منشور
الأحد 5 فبراير 2023
- آخر تحديث
الثلاثاء 12 سبتمبر 2023
في مايو/ أيار العام الماضي، وفي حفل صغير بمكتبة البلسم في حي العجوزة، أُعلن عن إطلاق دار مرح المتخصصة في النشر الموجه للطفل حصرًا، قبل الاحتفال بصدور كتبها الثلاثة الأولى "قلب سلمى"، و"عندما صحى كوكو"، و"أنا أعرف". وخلال ثمانية أشهر تالية أصدرت الدار الوليدة خمسة كتب أخرى، ليصبح مجموع ما نشرته في ثلثي عامها الأول 8 كتب وهو رقم معقول لناشر جديد، لكنه ليس كذلك في مجال متخصص يشكو كثيرون من قلة إنتاجه واعتماده في الأغلب على النقل والترجمة.
يواجه مجال النشر عمومًا، اتهامات بتغليبه المصلحة التجارية عندما يتعلق الأمر بالنشر الموجه للطفل، الذي لا يمثل مصدرًا مضمونًا للربح، فيعزف الكثيرون عن إنتاجه أو يعتمدون في أفضل الأحوال على ترجمة العناوين التي حققت رواجًا عالميًا، أو يصاحب إنتاجها دعمًا من جهات ثقافية يغطي كلفة الترجمة والطباعة على السواء، وهي اتهامات تواجه في الأغلب بأخرى مماثلة من الناشرين أنفسهم تعزي الفقر في الإنتاج إلى ندرة الكتابة الجيدة باللغة العربية، لكن خالد عبد الحميد مؤسس مرح، الذي التقته المنصة على هامش مشاركته في معرض القاهرة الدولي للكتاب لا يعتد بذلك الرأي.
يرى عبد الحميد أنه كان ثمة وقت تزدهر فيه الكتابة للأطفال "وكان لدينا تجارب مهمة"، في الستينيات والسبعينيات من خلال تجربة مجلة سمير التي "قامت على أكتاف فريق ضخم بقيادة اسمين من العلامات البارزة في المجال هما رئيستي التحرير نتيلة راشد (ماما لبنى)، وجميلة كامل (ماما جميلة)، وقدما من خلال المجلة أعمالًا عظيمة، كذلك كتيبة الفنانين والكتاب في دار الفتى العربي، الذين قدموا تجربة مهمة جدًا. ويمكن الحديث أيضًا عن كامل كيلاني، ومؤسسة الأدب العربي الحديث، باعتباره أحد الرواد في المجال".
لعل تلك التجارب، التي لا تغفل تأثرًا واضحًا بالنوستالجيا، هي ما تجعله يصف مشروعه الذي شاركه في التخطيط له المهندس الراحل علي شعث، وشاركه في تأسيسه الكاتب أحمد خير، بـ"حلم تأخر تنفيذه"، وتحفز لديه طموحًا غير سهل الإدراك في أن تكون مرح "جزء مما يكون خيال الطفل وعالمه".
بيد أن عبد الحميد الذي عمل فترة غير قصيرة بدار ميريت للنشر "أكسبتني خبرة كبيرة في المجال"، يدرك أن الزمن الذي كان محفزًا لحلمه، تغير إلى علاقة "صارت معقدة وسيئة" بين الطفل الذي "لم يعد يفضل القراءة، أو ينظر للكتاب وسيلة رئيسية للمعرفة" واللغة العربية، "بسبب عدم تطور الإسهامات المقدمة بالعربية إلى الطفل بصورة تتناسب مع تطور خيالاته، بل ظلت حبيسة أفكار معلبة، في ظل تزايد وسائل المعرفة كل يوم، كن أتوقع عندما يعود الكتاب لمواكبة خيال الطفل، سيستعيد مكانته كعنصر مهم للمعرفة، وهذا ما نهدف إليه في مرح".
ولكن ماذا تملك مرح لتقدمه للطفل كي تدرك الهدف غير الهين؟
يقول عبد الحميد، الذي وضع شعارًا لداره "نكتب عنهم، ونسمع منهم، ونفهم بعضنا البعض"، إن مرح تملك "مشروعًا كاملًا يتفاعل مع خيال الطفل وعالمه وأسئلته، ولا يستهدف نشر القصص للتسلية فقط"، ولا تتبنى الدار الجديدة، حسب مؤسسها، توجهًا أحاديًا فيما يخص التصنيف، فكتبها المنشورة حتى الآن تجمع ما بين القصة والشعر والمعرفة العامة، فضلًا عن إطلاقها سلسلة تستهدف إعادة نشر النصوص القديمة المؤثرة.
ليس بالحكاية وحدها...
ثمة اصطلاح متقادم، لكنه ما زال سائغًا رغم ذلك، يحصر الفن عمومًا في دور توجيهي ويؤطره كـ"رسالة" تستهدف تهذيب الإنسان، وفي حين يبدو ذلك الرأي هزليًا فيما يخص الذي يتلقاه الفرد من معارف، فإنه قد يكتسب ترحيبًا أكبر عندما يأتي مقترنًا بعملية "التربية" التي يخضع الطفل لها، غير أن مؤسس مرح ينفي ذلك الدور أيضًا عن الأدب الموجه للطفل وعمَّا تمارسه داره التي "تنحاز للأفكار التقدمية؛ للعدالة والعدل والحرية. لا نريد تقديم كتاب يتلاشى من ذاكرة الطفل بمجرد الانتهاء منه، بل نهدف إلى تقديم قصص جذابة وسلسة تترك أثرًا في وجدانه، ذلك الأثر مؤكد سيستدعيه الطفل في لحظة ما أو موقف ما، حتى إن لم يفهمه كليًا الآن".
لذلك تهتم مرح بالإنتاج الشعري جنبًا إلى جنب مع القصص، الذي يعتقد عبد الحميد أن له أهمية لا تقل عن السرد في تكوين خيال الطفل "الشعر جزء رئيسي وأساسي في خطة الدار، كي تتعرف الأطفال على أنواع مختلفة للأدب، وتعرف أن القصص ليست النوع الأدبي الوحيد الذي يمكن التفاعل معه".
وأصدرت مرح إلى جانب ديوان "أنا أعرف" للروائي والشاعر محمد خير، كتاب "ثمار الحب" لفاطمة عثمان ورسوم سالي سمير، وهي قصة مسجوعة باللغة العربية، وتضم كذلك أشعارًا باللهجة العامية.
حلاوة زمان
وبقدر حرص الدار على نشر أعمال الكُتاب معاصرين، فإنها تهتم كذلك باستعادة أعمال الرواد ضمن سلسلتها التي أطلقتها بعنوان "حلاوة زمان" المستلهم من أغنية لصلاح جاهين، وكانت أولى إصداراتها قصة "مذكرات أرنب الغابة" للكاتب الراحل يحيى الطاهر عبد الله، لكن هذه السلسلة التي ستتسع لإصدارات كثيرة لاحقة، لا يبدو أنها ستعتمد إعادة نشر الكتب القديمة، وإنما نصوص نشرت متناثرة ومنفصلة في الصحف وضاعت مع الزمان.
يقول عبد الحميد"سمعت عن مجلة كروان التي صدرت عام 1964، واستمرت لمدة عام واحد قبل أن تتوقف، كما سمعت عن قصص كثيرة ليحيى الطاهر عبدالله كتبها للطفل، لكننا لم نقرأها في كتبه الموجهة للطفل، ومن هنا قررت التنقيب والبحث عن هذه القصص، وعن مجلة كروان، مستغلًا خبرتي في بناء الأرشيفات بسبب عملي بها في فترة ما من حياتي، وفورًا توجهت إلى دار الهلال، حيث مجلة سمير أشهر مجلة متخصصة للأطفال فترة الستينيات، وبدأت في تصفح أعدادها بداية من عام 1965 إلى عام 1972".
قضى خالد مدة شهرين من البحث أرشيف دار الهلال، حتى وجد ما يصفه بالكنز الذي يضم أعمال "كثير من الكُتاب والرسامين الموجهة إلى الطفل وانبهرت من جمالها، وأقدر أقول بالبلدي ناس كانت بتعمل عظمة على جميع المستويات، من رسوم لمحيى الدين اللباد وحجازي وبهجت عثمان، ومجدي نجيب، أو على مستوى الكتابة لأدباء مثل سيد حجاب، وعبد الرحمن الأبنودي، ويحيى الطاهر عبدالله، وزين العابدين فؤاد، والمطلع على أعمالهم في تلك الفترة سيجد أن سمتها المميزة هو قدرتها على تجاوز الزمن، برغم مرور 60 سنة على إصدارها".
ورغم ما وجده عبد الحميد من "إنتاج غزير"، ما تزال خطة تلك السلسلة، التي ستصدر أعمالها برسوم جديدة لسحر عبد الله، قيد التطوير، "لكن نفكر بجدية في إعادة نشر إنتاج صلاح جاهين، وسيد حجاب الذي وجدت له أكثر من 10 قصائد، وتلخيصه للأوديسة في 8 حلقات للأطفال برسوم نبيل تاج".
الطفل يكتب أيضًا
وتتضمن خطة الدار أفكار أخرى ما تزال قيد التطوير، وتستهدف الاعتماد على ما يكتبه الطفل نفسه "بعد تحليله وتطويره، فيصبح إبداعهم منهم وإليهم"، وكان من بين ما خطواته لإدراك ذلك مسابقة أدبية تختبر قدراتهم على الإبداع، عقدتها بالتعاون مع المدرسة الألمانية سان شارل، "وكانت المفاجأة هو اكتشافنا مواهب حقيقية تستحق الدعم والاهتمام، وقد نشرنا القصص الفائزة على موقع الدار وصفحتها على فيسبوك".
ربما لم تتوجه مرح حتى الآن بفكرتها إلى كيانات أكبر أو مدارس أخرى، وتركز حاليًا على استمرار التعاون مع سان شارل عبر مسابقات مختلفة، لكنها تطمح أن تصل "إلى كل مدرسة، وإلى كل مكان".
هذه الآمال الكبيرة التي توحي بالرغبة في الاستمرارية والوصول للجميع، تقود إلى سؤال رئيس، في ظل ما تواجهه صناعة النشر حاليًا من تحديات كبيرة بعد الانخفاض الحاد في سعر الجنيه الذي أدى إلى ارتفاعات في تكاليف الطباعة والتوزيع؛ هل تقدر مرح على الصمود وتحقيق ربح يضمن استمراريتها؟
يؤكد عبد الحميد في ختام حديثه للمنصة أن "تكلفة نشر كتاب للأطفال، أكبر من نشر الكتاب العادي"، رغم ذلك "نحرص على إنتاج إصدارات تؤمن لنا عائدًا ربحيًا لضمان الاستمرارية، ونحاول كذلك البحث عن حلول لخلق معادلة تجمع بين تقديم كتاب جذاب بسعر مناسب للجميع"، من بينها مثلًا "سلسلة 'المطوية' التي رسمتها وكتبتها سهيلة خالد، وكُتبها ذات قطع صغير تضمن شكلًا مميزًا وفي الوقت نفسه تباع بأسعار رخيصة، واستلهمتها من الكتيب الصغير الذي كان يصدر مع مجلة سمير".
بالنسبة إلى مرح، فإن الحل في سمير كما يبدو، أو بعبارة أخرى رومانسية بعض الشيء؛ الاتكاء على الأمس خطوة ضرورية إلى الغد، وإن كان الطريق طويلًا ما يزال أمام الدار التي يعتد مؤسسها بـ"أحلامه القديمة" لإدراك خططها المستقبلية، ففي الحقيقة لا يحتاج الطفل شيئًا غير أحلام ترشده الطريق.