم مكانًا للتحول أو الانجذاب، بدلًا من أن تتساقط ثوانيه ودقائقه على أجسادهم من دون معنى.

الزمن السحري

التشابه في الفيلمين هو انتماء بطليه للطبقة المتوسطة، وخروج هذا الزمن السحري، من ثنايا تلك الطبقة وحكاياتها، أو أن هذه الطبقة كما تخضع لزمن خارجي يفرض عليها سلطاته ونظامه، تملك أيضًا داخلها زمنًا سحريًا للتفلت والخروج عنه.

منح داود أبناء هذه الطبقة امتياز اكتشاف ذلك الزمن الداخلي المكثف، القريب من الشعر في انفجاره، الذي تنفرط فيه الأجزاء ثم تعاد لتلتئم في كيان جديد وجسد جدديد يحدث فيه التحول. عملية انصهار ثم تجمد، تتفكك كتل ذلك الزمن الكلي إلى أجزاء صغيرة أو تجارب سريعة، ولكن هذه التجارب ليست كل شيء فهي ليست الغاية، فخلفها يحاك مفهوم جديد للزمن أكثر عدلًا وأقل سلطوية يمنح أبطاله وعيًا جديدًا.

جدارة داود، في رأيي، أنه ينسج خيوط ذلك الزمن المكثف بدقة، فيخفي قليلًا هذه الذروة المنتظرة لحكايات أبطاله، ولمفهومه عن الزمن، التي تقع فى المستقبل.

ربما هذا الاستخدام المتقلص للزمن يقوم بتكثيف اللحظات ويمنح الشكل وإيقاع الفيلم تماسكًا، ولكنه ربما أيضًا يمنع عمدًا، نمو تلك اللحظات في اتجاهات أخرى يمنع الفيلم ألا ينظر للماضي، على سبيل المثال يمنع التراجع لنقطة بدايات أبطاله، عكس ذلك الزمن الخطي النامي باتجاه ذروة ما، والمرتبط بزمن تاريخي خارجي تتقدم فيه البشرية باتجاه ذروة لها.

جدارة داود، في رأيي، أنه ينسج خيوط ذلك الزمن المكثف بدقة، فيخفي قليلًا هذه الذروة المنتظرة لحكايات أبطاله، ولمفهومه عن الزمن، التي تقع في المستقبل. وأيضًا ليس هو الزمن المتقطع الذى يتفرع حتى يبدد أى ذروة يطمح إليها. لذا هو يرتبط بسبب ونتيجة في المستقبل. هو زمن مشدود لهذا المستقبل ويرى نفسه فيه. هذا الزمن الذي يسير في اتجاه واحد، باتجاه استنارة البطل مثلًا.

يثبِّت داود في هذين الفيلمين، البحث عن سيد مرزوق، وأرض الأحلام، على سبيل المثال؛ "الزمن الحاضر" ويشده من جانبيه بقوة لتتم معايشة واحتواء لحظة التحول كاملة. ربما هذا التثبيت للزمن، أو حركته داخل مجال محدود، يمنح المتفرج الشعور بماديته وتتابعه، ويزيد من عمق هذه اللحظات التى يجسمها بمروره البطيء، رغم سرعة الأحداث، وربما يمنحها إحساسًا كإحساس النحت في التماثيل.

ففي النهاية هناك يوم واحد، تجمعت فيه رهانات العمر. يتكثف الزمن من كثرة توالي الأحداث، يتبلور الإيقاع، من خلال علاقة مادية تتغير باستمرار وتتحول فتشعر بمرور الزمن، وربمًا أيضًا للتغلب على شكل الحكاية التقليدية التي تضع الزمن في سياق تعاقبي مثلًا.

يمنح هذا الزمن الداخلي لأبطاله، فرصة استعادة خبراتهم الذاتية كي تعينهم على تجاوز لحظة التحول، ينفتحون فيه للمرة الأولى على أنفسهم، يعترفون، أو ينقدون، أو يجدون أخيرًا مسربًا زمنيًا جانبيًا لم يطرقونه من قبل، يشحنونه بآلامهم المنسية، ونجواهم لأنفسهم.

داخل هذا المسرب الزمني الجانبي يتلون نصوصهم الخاصة على أنفسهم، كمنولوجات نرجس، ويوسف كمال، هو الزمن الذي يجمع حكايتهم الخاصة ومناطق قوتهم كونه خطابهم الداخلى الموجه للآخر، والذي طال الزمن ولم يظهر، هو حجتهم أمام الزمن الخارجي المناوئ بتحولاته واستهلاكه وماديته، والذي لايشعر بهم أو يعيرهم آذانا صاغية.

زمن خارجي يحوط بالزمن الخاص

عادة ما يحضر الزمن الخارجي، القدري، الذي يحوط بالزمن الخاص للأبطال، بشكل غير مؤثر، كأنه الهامش، بينما الزمن الداخلي هو المركز. محاولة قلب لمعادلة الزمن، كما أن هناك محاولة قلب لمعادلة السلطة. عادة ما يرتبط هذا الزمن بأحداث سياسية كبرى، ثورة الطلاب العالمية في 1968 وتبعاتها في مصر، هزيمة 1967، الانفتاح الاقتصادي بعد حرب 73، أو أحداث 18 و19 يناير 77.

هذا الزمن وتحولاته قريب قليلًا من الزمن الروائى، عبارة عن قفزات تاريخية تتم داخل الفيلم، ويعبر الرقم سريعًا على الشاشة كأنه أحد عناوين فصل في رواية، ليشير لتحول في تاريخ مصر الحديث. تواريخ يتجاوزها الفيلم سريعًا ولا يتدخل ليصنع بداخلها مكانا لها، كأنها غير مفيدة في الحكي، حتى لا يتورط في أي نوع من التأريخ الجمعي.

من مظاهرات الطلبة في عام 1968

هذه التواريخ هي ما يجسد التاريخ العام الذي تجري داخله أحداث الفيلم، وتتسامى مع فكرة المخرج لتتحول إلى أزمنة مفصلية تتحول فيها خريطة السلطة في الخلفية، ولا يظهر انعكاسها على أبطاله إلا فيما بعد.

 يتضح أن مفهوم الزمن بالنسبة لداود، هو الزمن الداخلي لأبطاله، زمن التحولات الهامة للشخصيات الهامشية أو العادية، ومن خلالهم يتم التأريخ لما حولهم. الزمن الخاص للأبطال أهم من الزمن الذي يحدث خارجه، لأن الهموم الشخصية أهم من كل ما يحدث خارجها، لأن المقياس هنا في زمن الفرد وحياته، ولا شيء يطغى عليه.

عادة يتلخص قراءة تاريخ مصر الحديث، في أفلام داود، داخل لحظات درامية هامة ودالة، يغلب عليها الهزيمة، لتؤدي إلى حتمية التغيير والكشف عن مصادر السلطة والفساد والتأخر في المجتمع. ربما فيلما الصعاليك وأرض الخوف، يمثلان بقوة هذا المعنى، فالتواريخ العامة المؤثرة تظل حاضرة خارج سياقات وأحداث الفيلم، وإن كانت بشكل ما تضغط على أحداثه، من مسافة، تلك المسافة التي يظل المخرج يحافظ عليها باستمرار، بين الزمن الخارجي والزمن الداخلي.

الذات مكان الحقيقة

الزمن الخارجي في هذه الحالة هو التاريخ، بعد أن فقد سيولته وتحول لمعنى محدد أو واقعة، التاريخ هو الهبوط درجة أو عدة درجات من مرتبة الزمن المفتوح، ولكن أيضًا هذا التاريخ غير السامي، هو الذى يضغط على تلك الحكاية الصغيرة ويدفعها لتحكي وتفرغ ما بداخلها، خوفًا من النسيان، رغم عبور أكثر من زمن خارجى له أهميته في التاريخ الحديث لمصر، لكن الزمن الداخلي هو الأقوى والحاضر، زمن الذات التي تبحث عن حقيقة يتجاوز تفسيرها هذه الأزمنة الخارجية وتحولاتها. كون الذات هي مكان الحقيقة.