وسط التحديات التي تواجه صناعة النشر في مصر، بين غياب أدواتها اللوجيستية، وتنامي أسعار مدخلاتها بسبب ارتفاع الدولار أمام الجنيه، بالإضافة إلى ما يتطلبه إصدار كتاب جديد من إجراءات مبتكرة لحماية الملكية الفكرية في مقابل تطور أساليب القرصنة الورقية والإلكترونية، أصبح التفكير في إطلاق دار نشر جديدة نوعًا من المغامرة.
في ظل هذه الأجواء، انطلقت حديثًا دار نشر جديدة باسم "وزيز"، وبطموح يعده مؤسسوها "غير تقليدي"، وبأهداف "كبيرة" لتغيير ما يرونه "قوالب نمطية في الكتابة والنشر".
البعد عن التنميط، يبدأ من الاسم الذي اختاره المؤسسون لدارهم الجديدة، واستغرق منهم جلسات عصف ذهني نحَّت كل ما هو تقليدي، حتى ظهرت تلك المفردة "التي يعرفها بعضنا من حكايات العائلة كاسم لقناة مياه في القليوبية" بحسب الكاتب عمرو عزت مدير الدار، الذي يقول للمنصة "في البداية بدا (الاسم) مختلفًا وغريبًا بعض الشيء، بحثنا عن أصله وتنويعات معانيه، حتى وجدناه خيارًا مغامرًا وجريئًا وجذابًا وربما مستفزًا".
ويضيف "عند الانطلاق فكرنا أن نجعل من غرابة الاسم نفسه فكرة لتقديم أنفسنا بشكل مرح ومختلف وفي الوقت ذاته ملهم لمعان ثرية، وأعتقد أن الفكرة نجحت إلى حد كبير، بشكل أكثر من توقعاتنا. وأعتقد أن ذلك يعكس رؤيتنا أيضًا، أن العمل على أكثر الأفكار غرابة أو أقلها ألفة للجمهور ليس بالضرورة مصيره العزلة والاستقبال الضيق، ولكن مع التطوير الإبداعي في كل المراحل، من التخطيط والتطوير إلى التحرير والإنتاج ثم التواصل مع الجمهور عبر السوشيال ميديا بشكل مختلف، يمكن تحويل هذه الأفكار إلى مشروعات قريبة وأليفة وملهمة، تلك فكرتنا عن التجريب وعن نشر الكتب عمومًا، وتعاملنا مع اسم وزيز كان نموذجًا عمليًا لذلك".
الغرابة.. وعبور "النوع"
الاعتماد على الغرابة في الترويج حل تسويقي ناجح، وإن كان غير مبتكر في الوقت نفسه، بيد أنه لا يكفي وحده لتلبية طموح الخروج عن النمط، لكن الدار تملك حسب عزت "خطة تعتمد على المزج بين أساليب النشر المؤسسي من حيث الاستمرارية وكثافة الإنتاج ومبادرات النشر التجريبي والفني التي تتسم بالحيوية والإبداع"، مؤكدًا "تشجع وزيز التجريب في شكل ومضمون القوالب الأدبية السائدة وفي تجارب التصميم والإخراج الفني وكذلك أساليب التوزيع والدعاية".
أصدرت وزيز مع انطلاقها ثلاثة كتب، هي "مختارات الصدفة" لوائل عشري، و"عمَّ نتحدث حين نتحدث عن الصداقة" لبلال علاء، و"العودة إلى آخر الحارة" لعبد الرحمن مصطفى. وتلك الأعمال الثلاثة التي خرجت بأغلفة ذات طابع بصري لافت، جاءت كلها من دون تصنيف يشير إلى مجالها الأدبي أو البحثي، وتبدو من عناوينها وخلفيات مؤلفيها كمدونين بارزين، أنها تندرج تحت تصنيف التدوينات الذاتية، كتدشين لما تشجع عليه الدار من "كتابة السير والتجارب الذاتية والتفاعل مع نصوص التدوين الحر، بشكل يجمع الذاتي مع الهموم العامة والقضايا الاجتماعية".
ذلك الأسلوب في الكتابة يطرح تساؤلات، مثل: ما الفارق بين ما تسعى الدار لتقديمه وبين الكتابات التي انتشرت بعد ذيوع المدونات في السنوات العشر الأولى من الألفية الجديدة، وانتقال مؤلفيها للنشر الورقي وظهور نماذج كتابات كثيرة سرعان ما فقدت تأثيرها، وأيضًا إن كان التدوين نفسه قالب ذو خصائص فنية تميزه عن الكتابات السردية الأخرى مثل الرواية والقصة؟
يجيب عزت بأن "إعادة نشر التدوينات هي الفكرة التقليدية، ولكن في كتاب العودة إلى آخر الحارة لعبد الرحمن مصطفى مثلًا، وإن كان يعتمد على مقتطفات من تدويناته فإنه يقدم في الوقت نفسه سردًا لسياقاتها، وكذلك كتابة جديدة من منظور الكاتب الأربعيني الذي يحاور شخصيته في العشرين والثلاثين، ويعلق على ما كتبه كمدون، يربط التدوينات بسياقها الأوسع، الشخصي والاجتماعي والسياسي"، مضيفًا "أعتقد هذا هو الجديد والمثير للاهتمام في ذلك الكتاب، وهو ما يضيف خصائص فنية مختلفة مرتبطة بتأمل نصوص مختلفة للكاتب نفسه في مراحل مختلفة".
عودة إلى الترويج، فإن تصنيف الكتاب يؤدي دورًا تسويقيًا مهمًا، وفي حالة وزيز صدرت الكتب الثلاثة ليس من دون تصنيف Genre متعارف عليه: رواية/ شعر/ دراسة.. إلخ، وإنما دون تصنيف من الأساس على غلافها الأمامي، فكيف ستسعى لترويج تلك الأعمال؟
يقول عزت "اخترنا ما نبرزش النوع الأدبي على الغلاف لتقليل التركيز على التصنيف لصالح المحتوى، لكن داخل الكتب وفي ظهر الغلاف، كتاب وائل عشري مكتوب إنه قصص وكتاب بلال علاء رواية، الاتنين مش في إطار السيرة والتدوين الذاتي، دا ينطبق فقط على كتاب عبد الرحمن مصطفى".
ولا يعتبر مدير الدار ذلك صعبًا بالنسبة إلى كتاب عبد الرحمن مصطفى "هذا النوع من الكتب ليس غريبًا وليس محدودًا بجمهور ضيق إن كان محتواه مثيرًا للاهتمام"، مؤكدًا "الكتب العابرة للتصنيف حققت تقدمًا كبيرًا في الفترة الأخيرة، مثلًا كتاب كيف تلتئم لإيمان مرسال يمزج السرد بالشعر بالنقد الأدبي والفني، ونال استحسانًا من القراء".
ويضيف "نسعى لأن نطور أفكار كتب عابرة للتصنيف إن كان ذلك يثري موضوع الكتاب، والكاتب متحمس لتجربة ذلك، ونتبع أسلوب التخطيط واقتراح موضوعات مهمة وأساليب مختلفة على كتاب بعينهم والنقاش معهم وتطوير المقترح والعمل عليه في كل مراحله، ويكون الرهان حينها أن أسلوب تقديم الكتب يمكنه أن يثير اهتمام القراء حتى لو كانت المحاولة الأولى للكاتب".
ليس ثمة حقيقة نهائية
رغم ذلك، ليس كل ما تسعى إليه وزيز هو إحراز خطوات من أجل " كتابة جديدة"، وإنما تملك طموحًا أكبر لنشر أعمال تعكس ما يصفه عزت بـ"ابتكار تناول جديد ومختلف لنصوص التراث العربي والعالمي والتفاعل معها، على مستوى مضمونها وأفكارها، وكذلك طرق إخراجها، والاستفادة من جماليات المطبوعات التاريخية والكلاسيكية بشكل معاصر"، بالإضافة إلى "تشجيع الأكاديميين والباحثين لتقديم مشروعات كتب غير أكاديمية تنطلق من أفكارهم وأبحاثهم وتصل بها إلى قالب إبداعي، وكذلك أصحاب التجارب من مختلف الخلفيات ممن لا يمارسون الكتابة الإبداعية، ودعوتهم للتعاون مع فريق وزيز من أجل إنتاج كتب تسجل خبراتهم في قالب أدبي جذاب وثري".
وعن ماهية تلك الإصدارات يقول عزت "كل مشروع سيتخذ شكلًا ملائمًا، سردي أو حواري بين كاتبين أو أكثر، أو قالب فني برسوم مثلًا. التجريب هنا يعني أن الأشكال النهائية غير محددة تمامًا، هي في النهاية محصلة تفاعل بين الكاتب ووزيز".
وبحسب ما تنفذه الدار حاليًا فإن طبيعة الموضوعات ستكون حول أفكار مثل الإيمان والتجربة الروحية والدينية، يوضح عزت "بدأنا بالفعل في مشروع كتاب مشترك بين مينا ناجي، الكاتب والمهتم بالفلسفة، وأمل هارون، الشاعرة والباحثة في الأنثرولوجيا، يناقشا فيه كيف نفهم ونعيش الحياة عند سيمون فاي، الفيلسوفة الفرنسية"، مضيفًا "هناك العديد من الكتابات الأكاديمية عنها وعن أفكارها، ولكن التحدي هو كيفية تقديم ذلك لجمهور غير متخصص، بشكل متقن وجذاب ومثير للاهتمام".
بين وزوز وأوزى
ربما تحتاج وزيز وفق ما تقدم من حديث مديرها، ومثلها كل طموح تجريبي، بيئة قادرة على استيعابه وهضمه والاشتباك معه، وفي ظل الظرف الاقتصادي الراهن، صار البعض يرى الكتابة والقراءة على السواء فعلي رفاه، ومعهما صار النشر كما أسلفنا في المقدمة مغامرة غير مضمونة، وهو ما لا ينفيه عمرو عزت الذي يؤكد أن التخطيط لداره ماليًا "كان مليئًا بالتحديات الصعبة بسبب الوضع الاقتصادي، ولكن كان الرهان هو أن نتمكن من البدء بشكل فارق يلقى حفاوة، وإلا فإن الحضور الباهت لن يصمد، خاصة أننا قررنا أن نبذل أقصى ما في وسعنا لتحسين الشروط المادية بين أطراف عملية النشر، ولا نريد أن نتنازل عن ذلك بسبب الظروف الاقتصادية، لذا سنبذل أقصى ما في وسعنا، وسنستمر في التجريب والمغامرة، وسنراهن على استقبال القراء الذي سيدعم التجربة ويمكنها من الاستمرار بنفس المعايير".
تملك الدار الوليدة، التي تشارك إصداراتها في معرض القاهرة الدولي للكتاب ضمن جناح ديوان للنشر، خطة "لنشر 10 كتب كل سنة، تجمع بين القوالب الأدبية المختلفة وسلاسل تجريبية سنعلن عنها لاحقًا".
ويوضح عزت أن تلك السلاسل "ستحمل تيمة تربط بين مجموعة من الكتب، وفي الوقت نفسه سيكون أسلوبها ومحتواها مفتوحَيَن على التجريب والاختبار والتنويع، مثلًا نخطط لدعوة كتاب لعمل مراجعات لمدوناتهم بعد مرور وقت، مثلما فعل عبد الرحمن مصطفى في العودة إلى آخر الحارة، ولكن الأسلوب والمنظور والشكل الفني يختلفون باختلاف كل كتاب ونتيجة كل تفاعل".
ومن الكتاب الذين تستهدف وزيز نشر أعمالهم خلال الفترة المقبلة مصطفى إبراهيم وأحمد جمال سعد الدين وعمرو عادلي وراوية صادق وجنة عادل ومحمود عزت ونوال العلي ومينا ناجي وأمل هارون وهيثم الشاطر، بالإضافة إلى "كتاب ينشرون لأول مرة متحمسون جدًا لكتابتهم مثل منة عبد المنعم وإسراء شعلان وسارة شاهين، وإسماعيل فودة، وآخرين وأخريات، بالإضافة لخطط ترجمات قليلة ولكن منتقاه بعناية".
في حملتها الترويجية دعت الدار قرائها لاستكناه معنى اسمها غير المألوف، وأوردت على صفحتها في فيسبوك تعريفات متعددة له، من بينها ما اشتق من الفعل "وزوز"، ويعني "خَفَّ وَوَثَبَ سَرِيعًا". ورغم ما قد يحمله ذلك المعنى من مضمون إيجابي وسلبي في الوقت نفسه، فإن ما تملكه من "آمال" يغلب الإيجابي منها على السلبي، ويصلح معه أيضًا، إن استطاعت إدراكها في ظل ما تواجهه صناعة النشر ومستقبل المنتج الإبداعي من تحديات، أن نضيف إليه معنىً ربما فات على مؤسسيها، وهو "أوزى"، أي "لجأ" و"أسند".