منشور
الأحد 12 فبراير 2023
- آخر تحديث
الثلاثاء 12 سبتمبر 2023
عند النظر إلى تجربة الروائي الفرانكفوني واسيني الأعرج، فإن فعل الكتابة عنده أداة نفاذ إلى الآخر، لا وسيلة تواصل معه، فالأخيرة تفترض سبيلًا واضحًا بين الاثنين، بينما كان على الأديب الجزائري الذي يكتب باللغتين العربية والفرنسية، منذ بدايته، أن يخترق حاجزًا للعبور إلى متلقيه المفترض.
فالكاتب الذي بدأ النشر الإبداعي باللغة العربية مع رواية البوابة الزرقاء عام 1980، اضطر في تسعينيات القرن نفسه للكتابة بالفرنسية بغرض "الإفلات" من الإرهاب الذي خيّم على وطنه لأكثر من 10 سنين، عرفت بالعشرية السوداء في تاريخ الجزائر، وهو الإفلات نفسه الذي سعى إليه عبر روايته الأحدث ليليات رمادة، ولكن هذه المرة من خطر آخر هو فيروس كورونا.
هاذان القوسان لفعل الكتابة، اللذان يمكن عبرهما النظر إلى إنتاج أستاذ الكرسي في جامعة السوربون، البالغ نحو ثلاثين كتابًا، كانا السؤال الرئيس الذي دار حوله حوار المنصة معه خلال زيارته القصيرة للقاهرة للمشاركة في فعاليات الدورة المنتهية من معرض القاهرة الدولي للكتاب.
بين قوسي الأزمة
عندما كانت الجزائر واقعة تحت الاحتلال الفرنسي، لجأ الكتاب الوطنيون إلى اللغة الفرنسية كوسيلة لمقاومة المستعمر وتعريف المجتمع الدولي بفظائعه. لكن واسيني، المولود في 1954، والمنتمي إلى الجيل الثاني من الكتاب الجزائرين الذين مارسوا الأدب بالعربية، وجد في اللغة التي درسها جبرًا في المدرسة حلًا للنفاذ إلى القارئ بعيدًا عن قبضة الإرهاب.
يقول للمنصة "المسألة ليست اختيار ما يُكتب بالعربية أو بالفرنسية، وإنما ظرفيات تُحتّم علينا الكتابة بهذه اللغة أو تلك. فمع سيطرة التيار الإسلامي فترة التسعينيات على المجتمع الجزائري، وما صاحبه من إرهاب وخوف، انغلقت سُبل الكتابة والنشر العربي. وصارت الفرنسية وسيلة الكتابة للإفلات من قبضة الإرهاب، ولتوصيل القضية الجزائرية عالميًا".
الكاتب الذي اندلعت ثورة التحرير في عام مولده، وانتهت باستقلال الجزائر وهو ما يزال بعد في الثامنة من عمره، لم يكن وهو على مشارف الكهولة مؤهلًا للقتال في حرب أهلية فرضها الفصيل الإسلامي المتشدد على بلاده. فلم يجد أمامه غير التخفي في وطنه أو المنفى الاختياري في باريس "كل أسلحتي هي الكلمة، ومن ثم كان الخيار الثاني الذي حدث بالمصادفة. تلقيت دعوة للتدريس في المعهد العالمي للأستانة، وسافرت وفي مخيلتي البقاء هناك ثلاثة أشهر فقط".
لكن المدة امتدت، ومن التدريس في الأستانة إلى معهد السربون، ليجد صاحب ذاكرة الماء، المؤقت وقد صار دائمًا "وهذه لحظة على قسوتها، عبرت من خلالها نحو مكان آخر، ولهذا لم يكن المنفى كله سلبيًا، بالعكس هناك التقيت بشخصيات عظيمة من مثقفين وكُتاب. وبدأ المنفى يستكين ويتحول إلى حالة ثقافية، ففكرت في الترجمة، وكتبت بعض النصوص بالفرنسية، وهذا كان أهم شيء بالنسبة لي".
زمن آخر سائل تمدد وعايشه واسيني وأفرز لديه كتابة جديدة، ولكن هذه المرة في باريس حيث الحجر الصحي الذي فرضته جائحة كورونا. في ذلك الوقت قرر صاحب الليلة السابعة بعد الألف، كتابة يومياته لكنه فشل "لم أنتج شيئًا، فالوضع في ظل الحجر المنزلي ممل".
فبدأ في روايته ليليات رمادة، التي اتخذت عملية صياغتها شكلًا تفاعليًا جديدًا بينه وبين القارئ، الذي كان يطلعه واسيني على كل ما استجد فيها أسبوعيًا على فيسبوك "أشركت معي القراء بنشر فصلين كل أسبوع على صفحتي بفيسبوك، للمناقشة معهم. وفوجئت بالكم الهائل من التفاعل لدرجة أحسست بضرورة التفرغ للرد على تعليقات الناس فقط. وهكذا صارت الرواية وسيلة لتخطي الزمن، ولم أعد أفكر في الموت رغم أنه كان عند الأبواب، ولهذا سعيد بتلك التجربة، ولو وجدت وقت سأكتب عنها يومًا".
كتابة القسوة
التفكير في الموت سمة أخرى تميز أدب واسيني الذي يفتتح روايته طوق الياسمين، التي تتعرض لأجزاء من سيرته الذاتية، بقوله "نكتب لأننا في حاجة للنسيان أو لمزيد من الألم". وكلا المفردتين، النسيان والألم، يتعلقان بالفناء، أو الشعور بثقل ذنب ما، لا ينفيه واسيني في حواره للمنصة.
هو ذنب الاغتراب عن الوطن في لحظة مفصلية لكليهما "أقول لنفسي إن الإحساس بالذنب يجب أن يزول، وأن يؤخذ ما قمت به من ناحية التبصر والرؤية، ففي الجزائر قضيت مدة مطارد من الإسلاميين، واصطدمت مع النظام. وهذه اللحظات على قسوتها، لكنها التي صنعت مني كاتبًا بالصورة التي عليها اليوم، وإلا لن تكون كاتبًا إذا وافقت أن تمشي وفق الخط المرضي عليه".
ولعل ذلك الذنب/الألم/الأزمة ما يدفع صاحب نوار اللوز، لاختيار مادته للكتابة من موضوعات إنسانية "شديدة القسوة، ومخيفة أيضًا تدفع بنا إلى الهرب وإلى الابتعاد، مثلًا رواية "ليالي إيزيس كوبيا" عن الأديبة العربية مي زيادة، وهي امرأة مظلومة ظلم غير عادي، كانت كتابتها أكثر قسوة".
بين مصر ومي
في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، أعلن واسيني تحويل تلك الرواية؛ "مي ليالي إيزيس كوبيا.. ثلاثمائة ليلة وليلة في جحيم العصفوريّة"، الصادرة عن دار الآداب في بيروت عام 2017، إلى عمل درامي، من سيناريو وحوار السناريست المصري محمد هشام عبية، وبطولة منة شلبي. لكن جديدًا لم يعلن عن تطورات العمل على ذلك المشروع، الذي قد يتعطل على خلفية إدانة بطلته المفترضة بالتعاطي في يناير/ كانون الثاني الماضي وحبسها سنة مع إيقاف التنفيذ.
"منة ممثلة رائعة، وأعتقد أنها تشبه مي، لكن مع الأسف لا أعلم هل سيستقر الخيار عليها أم ستستبدل بعد ما حدث معها مؤخرًا، وأتمنى أنها تخرج من أزمتها، وتواصل مسيرتها، وتكون بطلة المسلسل، لأني لست مقتنعًا بما حدث معها، وظني أنه ربما انتقام أو غيرة من حالة النجاح التي وصلت إليها".
عاشت زيادة، التي كانت توقع مقالاتها المنشورة في الصحف المصرية بأسماء كثيرة منها "إيزيس كوبيا"، أغلب حياتها الأدبية المزدهرة في القاهرة، التي استضافت صالونها الشهير في العشرينات والثلاثينات. لكنها قضت الجزء الأخير في حياتها بمستشفى الأمراض العقلية في بيروت، قبل أن تعود إلى القاهرة لتودع حياتها من مستشفى المعادي.
ورغم أن رواية واسيني تدور كلها عن الفترة التي قضتها مي في العصفورية (الاسم الذي يطلق على مستشفى الأمراض العقلية في بيروت)، فإن حياتها كواحدة من رائدات العمل الحقوقي النسوي في مصر تجعل موضوعي النص الأدبي والدرامي قريبين من المتلقي المصري الذي سعى واسيني لمخاطبته في أعمال سابقة.
في عام 2012، قررت هيئة الكتاب المصرية تدشين سلسلة أدبية جديدة تهتم بالإبداع العربي، وطلبت من صاحب رواية البيت الأندلسي عملًا جديدًا لنشره ضمن إصدارتها. لكن الروائي المولع بالتجريب في اللغة والشكل، قرر أن ينشر ما وصفه حينها بالـ"سيرة الروائية"، وهو نوع أدبي جديد على التصنيف العربي "فكرت إنها فرصة مناسبة لتعريف المثقف المصري بكتاباتي، وقررت نشر كتاب يضم 15 فصلًا من 15 رواية لي، بحيث أثير لدى القارئ البحث عن هذه الروايات التي ضم الكتاب فصولًا منها. وحرصت على التجانس بين تلك الفصول، فاخترت فصول خاصة بقضية المرأة، وظروفها في المجتمعات العربية، وما تعانيه".
في تعريف القارئ
هذه الرغبة في تعريف القارئ المصري تحديدًا بأعماله، يراها الأعرج تشبه ما سلكه نجيب محفوظ الذي "قدم رواياته ولم يقدم نفسه"، ولكن منحها النقد الأدبي ثقلها. وفي حين يرى أنه حاز من النقد "ثقلًا أدبيًا"، فإن أعماله لا تزال لم تلق حقها من الدراسة لدى النقاد المصريين، وإن حازت ما تليق به من القارئ.