هذه أول مرة أزور فيها معرض الكتاب كربّ عائلة، وربما، لسخرية القدر تهتُ.
الزيارة التي قمت بها مع زوجتي وطفليّ إلى مركز مصر للمعارض الدولية، الخميس الماضي، حتمت عليّ القيادة، وحيث إني لا أعرف الطريق، اتبعت GPS، حتى ضللت المسار إلى حي الأسمرات. لا أعرف أي مرحلة منه صادفتُ، ربما الأولى التي افتتحها الرئيس في العام 2016، فبعض شروخ ألمت بعدد من مبانيه التي كساها القدم لونًا كابيًا زاد من كآبة بنيها المحروق وأصفرها العدسي.
كانت شوارع الحي الواسعة أنظف من مستشفى، وربما أنظف من أكثر شوارع القاهرة عراقة، وسيارات هيئة النظافة على الجانبين، اثنان في الشارع الواحد، ووسطه عاملان أو أكثر يقطعونه بالمكانس في همة واضحة، رغم ذلك لن تخطئ عيناك الفقر والعشوائية في كل التفاتة منهما، وكنت أظن الحي "سكن خمس نجوم للغلابة" ومواطنيه الذين ودعوا "الحمام المشترك" يعيشون "الرفاهية"، كما وصفهم موقع بوابة الأهرام في تقرير ميداني نشره قبل عامين.
لا أريد أن أبدو طبقيًا مثل تقرير الأهرام الاستعلائي الذي يمنّ على الناس منحهم المستوى الأدنى من حقهم في حياة كريمة، لكنَّ سبع سنوات من الشوارع النظيفة والمباني المتناسخة في انضباط صارم، لم تنبت في شرفة واحدة بـ"الأسمرات" وردة، أو تضفي على العشوائية نظامًا، أو تكسب البيوت والأسفلت ومن يسيرون فوقه أيًا من مظاهر الرفاهية، لم يكن غير الفقر يتحدث عن نفسه، رغم امتلاء الشارع بالمارة وبينهم العمال يعملون بجد.
لكن ألا يكفي الناس أن يعيشوا داخل أحياء منظمة وشوارع نظيفة؟
غايته؛ وصلت إلى المعرض في النهاية، يخرج منه مع الظهيرة شابات وشبان، كان أكثر ما يلفت في منظرهم أياديهم الفارغة إلا من كيس به كتاب واحد.
أكياس فارغة
عند الباب، الناس في صفين، ينظمهم شبابٌ على سترة كل واحد منهم كُتب "متطوع"، والفتاة اللطيفة في نهايتهما تمسح كيو آر كود على التذاكر الورقية لتُفعلها، ليس ثمة مجال لقطع التذكرة لإثبات استهلاكها، كل شيء صار مرقمنًا، هكذا خريطة المعرض ودور النشر فيه، التي تهتدي إليها بسهولة عبر أبلكيشن متاح على Android وIOS.
الناس أمام صالة 1 و2، حيث دور النشر المصرية المستقلة والرسمية، يحملون أكياسًا قليلة العدد والكتب، ومنهم من لا يحمل في يديه غير أبنائه، ربما الجمعة يتغير الحال ويشتد الزحام حيث قراء كثيرون يشترون كتبًا أكثر، واليوم خميس عادي، والناس في أشغالهم؛ قلتُ ذلك قبل أن تندفع باتجاهي ما تشبه المظاهرة!
داخل صالة 1، طابور طويل يركض باتجاه باب الخروج، يتقدمه من يبدو مقبوضًا عليه، بين شابين يحوطانه مثل فردي أمن، لكن يرفع كل منهما هاتفه الشخصي ليلتقط صورة معه، فيدخل آخران يزيحانهما ويحتلان مكانهما للسبب نفسه، وعندما سألتُ أحد المتأخرين في طابور المظاهرة الطويل، قال إنه يوتيوبر، ولم يكن يعرف اسمه، بيد أنه كان يجهز هاتفه في يديه ليلتقط صورة.
هل كان ذلك اليوتيوبر الذي لم أتبينه من الزحام كاتبًا يوقع أحدث إصداراته؟ أم يشتري الكتب؟ أم يشارك في إحدى فعاليات المعرض؟
في برنامج العرض ثمة محور يدعى "صناع المحتوى" يناقش مؤسسي قنوات اليوتيوب الذين يصنعون مادة عن الكتب وعروضها. هل صار القراء نجومًا؟
عندما انقشعت المظاهرة التي استكملت طريقها المتعثر إلى الخارج، ظهر في الردهة ركن يحمل عنوانًا جذابًا "مبادرة الثقافة والفن للجميع"؛ بضع استنادات وطاولة من الكتب القديمة لإصدارات هيئة الكتاب وأخبار اليوم وقصور الثقافة وغيرهم من دور النشر الرسمية، بأسعار لا تتخطى العشرة جنيهات، يقلب فيهم أشخاص تعدّهم على أصابع يديك، بينما الكاشير فارغ من أي شخص اشترى ويريد الدفع.
الوضع نفسه مشابه لدى باب القاعة الأولى، حيث جناحا هيئتي الكتاب وقصور الثقافة الضخمان يستقبلانك، بينما عدد روادهما قليل للغاية، بالنظر إلى الكاشير أيضًا الذي لا ينتظم أمامه غير شخص أو اثنين، والوفرة في الأعداد المتاحة من كتاب طه حسين الإشكالي "في الشعر الجاهلي"، الذي كاد نشره في ثلاثينات القرن الماضي أن يودي بصاحبه إلى السجن.
"يا نجم.. نورك ليه كده بيرتجف"
"إيش تطلبي يا نفس فوق كل ده..."؛ تتحدث الإذاعة الداخلية بصوت صلاح جاهين نفسه يلقي رباعيته المشهورة، قبل أن تتدخل المذيعة فتخبر عن انعقاد وشيك لندوة بعنوان "نحن والعمارة"؛ وكلا الخطوتين جميل، أن تصدح الإذاعة الداخلية بصوت "شخصية المعرض" وتلفت انتباه الزوار إلى الفعاليات الدائرة، لكن هل ينتبه الرواد فعلًا إلى أي من الاثنين؟
هذا العام حمل المعرض عنوان "على اسم مصر" نسبة إلى قصيدة جاهين الشهيرة، الشخصية الرئيسة للدورة الحالية مع رائد كتاب الطفل كامل الكيلاني، وباستثناء الإذاعة الداخلية التي اهتمت أكثر بالبحث عن الأطفال التائهين من ذويهم، وعناوين الندوات النقدية، لم يكن هناك وجود شعبي للشخصيتين، فليس ثمة عروض مثلًا مستوحاة من أعمالهما، أو مجسمات لهما داخل القاعات، أو لشخصيات إبداعية ميزت نصوصهما، أو استغلال للمحتوى السمعي والبصري لأعمال جاهين المختلفة مثل الرباعيات المتاحة بصوتي سيد مكاوي وعلي الحجار، والأغنيات التي كتب كلماتها، وحتى عمله الأشهر: مسرحية العرائس الليلة الكبيرة، فإن برنامج المعرض لم يتسع لعرضها إلا ست مرات فقط طوال أيام انعقاده الأربعة عشر، وكلها عروض في الصباح، رغم تخصيص الصالة الخامسة كاملة للطفل وكتبه وفعالياته.
إلى معرض الطفل
عندما تركتُ جناح هيئة قصور الثقافة الذي حصلت منه على رباعية لورانس داريل عن الإسكندرية، ونسختين من "الشعر الجاهلي"، ومجموعة الثابت والمتحول لأدونيس بأجزائها الأربعة، وكتاب "الآلهة والناس في مصر"، بالإضافة إلى رواية ميخائل بولجاكوف "المعلم ومارجريتا"، نظير 120 جنيهًا؛ قدتُ جولة في أجنحة الدور المشاركة. ثمة زحام، لكن الناس تتفرج على الكتب، رغم أن بعض الناشرين أكدوا لي أن عملية البيع أكثر من مقبولة وفاقت توقعات كانت لديهم قبل المعرض مع ارتفاع أسعار الكتب الطارئة بعد انخفاض الجنيه ومشاكل استيراد الورق والارتفاع الجنوني لأسعاره.
كانت أغلبية الدور الخاصة ترفع شارات خصم تصل في بعضها إلى 75%، وتقل بعض أسعار إصدارتها القديمة (قبل ارتفاع الدولار الأخير) عن خمسين جنيهًا للكتاب، وبينها أعمال كثيرة تبدأ من عشرة جنيهات، لكن طفلي ذا السنوات الثلاث ترك ذلك كله، وتشبث بكتاب صغير للغاية من إحدى الدور، يزيد سعره عن ثلاثمائة جنيه، وعليه مرمغ الأرض بملابسه حين سحبته منه، ولم يكن بد أمامي غير الخروج إلى معرض الطفل في الصالة الخامسة لتهدئته.
في الطريق إلى هناك كان فريق للأطفال يعزف الموسيقى فوق المسرح، فيما يجر الخارجون من صالتي 3 و4 حقائب سفر ممتلئة بالكتب وكراتين مغلقة فوق أكتافهم، وكان لابد أن أدخلهما لأرى تلك الإصدارات التي جذبت الناس، لأرى معرض الكتاب الحقيقي حيث يشتري الناس الكتب؛ لكن أولًا علي الدخول إلى "معرض كتاب الطفل".
كانت اللحظة الأكثر تعبيرًا عن المعنى الحقيقي لمعرض الكتاب: مساحة آمنة للتنزه والرضاء عن الذات
في وسط الصالة جناح كبير موزعة في أرجائه طاولات يجلس فوقها الأطفال يرسمون وأمامهم مجموعة كبيرة من الألوان الخشب والأوراق، وعلى مقربة منهم امرأة تقرأ حكاية لأولاد وبنات التفوا حولها منصتين. وجد طفلي الصغير ضالته في دار نشر خارج ذلك الجناح تضع طاولة صغيرة بألوان ومتاهات وصور جاهزة للتلوين.
في ذلك الجناح لفت انتباهي دور النشر السورية التي أتاحت إصدارات للأطفال بخامات مبتكرة وبأسعار مخفضة. كتب من البلاستيك والكرتون والقماش المنفوخ، تعرض حكايات ومعارف في مجالات شتى، وبأسعار بسيطة. اشتريت لابني الصغير كتابًا مشابهًا للذي تشبث به سابقًا وبأقل من ربع ثمنه، وللكبير المهتم بالفن التشكيلي، اشتريت كتابين للتمرين على الخط العربي من خامة ممتازة سعر الواحد 25 جنيهًا.
الكتب في حقائب للسفر
هكذا صرت قادرًا على العودة إلى حيث يُشوِّن الناس الكتب في كراتين. في الصالتين الثالثة والرابعة المخصصتين لدور النشر العربية والدور المتخصصة في النشر الإسلامي، إضافة إلى سفارات الدول الأجنبية والجهات الرسمية المصرية مثل وزارة الشباب، التي كانت تنظم محاضرة عن "الإسلام الوسطي" يتحدث فيها شيخ معمم عن الاستهلاك بين الإمساك والبذخ كنموذج على ضرورة تحلي المسلم بالوسط بين الاثنين.
من أين يخرج الناس بالكراتين؟
من دور نشر التراث الديني، تفسيرات مختلفة للقرآن وأخرى للأحاديث النبوية، كلها في مجموعات متعددة الأجزاء، تتعدى أسعار بعضها الآلاف، ومع فصال كبير بين البائع والقارئ يحمل الأخير المجموعة في كرتونة على ظهره ظافرًا بما اشترى.
في أول زيارة لي إلى معرض الكتاب حين كنت طفلًا، لم يشتر أبي كتابًا واحدًا لي، حمل كرتونة مشابهة اشتراها بكل ما امتلكه من مال في ذلك اليوم لمجموعة من مؤلفات ابن كثير، لا تزال رغم مرور أكثر من 25 سنة بحطتها في مكتبة بصالة بيتنا، لم يمسسها أحد أو يتصفحها، لكن تشكل بأبهتها وغلافها الجلدي السميك والخط المذهب فوقه مظهرًا أنيقًا يدل على ثقافة أهل البيت وصلاحهم الديني.
"... وفي الليلة الظلماءُ"
خيم الليل، ومسرح العروض الموسيقية خال، يلتقط الناس فوقه الصور التذكارية، فيما تنبعث موسيقي الدي جي من ساحة الطعام العامرة بزوارها، وهناك جلستُ تشكرني عائلتي على تلك الفسحة اللطيفة، ومثلي مئات الأمهات والآباء يتلقون الثناء نفسه، كانت اللحظة الأكثر تعبيرًا عن المعنى الحقيقي لمعرض الكتاب: مساحة آمنة للتنزه والرضاء عن الذات، بينما تجري في القاعة الرئيسية فعالية توزيع جوائز أفضل كتب المعرض لا يحضرها غير الصحفيين والفائزين الذين ليس من بينهم بالطبع مؤلفو ومحققو الكتب الدينية التي خرج الناس يحمولنها في حقائب سفر وكراتين.
ربما أحجم الناس عن القيِّم من الإصدارات لحاجة مادية، رغم توافر الكثير منها بأسعار رخيصة، أو أقبلوا على ما يغذي لديهم الوازع الأخلاقي لحاجة نفسية واجتماعية، وربما أقبل الشباب على الأدب السريع للتسلية؛ لا أقول "لولا اختلاف الأذواق..." لأنها عبارة تساق غالبًا كحجة للتطبيع مع الرديء، لكن ألا يكفي حقًا، أن تتوفر تلك المساحة الآمنة التي يعايش فيها الأطفال والكبار ذلك الاحتفاء المهيب بالكتاب وقيمته ولو لمرة واحدة في العام؟ ألا يكفي أن يعيش الناس في "الأسمرات" داخل شوارع نظيفة؟
هل ضللت الطريق إلى الأسمرات؟ أم وصلت منذ وطأتها معرض الكتاب؟
شوارع الأسمرات النظيفة لم تغير من فقر السكان شيئًا، كذلك رواد حدث الكتاب الأبرز، الذي فشل القائمون عليه، رغم السنين وتحدياتها المختلفة، في جعله فعلًا ثقافيًا يتجاوز قاعات الندوات إلى سلوك الناس أنفسهم، تمامًا مثل تلك الطرق الجديدة الممهدة التي اجتزتها سريعًا في الصباح رغم عدم معرفتي بها، ثم عدت منها في الليل وهي حالكة السواد دون عامود إنارة واحد يضيء، وكانت الطريق إلى البيت مظلمة حقًا.