في يناير/كانون الثاني الماضي، كان الباحث أحمد عبد الحليم يحتفل بغلاف كتابه الجديد، الذي سيصدر عن دار نشر "هن" مع الأيام الأولى من انطلاق الدورة الفائتة من معرض القاهرة الدولي للكتاب، قبل أن يفاجئ، مثل عديدون ممن مُنعت كتبهم من النشر أو صودرت بعده، بامتناع الهيئة العامة للكتاب، الناشر الرئيسي في مصر، عن منحه رقم إيداع، لأسباب قالت إنها أمنية.
لذلك، انتظر أحمد نحو 6 أشهر كاملة حتى يرى عمله الأحدث تمثلات المجتمع المصري في الذات والجسد والهوية منشورًا عن طريق دار رياض الريس في لبنان، في مفارقة عادت به إلى زمن الستينيات، حيث كان يلجأ الأدباء والباحثون إلى بيروت للهروب من قبضة الرقيب.
تمثلات المجتمع المصري هو ثالث كتاب يصدر لعبد الحليم، بعد مجموعة قصصية صدرت في القاهرة عن دار فاصلة تحت اسم الحارة العربية، كما نشر في العام الماضي دراسة "من يمتلك حق الجسد؟ قراءة في الحياة السجنية"، عن مؤسسة أمم للتوثيق والأبحاث، بيروت 2022. وفي العام الذي يسبقه نوفيلا عنوانها "أجساد راقصة" عن المؤسسة ذاتها، بيروت 2021.
وتسرد الأخيرة حياة المُعتقل السياسي في السجون المصرية، وهي تجربة خيالية ولكن تعتمد رغم ذلك على التجربة التي خاضها الكاتب نفسه مسجونًا بين عامي 2014 و2017.
من السجن نبدأ
السجن، كما يظهر، هو أكثر ما يلهم عبد الحليم، الذي يؤكد في حواره لـ المنصة أنه ما دفعه للكتابة، فبدأ بالتدوين الحر في عدد من المنصات الصحافية، ثم انتقل إلى حقل البحث الاجتماعي/السياسي ودراسات الجسد، الذي يشكل همه الأكبر حاليًا.
يقول إن الإنسان في الحبس يُعامل كـ "إيراد" جديد عند استقباله في البداية، ثم يتخذ رقمًا بدلًا من اسمه فيصبح "نفرًا" وليس شخصًا، وبفقدانه الذات الفردية يصبح جسده "كتلة من اللحم" تحركها السلطة من هنا إلى هناك كيفما تشاء.
وبرغم فظاعة تلك التجربة، فإن ما تتيحه من فرصة للتعرف على الذات وتأملها بتجرد تساهم في خلق الكاتب وموضوعه، فقبل السجن كان عبد الحليم يشارك في حراك سياسي معارض للنظام، تعاطفًا مع الضحايا الذين سقطوا في أحداث رابعة العدوية.
ورغم أنه لم يكن يومًا إسلاميًا أو مسيسًا بصفة عامة، فإنه ضل طريقه إلى السجن محسوبًا على النشطاء من الإسلاميين، ليشتبك مع السلطوية في أكثر هياكلها تنظيمًا وتحكمًا وضبطًا للفرد والجسد. وبانتهاء فترة سجنه خرج كاتبًا متأملًا متألمًا وحادًا مع السلطوية في تفكيك تجربته.
يقول لـ المنصة "كنت محاطًا بمعتقلين كُثر من الإخوان المسلمين، ومللت التسامر والتريض معهم بسبب انغلاقهم حتى في أصغر الأمور، فعزفت عنهم إلى قراءة ما توفر في السجن من أدب نجيب محفوظ ويوسف إدريس ورسائل علي عزت بيجوفتش. وشعرت بغيرة حرضتني على تسجيل ما أرى ووجهة نظري فيه، بالإضافة للاطلاع على الصحف التي جعلتني أهتم أكثر بالسياسة. ومن خلال الأقلام والكراريس المتوفرة سجلت يومياتي وتدوينات سياسية أعتز بها رغم سذاجتها. فتلك كانت مرآتي لرؤية الكاتب الرابض بداخلي".
كمائن النشر
لم يتوقع عبد الحليم منع كتابه الجديد في مصر "كتابي لا يشتبك بشكل مباشر وحاد مع السلطة كما في كتبي السابقة. وأغلب الظن، وكما أعلم من تجارب الزملاء الآخرين من المُعتقلين السابقين عند محاولة النشر في مصر، أن كتابي مُنع بشكل روتيني وبيروقراطي بحت".
ويضيف "إن أحدًا لم يقرأه ويراجعه، الكشف الأمني على هوية الكاتب يتم بالحصول على صورة من بطاقته الشخصية وكأنه كمين مروري، يُكشف تاريخه كمعتقل سياسي، فيميل الموظف إلى التخلص من وجع الدماغ برفض إعطاء الكتاب رقم إيداع، فيُمنع الكتاب من النشر".
يضطر المؤلف ودار النشر لتقديم مستندات كثيرة لدار الكتب للحصول على رقم إيداع، الذي من دونه يتحول المنشور من شرعي إلى غير ذلك، أيًا كان موضوعه أو نوعه. ومن تلك المستندات مثلًا إقرار الناشر بتحمل المسؤولية الجنائية المترتبة على النشر، بالإضافة إلى صورة لبطاقة الرقم القومي للمؤلف، وهو ما يرى حليم أنها كانت السبب وراء الامتناع عن منحه ذلك الرقم المهم.
أصوات الهامش
جاء كتاب تمثلات المجتمع المصري في خمسة فصول: تمثلات الإنسان/ النيوليبرالية/ الاستهلاك/ الجسد/ الثقافة. وتعكس قراءة الكاتب لتلك المفاهيم وفق الظواهر المجتمعية السائدة في الأعوام من 2011 حتى 2022، ويعود التركيز على تلك الأعوام كمحل للدراسة "في نظري، تحفل تلك السنوات بالعديد من التطورات الثورية التي طالت فضاءات عديدة من السياسة والمجتمع والثقافة والعمران والتكنولوجيا".
ويضيف "لقد أحدث العقد الأخير تحولًا من تغيرات جوهرية في أعماق النفس، و خارجية على تشكلات الجسد واللسان على مستوى الممارسات الفردية والجماعية والمؤسسية".
يُقر عبد الحليم أن للسلطة السياسية في مصر دور مركزي وفعال في ما حدث وما سيحدث، نظرًا لامتلاكها الأدوات التي تساعد في تنميط وتعميم أي سرديات تختارها وطمس ما لا تريد، عن طريق القوة القانونية أو القهرية، فيما يتوافق مع مشروعها المنهجي الديني والسياسي والثقافي الذي تسعى لتحقيقه.
إلا أن تركيزه الأكبر ينصب على ما أسماه "الأدوات الناعمة" المُتمثلة في فضاءات التقنية والثقافة الاستهلاكية النيوليبرالية المُعولمة السائدة، حيث تلعب تلك الأدوات دورًا كسلطة غير مرئية تتفاعل وتؤثر وتشكل حيوات وطبائع وثقافات وممارسات الكثيرين في العصر الذي نعيش.
يقول لـ المنصة "خذ مثالًا ما يعرف باسم المهرجانات الشعبية، لقد كانت أغاني المهرجانات منبوذة ومحددة بفئات اجتماعية مهمشة، لكنها ظلت تصعد تدريجيًا حتى احتلت مكانًا في كل فيلم ومسلسل وحفل زفاف، على مستوى العالم العربي وليس مصر فقط، رغم كل الهجوم على كلماتها وكليباتها ومؤديها بحد ذاتهم كأشخاص".
ووفقًا لرؤيته فقد صنع المُهمشون في الأرياف والمناطق النائية إعلامهم البديل مستغلين كاميرا الموبايلات ويوتيوب وتيك توك، وأغرقوا تلك المنصات بسلاسل من الأفلام والمسلسلات ذاتية الصنع، وبرامج اليوميات المنزلية التي تضم كل شيء. وتبدلت الكثير من المفاهيم عن العلاقات الإنسانية كالحب والصداقة والبطولة، وأصبح موضوع الهوية حاضرًا بثقله كنزاع بين أطياف عدة في المجتمع، أشبه بفتيل على وشك الانفجار.
فضلًا عن العديد من الظواهر الأخرى التي ينصرف عبد الحليم إليها في دراسته، ليس بالرصد فقط وإنما بتحليل كنهها والكشف عن روافدها ومحاولة التنبوء بمآلاتها، في بحث مؤطر بشكل نظري متأثر بنقد فلاسفة ما بعد الحداثة من أمثال فوكو وباومان وبورديو ودولوز.
ينصب جزء كبير من تركيز عبد الحليم في كتابه عن المجتمع المصري على المُهمشين بوصفهم القطاع الأكبر من المجتمع، ويرجع سبب ذلك كما يحكي لـ المنصة " في صباي كنت إلى جانب دراستي أعمل في صناعة الموبيليا في أحد الورش بدمياط، واحتككت في ذلك المناخ بصنوف من الأشخاص والحيوات التي حين تأملتها في كبري أحسست بالمسؤولية تجاه الكتابة عنها، لا السخرية منها وتنميطها والانصياع إلى أوصاف مثل "سرسجية" و"سكان عشوائيات".
وذلك الشعور بالمسئولية تجاه تلك الفئة من المجتمع هو ما يمثل بالنسبة لعبد الحليم "مجد الكتابة" كما أسماه "أرى أن مجد الكتابة يتحقق سواء كان كتابة أدبية أو بحثية من خلال أن يعبر عن الذات، ولو من خلال عمل واحد فقط. وذلك العمل الذي ينطلق من الذات عندي هو ذاتيًا بقدر ما يعبر عن شريحة من الناس، فذلك التلاقي بين الذاتية والآخر هو ما أسعى إليه في كتاباتي، من خلال فهم تلك الظواهر التي يستخدمها المُهمشون لإثبات ذواتهم وحاجتهم للاعتراف".
مصر من الخارج
رغم أن الكتاب ينصب على دراسة الحالة المصرية، فإن ذلك لا ينفي توافق بعض التحليلات الواردة فيه مع مجتمعات أخرى في المنطقة العربية، حيث أن الظواهر محل بحثه متأثرة بعوامل خارجية لا تخص مجتمع بعينه ولكنها عالمية، ما يجعل الذات والجسد الإنسانيين مهما اختلف لونهما وجغرافيتهما يتقاطعان ويتشابهان أحيانًا مع غيرها من حالات.
في عام 2021 غادر أحمد عبد الحليم مصر، ربما إلى غير رجعة، بسبب موقفه السياسي. ولكن اختيار الحالة المصرية للدراسة ليست حكرًا على كتابه حديث الصدور، وإنما تمتد إلى رواية طويلة يعمل عليها حاليًا عن أحد "التابعين" في مصر كما يقول. والتابع هو مفهوم عند أنطونيو جرامشي للمواطن الذي لا ينتمي إلى فئات حزبية أو فكرية أو سياسية.
كذلك فإنه يستكمل بحثه الاجتماعي من خلال العمل على فكرة كتاب أسماه بشكل مبدئي "الجسَد وتمثيله: من السياسة إلى الاستهلاك" يطرح فيه نقاشًا عن علاقة الجسد والسلطة السياسية خارج السجن، مُتّخذًا بداية حكم محمد علي لمصر (1805) سياقًا تاريخيًا وفلسفيًا، ومركّزًا على سلطة ما بعد الثالث من يوليو 2013. كما يبحث في انتقال الجسد وتمثيله من السياسي إلى الاستهلاكي.
يقول أحمد عبد الحليم الذي يعيش حاليًا في بيروت، في ختام حواره لــ المنصة إن "الاستمرار بالكتابة عن المجتمع المصري بينما أنت بعيدًا عنه لا يتماثل مع الكتابة عنه أثناء عيشك فيه، ولكن هناك شق آخر عندي يضمن لي الاستمرارية في الكتابة عنه وفهم ظواهره، وهو وجود المجتمع في الفضاء المرئي من خلال السوشيال ميديا واليوميات المُصورة المعروضة، والمكالمات المستمرة مع الأهل والأصدقاء داخل الوطن، فكل ذلك يحافظ على قربك واحتكاكك بالمجتمع وممارسات السلطة فيه أيضًا".