اليوم 25 يناير/ كانون الثاني 2023، يبدأ معرض القاهرة الدولي للكتاب. أربع وخمسون دورة تقرّبنا من قضية لعل المعرض يناقشها قبل بلوغه الستين، سن الإحالة إلى التقاعد. ما جدوى استمرار الدولة في صناعة النشر؟ سؤال لم يطرحه معرض ناقشت ندواته قضايا منها: خيال الظل والأراجوز، الدراما والتاريخ، هموم كرة القدم الإفريقية، إذاعة المباريات الرياضية.. خدمة أم سلعة؟، مصر بين الدولة الدينية والدولة المدنية. لكنه لم يناقش: مصر بين الدولة العسكرية والدولة المدنية، هل تستقيل الدولة من صناعة النشر؟ خلينا مع العنوان الأخير أسلم.
أقصد الهيئة المصرية العامة للكتاب، أما الهيئات الحكومية الأخرى فتنشر على الأرجح كتبًا نوعية، على هامش أنشطتها الأساسية (المجلس الأعلى للثقافة، الهيئة العامة لقصور الثقافة، دار الكتب والوثائق القومية). هيئة الكتاب مهمتها نشر الكتب، وتتنافس مع دور النشر الخاصة تنافسًا غير متكافئ؛ فلديها مطابع وجيش من الموظفين يتقاضون تلقائيًا أجورًا لا تضاف إلى أسعار الكتب. ويمكن استثمار مبنى الهيئة ومطابعها في أنشطة تبدأ بالطباعة التجارية، ولا تنتهي بتجهيز سطحها لتأجيره للتشكيليين ومخرجي الدراما والأدباء المغتربين. والعائد يكفي رواتب الموظفين، ويصلهم إلى منازلهم، مع توفير ميزانيات النشر لدعم النشر الجاد الذي يحرص على تقاليد المهنة، وأولها أن دار النشر ليست مطبعة.
ليست مجرد مطبعة
في زمن وفرة الفلوس، كان رجال السلطة يرون هيئة الكتاب ساحة خلفية لنفوذهم، ولهم فيها استحقاقات. ويمكن لباحث إحصاء عناوين أصدرها مشروع مكتبة الأسرة، برعاية سوزان مبارك وتمويل وزارات ودور نشر استردت عطاياها أضعافًا. جمع رؤساء تحرير الصحف الحكومية هراء من مقالات كتبوها أو كُتبت لهم، ونشرها سمير سرحان، ومنحها جائزة أفضل كتاب في المعرض، ونظم ندوات لمناقشتها، واتسعت صفحات الصحف للمناقشات وللمعرض. من يذكر هؤلاء كمؤلفين: إبراهيم نافع، سمير رجب، إبراهيم سعدة، جلال دويدار، مرسي عطا الله.
الرأسمالي يخشى الخسارة المادية والسمعة. والموظف يضمن راتبه
النشر صناعة احترافية، والناشر ليس مطبعجيًا. هو رأسمالي يريد استرداد أمواله بتجويد منتجاته. والمحرر مسؤول عن الكتاب في صيغته النهائية. يدقق معلومات، ويزيل التباسات وتناقضات قد تفوت المؤلف، ويقترح حذف فصل، أو وإضافة آخر. والمؤلف يعلم أن نهاية المناهدة لصالح تجويد الكتاب؛ فيستجيب. تجربتي في إصدارات مجلة الهلال دليل على حُسن الاستجابات.
وأنظر إلى" كتب" تصدرها مؤسسات حكومية فأجد استسهالًا من ضحاياه دار المعارف. مؤسسة عظيمة جعلها أنيس منصور، مدعومًا من أنور السادات، ممولة لمجلة بائسة اسمها "أكتوبر". أكتفي بدليل من إصداراتها، "تأليف" عبده مباشر، وعنوانه "أنا وعبد الناصر والسادات.. سطور من السيرة الذاتية".
يذكر المؤلف أن صحيفة "الأخبار" أوفدته إلى الحجاز، بعد توقيع عبد الناصر والملك فيصل اتفاقية جدة في أغسطس/ آب 1965، لإنهاء الصراع العسكري في اليمن. وفي جدة قابله الأمير عبد الله الفيصل الابن الأكبر للملك، وكمال أدهم شقيق زوجة الملك ومدير المخابرات السعودية. وقال له عبد الله الفيصل إنه مستعد لصرف آخر هللة من ماله، حتى يركع عبد الناصر. رد عليه مباشر "عبد الناصر لن يركع". وفاز بمقابلة الملك الذي تكلم للمرة الأولى منذ توقيع اتفاقيته مع عبد الناصر، وأشاد بالرئيس. وفي القاهرة رأى رئيس تحرير "الأخبار" مصطفى أمين "بخبرته وفطنته وحصافته وذكائه أنها (التصريحات) تدعم صورة الملك فيصل لدى المصريين والعرب".
ويقول إن الحوار أعجب مصطفى أمين، فأرسله "كما كتبته" إلى الرئيس. ثم دعاه إلى سرعة التوجه إلى الرئاسة. عبد الناصر صافحه، واستمع إلى القصة، وطلب إعادتها مرتين. وفي المرات الثلاث أنصت "بتركيز شديد... خمنت أنه يبحث عن ثغرة أو تناقض أو تعارض فيما أرويه".
يكتب "المؤلف" أن عبد الناصر سأله هل يحزن كثيرًا إذا لم ينشر الحوار؟ وأمر بعودته بإحدى سيارات الرئاسة إلى الأخبار، فأبلغ مصطفى أمين أن الرئيس احتفظ بالشريط. وفي الأيام التالية، قاوم ضغوط الكثيرين لمعرفة ما دار مع الرئيس، واكتفى بإبداء الحزن "لأنه رفض النشر... أما مصطفى أمين فلم يسألني قط". والجملة الأخيرة هي الأكثر صدقا في كلام "المؤلف"؛ لأن حكايته تجري في ديسمبر/ كانون الثاني 1965، وكان مصطفى أمين مقبوضًا عليه، منذ 21 يوليو، متلبسًا بالتجسس مع بروس تايلور أوديل الضابط بوكالة المخابرات المركزية الأمريكية. فكيف واصل المسجون بتهمة التخابر عمله، ورتب لقاءه بالرئيس؟ وجود المحرر في دار النشر ضروري لفرملة الأخيلة.
الموظف لا يخشى شيئًا
الناشر الخاص لا يسمح بهذه الأخطاء، ويعالجها فورًا إذا وقعت. أصدرت دار الشروق رواية "نقطة النور"، وبعد قراءتها اتصلت ببهاء طاهر مهنئًا، فسألني عن مشهد النهاية. ذكرته له، فنبهني إلى نقصانها عن مشهد أخير سقط. واستبدلتُ بالنسخة المعيبة طبعة سليمة.
الرأسمالي يخشى الخسارة المادية والسمعة. والموظف يضمن راتبه. في مايو/ أيار 2015 نشرتُ في "العرب" اللندنية مقالًا عنوانه "اختصار مسرحية لصلاح عبد الصبور في هيئة كان رئيسها". لم أجد مشهد النهاية في طبعة جديدة لمسرحية "الأميرة تنتظر"، فراجعت طبعة قديمة أصدرتها هيئة الكتاب عام 1988، وفوجئت باختفاء المشهد وتذييل سجل فيه عبد الصبور أن المخرج نبيل الألفي رأى النهاية "ليست حاسمة".
النشر الحكومي محكوم بأداء بيروقراطي يفرم الإرادة، ويعطل كتبًا مهمة
المخرج أقنع الشاعر بضرورة "أن يكون إسدال الستار في مسرحنا حادًا بعض الشيء"؛ فأضاف المشهد الأخير، غير الموجود في الطبعة الجديدة. نشرتُ رابط المقال في صفحتي على الفيسبوك، فاستحسنه رئيس هيئة الكتاب، ووضع "لايك". وبعد سنوات، في دردشة مع الناقد هيثم الحاج علي رئيس الهيئة السابق، ذكرتُ الحكاية؛ فسارع إلى معالجة الخطأ. وأعطيت الشاعر أسامة جاد صورة للمشهد والتذييل، لإضافتهما إلى طبعة صحيحة لم تنشر إلى الآن. النشر الخاص تحكمه ذهنية رأسمالي يضحي بخسارة قريبة رهانًا على المصداقية. والنشر الحكومي محكوم بأداء بيروقراطي يفرم الإرادة، ويعطل كتبا مهمة.
إبراهيم العريس سلم، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2020، مسؤول الهيئة العامة للكتاب دراسة عن السينما والمجتمع في العالم العربي. كان ضيفًا على مهرجان القاهرة السينمائي، وتوقع صدور الكتاب خلال سنة. وفي ديسمبر/كانون الثاني 2021 وقّع عقد النشر، ووعدوه بقرب الصدور. وفي مارس/آذار 2022 طلب تعديل كلمة الغلاف الخلفي، لأنهم اختاروا كلمة غير دالة تمامًا على مضمون الكتاب، فأفاد مسؤولو النشر بأن هذا غير ممكن؛ لأن الكتاب في المطبعة. وبعد أحد عشر شهرا لا يزال الكتاب في المطبعة. لا أنشرُ في الهيئة، وخبرتي مع نشر كتبي في القاهرة وبيروت أن إعداد الكتاب يستغرق شهرًا.
في وقت تعطّل كتاب إبراهيم العريس وغيره، يتصادف أن يقع في يدي مما أصدرته هيئة الكتاب لوزير الأوقاف محمد مختار جمعة أربعة كتب: "مفاهيم يجب أن تصحح في مواجهة التطرف"، "فن المقدمات والخواتيم"، "ضلالات الإرهابيين وتفنيدها"، "الجذور التراثية للنقد الأدبي". غلاف الكتاب الأول يحمل اسم الوزير وحده لا شريك له "إشراف وتقديم ومشاركة"، وفي داخل الكتاب المنبري الإنشائي اسما مشاركَيْن في الإعداد، يسبقهما "أ. د". ويضم الكتاب الثاني مقدمات وخواتيم كتب للوزير، كمقدمة رسالته للدكتوراة والخاتمة، ومقدمات وخلاصات كتب مؤلفين ومؤسسات. منها "مخاطر الإلحاد وسبل المواجهة"، وخلاصة تعريفية بكتاب "مفاهيم يجب أن تصحح في مواجهة التطرف" الذي يحمل اسم الوزير.
هذه الاستحقاقات تجعل استقالة الدولة من صناعة النشر ضرورة؛ لإعادة الهيبة إلى مفهوم "الكتاب".