قبل فترة ليست بالقصيرة انتشرت على مواقع التواصل الاجتماعي صورة لشخص في إحدى وسائل مواصلات بلد غربي، يحمل حقيبة مكتوب عليها في العربية: " لا يوجد أي هدف لهذا النص إلا نشر الرعب في نفوس من يهاب اللغة العربية ". كان حدثًا غريبًا ومدهشًا، غريب بسبب رغبة شخص في بث الخوف، ومدهش بسبب السؤال التي يطرحه: هل اللغة مخيفة؟
اللغة دومًا إشكالية وهي أيضًا أعز ما يمتلكه الإنسان، لكن هل يمكن فعلًا أن تكون مصدر خوف؟ واللغة العربية على وجه خاص لغة مأزومة، في وقت يتفشى فيه الإرهاب، وصار الإسلام والنص القرآني - أهم مرجعيات اللغة العربية - موضع اتهام.
قرأت رواية "يوم الدين" مدفوعًا بما عرفته عن لغة الرواية العتيقة والألفاظ الفخمة الرنانة، وأن صاحبة الرواية -رشا الأمير- كان قد صدر لها قبل الرواية بـ "كتاب الهمزة"، الذي تروى فيه عبر بعض النصوص قصة أول الحروف، مصحوبًا ذلك برسوم دانيال قطار وخطوط على عاصي، بجانب أن أحد ثيمات الرواية كان: الدين وعلاقته بالسياسة، فبدأت القراءة فيها لأرى هل يمكن أن تدخل هذه اللغة (المخيفة) إلى قلب أحد، فيحبها ولا يعود يخافها بأي وسيلة؟
حضرت اللغة في "يوم الدين" كجزء طبيعي منها، ورابط بين أجزائها وإطار لها، أي جاءت الرواية دائرة، مركزها ومحيطها اللغة. اللغة جزء طبيعي من أي كتابة، والرواية بنية لغوية بالدرجة الأولي. ربطت اللغة بين أجزاء "يوم الدين"، خاصة أن الراوي شيخ وإمام مسجد، وهذه اللغة توائمه تمامًا، وكان المتنبي حاضرًا في الرواية كحلقة وصل وولع مشترك بينه وبين المرأة التي يجمعه بها الغرام. ولغة الرواية تناسب لغة المتنبي، ولغة المولعين بالمتنبي. يتوارى الشيخ خلف المتنبي، أو يتقدم باسمه، ويستعين به لتوضيح فكرة، المتنبي الذي يبدو أنه ولد ومات وكتب الشعر ليقرب بينهما.
جاءت الرواية مسرودة بواسطة الشيخ، الرجل الريفي الأصل الذي يلتحق بكلية الدعوة ثم يصبح إمامًا ومدرسًا لأحد المساجد. ويروي الشيخ تفاصيل علاقته بحبيبته التي كانت بدايتها اتفاق على مشروع يتعلق بإنجاز فهرسة لشعر المتنبي. ويصبح المشروع ذريعةً لقاءات وتنمو العلاقة بينهما، رغم أنهما كانا من عالمين مختلفين. قَصَر الشيخ همته على إعداد نفسه لأن يَمثُل بين يدي امرأة لها أن تقرر ما إن كان أهلًا لمشروعها أم لا "لأي شيء أخذتِ نفسك بإخراجى من طور عشت قيده طوال حياتى قبلك؟ أإرضاء لك ولغرورك كلّفت نفسك بذلك أم لسبب يفوتني".
تعلم الشيخ إيمان طفولته في كتاب الطبيعة المفتوح من حوله وفصوله الأربعة، لا في الكتب ذات المجلدات السميكة التي صدمته في بداية دراسته في الكلية. هو الراصد للتناقضات منذ صغره "شيخ لا تزيد بضاعته العلمية على التمكن بعض الشيء من لغة أثرية. وعلى حفظ القرآن وعشرات الأحاديث النبوية".
الدين ليس موضوعًا عابرًا في الرواية إنما مكونًا أساسيًا، الأصولية والتطرف والتهديد من الجماعات الإسلامية كانا حاضرين. صار الشيخ مشهورًا وقَدَّم برنامجًا تلفزيونيًا، وبخصوص ذلك قالت له حبيبته "قريبًا إذن تنضم إلى نادى النجوم. ويصبح لك معجبات ومعجبون"، وتتحدث عن التلفزيون والتسليع وصنعة النجوم، وأنه لا فرق بينه – أي الشيخ- وبين المغنى الشاب الصاعد معبود شريحة من المراهقين والمراهقات، وناقدةً لذلك وللمتاجرة بكل شيء ونتاجه من التخلف الذي يطول كل شيء، تقول: "إلى متى يا مولانا زعمكم أنّ حفّ الشوارب والعف عن اللحى هو الحل والبديل؟ وإلى متى تغاضيكم عن العالم وانصرافكم إلى أصول وفروع لا خير فيها ولا نفع منها يرجى؟ ألا يخجلكم ما نحن فيه من قصور وتخلف وإدمان على الكذب والتلذذ بالقتل؟"
وتعرض المرأة الوجه القبيح للجماعات الإسلامية، حين تحكي له عن فتاة اغتصبت من اثنين من أعضاء إحدى تلك الجماعات وحملت ولا تعرف الحمل لأي منهما، وحين اقترح عرض ذلك في برنامجه ردت عليه بأنه هل يضمن ألا يطولها أذى، هي أو أهلها؟
يتعرض الشيخ للمضايقات من الجماعات ويسجن وهي تسافر وتعمل ما بوسعها لإخراجه ثم يسافر إليها. يسافر من البلد التي هي في قبضة من حديد، تلقي الرعب في القلوب، وحين لا يكفيك الرعب لتتعظ، تُزج في السجن، وتطلق النار وما هو أكثر حسب الحاجة.
الرواية مفتوحة على التأويل، غياب الأسماء والإشارات الزمانيّة والمكانيّة، يحوِّلها نصًا مفتوحًا. وسفر الحبيبة دلالة لرفض تلك الصورة للوطن/ المجتمع ما "جدوى البقاء فى هذه البلاد البخيلة، ضيقة الصدر والخيال"، وغياب ذكر جهة السفر لعدم أهمية التحديد بقدر قيمة المكان الجديد الذي لا بد أن يكون عكس القديم، لا مكان للواحدية ولا أحادية الفكر والتطرف والخوف والتسلط.
نقد أن الدين ليس تطرفًا أو وصاية وأن "رعاية إيمان الناس وسياسته أصعب الرعايات السياسية"، وحمى الطوائف سرطانية وموت للعقل والعاطفة والجسد، والحياة التي تزعم التحزب قليلة وهزيلة ومجحفة.
"يوم الدين"، العنوان، دلالة وإشارة لحلم الخلاص ويوم الفصل دون مقاربة دينية بحتة، الخلاص من كل ما يثقل تلك البلاد عن خطوة واحدة للأمام، ويعريها حتى من ماضيها.
في قصيدته آلهة الزقوم يقول سركون بولص: "جئت إليك من هناك، نهاية العام، عام النهايات... علة ما. وحشة، قلق. ألم دفين. أطاحت بي لأطوف في أنحاء البلدة المقفرة".
لم يكتب سركون بولص تلك القصيدة طبعًا عن الرواية ولا عن اللغة، لكن ذلك ما كان يلازمني طوال قراءة الرواية؛ لغة قديمة، معجمية كأنها ضمن كتاب من أمهات الكتب لا رواية في القرن الأخير، لغة غير حديثة في عصر الحداثة. لغة قد تبدو فظة مع الكثير من الزخرفة، وهذه اللغة بكل ما هي عليه تقول جئت إليك من هناك، وكل عام يبدو عام نهاية، نهاية للغة تموت ككل من فيها وتُرمى في المعاجم، وحشة التأفف منها، قلق استخدامها، وألم حصارها، كل هذا الذي يطيح بها، كل هذا الذي يجعل تلك اللغة بلدة مقفرة.
اللغة التي باتت الآن داءً في حساب الجميع وظفتها رشا الأمير كدواء، عن طريق توزيعات جمالية على طول الرواية؛ توظيف المتنبي لدلالة جمالية الربط بين الشيخ وحبيبته، الحب الذي هو اختبار الذات وما يضعها علي المحك والقادر على تغييرها: "ما استفدته منك فأقل ما يقال فيه أنْ يفوق العد والإحصاء. من قبل أنْ أبعث حيًا على يديك كانت الحياة لا شيء يذكر".
وتصل ذروة جمالية اللغة في الوصف الإيروتيكي لما بين الشيخ وحبيبته وتجلي شخصيتهما وعلاقتهما الحميمية. والرواية مكتوبة بواسطة أنثى، مخاطبةً أنثى، كنوع من الاقتحام والمواجهة، لعقل الرجل وقلبه، ممزوجًا بالدقة والرصد الأنثويين.
"يوم الدين"، رواية اللغة، الحب، الأفكار، الحرية، قهر القهر، التراث العربي، "البلاد البخيلة، ضيقة الصدر والخيال"، حساسية التعامل مع اللغة الخشنة، أنه ما من لغة ترفض العصر والمهم هو الكيفية، كيفية تطويعها، مقاومة الانهزام بمقاومة انهزام اللغة وجعل اللغة مونولوج يرصد الانكسارات والانتصارات. الانتصار للغة هي لغتنا وعلاقتها بتاريخ هو تاريخنا.