منشور
الأربعاء 19 أكتوبر 2022
- آخر تحديث
الأربعاء 19 أكتوبر 2022
يمارس محمد الفخراني الكتابة كلعبة جادة. اللعب عنده ليس تكنيكًا فنيًا وحسب، وإنما وجهة نظر تعيد اختبار الأفكار وتشابكاتها بطرق مختلفة مع العالم.
أحيانًا تبدو هذه اللعبة خطيرة، حين تدور في عوالم غير مستأنسة، خشنة وغير أخلاقية، كما "في فاصل للدهشة"، أو حين تبدو مثل تأمل طويل وهادئ عن الحب والحياة كما في روايته الأحدث "لا تمت قبل أن تحب"، الذي يظهر التحول فيما بينهما مثل انتقال متطرف من أقصى اليمين لأقصى اليسار.
في حواره مع المنصة، يقول صاحب "قبل أن يعرف البحر اسمه"، إن الكاتب ربما "يحب أن يُوصَف بأنه متطرف فى التجريب؛ هذه الكلمة التى تُوهِم بالتمادى، لكن كاتبًا آخر ربما يُفَضِّل تعديلًا طفيفًا فى ذلك الوصف. عن نفسى أحب التجريب، وأعتبره طريقة لرؤية العالم والكتابة من زوايا مختلفة. التجريب لا يحتاج فقط القدرة على تشكيل ألعاب فنية، هذا سهل، إنما يحتاج بالدرجة الأولى رؤية، أنْ يكون للكاتب وجهة نظر؛التجريب وسيلة وليس غاية".
يستدعي فهم الفخراني لمسألة التجريب الإبداعي سؤالًا مهمًا حول ماهية الفعل ذاته على المستوى اللغوي أو على مستوى عالم الحكاية أو مكانها، لكنه يرى أن التجريب شيء ضد التعريف، يقول "لا أحب أن أضع التجريب بين حَدَّى جُملة، كيف ذلك وأنا أتكلَّم عن شيء هو بالأساس ضد التحديد".
في معنى ما يستحيل تعريفه
يرى صاحب "ألف جناح للعالم" أن الانتقال بين مستويات عِدَّة للغة، وبين أصوات سرديَّة مختلفة، أو اختيار موضوعات وأفكار جديدة، واللعب مع الزمن والمكان، وكذلك التحديات التقنية مثل أن تدور الرواية عن شخصيتين أو واحدة، أو في مكان واحد، وغيرها، هي الحركات الظاهرة من التجريب، لكنها ليست حاسمة، ولا تصنع الفارق، ليست التجريب نفسه.
التجريب، حسب الفخراني، موجود في روح تلك الحركات الظاهرة، فى روح اللغة والسَّرْد، وروح الأفكار، والطريقة التى تُقدِّم بها الرواية أفكارها وحكايتها وشخصيتها الفنية، موجود فى الرؤية التى يُقَدِّمها النَصّ، وكل تفاصيله، يتماهى فى روح الألعاب الفنية، لا في الألعاب نفسها، كل لعبة فى العالم لها حركات ظاهرة، ولها روح خفيَّة ومحسوسة فى الوقت نفسه، يقول "الكاتب الذى يُلامس هذه الروح، القادر على أن يجعل لتلك الحركات والألعاب هوية فى روايته هو كاتب يُجَرِّب".
للفخراني عشرة كتب سردية تقع بين الروايات والقصص القصيرة، منها قصص تلعب مع العالم، وطرق سريّة للجموح، وألف جناح للعالم وعشرون ابنة للخيال، كما فازت روايته فاصل للدهشة (2007) بجائزة معهد العالم العربي بباريس، وحاز جائزة الدولة التشجيعية للقصة عام 2012 عن مجموعة قبل أن يعرف البحر اسمه.
وعلى قدر ما توحي عناوين نصوصه من تقدير للمتخيل، يحب الفخراني أنسنة الموجودات في عالمه، فكل عنصر من عناصر الطبيعة صالح أن يصبح بطلًا تدور حوله الحكاية، الإنسان بالنسبة له شريك للمخلوقات الأخرى في صنع العالم، وليس هو الصانع الأول. ما يميز إنسانه هو حقه في الخطأ، فالعالم لا يساوي شيئًا دون ذلك الخطأ الذي يصنع التجربة كلها، حسب قوله.
في روايته الجديدة "لا تمت قبل أن تحب"، الصادرة عن دار العين، يصّدر الفخراني نصه بالجملة نفسها "إن العالم لا يساوي شيئًا بدون الخطأ الإنساني"، قبل أن يسرد حكاية ثلاث شخصيات يعيشون في عوالمهم الهادئة المنعزلة عن سيولة العالم.
ولكن كيف تؤدي العزلة إلى اقتراف الخطأ الإنساني، يبدو الكاتب نفسه أقرب إلى تلك الشخصيات الثلاثة من حيث انعزاله عن سيولة العالم، وابتعاده كلية عن السوشيال ميديا، الذي "لا يفضل" الحديث عن أسباب هجرته لها، لكنه في الوقت نفسه يرفض اعتبار "الهدوء" انعزال عن العالم.
أما افتراض أن يكون ذلك الهدوء وما يحتمله من معاني الرغبة في التأمل قد يكسب النص طبيعة فلسفية، فإن الفخراني يرى أن الكاتب يلاحظ، بطبيعة الحال، العالم من حوله، ويُتابِعه، لكنه في النهاية لديه عالمه الداخل ومساحته الخاصة، والتحدي الحقيقي، حسب قوله، هو كيفية خلق ذلك المزيج من الأفكار والتأمُّل والحكاية، لا أن تكون حكاية مستمرة بلا أفكار، أو طَرْحًا متواصلًا للأفكار من دون حكاية.
عين واسعة ترى الحب
تدور الرواية بين عالم حورية أبو البحر، وشقيقها تشوكا، والرومانسى الأهبل الذى أنقذ حورية من الغرق، ورغم الانعزال الذي يمكن أن يصم أدائهم، فإن ثمة طريقة يمكن من خلالها تلمس محاولاتهم للتواصل مع العالم، سواءً فيما بين حورية وأخيها، أو ما تقوم به نفسها خلال عملها أخصائية تَوَحُّد، أو في الطريق الذي تقطعه على دراجتها.
فى الوقت نفسه يتواصل تشوكا مع العالم من خلال كاميرته، والصُّور التى يلتقطها لحركة الحياة المختلفة، أما الرومانسى الأهبل، فيتواصل مع العالم من خلال مرضاه، وعَزْفِه من وقت لآخر على البيانو.
وإن كان ثمة تأمل في تلك الرواية، فهو الحب، ولكن بمعناه المتسع والمتعدد، كما يفضل الفخراني رؤية المعنيين الفلسفي والمادي له، اللذان لا يبتعدان عن بعضيهما.
تعتبر شخصية تشوكا ميزان الحكاية، فهو يرى العالم من موقع الفنان المصور، ويحاول طرح الأسئلة الكبرى والمؤلمة ويتأملها من خلال ما أنجزه، ويستخدم الفخراني تكنيك إرفاق صور حقيقية هزت العالم عن الحروب والهجرة غير الشرعية، ويفسح مجالًا لشخصيته للحديث عنها والتشابك معها، ويبدو ذلك التكنيك نافذة مختلفة لرؤية العالم والتواصل معه، حيث الصورة الفوتوغرافية طريقة للسَّرْد، وراوٍ بَصَري، صامت ومُتَكِّلم.
يرى الفخراني أن تشوكا له وجهة نظر باتجاه العالم، ويحب أن يدخل التجربة، ولديه القدرة على تشكيل خبرة عن كل تجربة يخوضها، والتفاهم مع العالم، وحساسية خاصة تجاه كل ما يراه ويَمُرُّ به ويحدث حوله، فهو من البداية اختار أن يكون مُصَوِّرًا حرًا بَدَل أن يُدِيِرَ ستوديو والده، يتجوَّل بروح حُرَّة، ومعه كاميرته، ومن وقت لآخر يكتب لأخته رسائل، أو حتى يكتبها لنفسه، أو لكل أحد، أو لذلك ا كله معًا.
بعيدًا عن العالم وفي خضمه
يعد الكاتب الذي لم يملك قط أي حساب على السوشيال ميديا، قراره بالعزلة ضرورة، ربما تصرفه أكثر للتركيز على مشروعه، حتى أنه يبدي عدم اكتراث بالسلوك الذي تنتهجه الرواية المصرية نحو التطور من عدمه "هذه الفكرة لا تشغلني، ما يهمني فى المساحة الخاصة بالقراءة، أن أقرأ نَصًّا يعجبني" وفق شروطه وميزانه الفني.
هل هذا انغماس في التجربة أم محاولة لتجاوز الوقوع في شرك الخطأ الإنساني؟ يفسر الفخراني رأيه بأن الكتابة لا يجب أن تسير فى خَطّ مُتطوِّر، وإنما بقفزات وانتقالات كبيرة، التطور بطبيعته بطيء فى كل شىء، وغير مثير للحماس والشغف "أفكر فى الانتقالات المُفاجِئَة المُدهشة"، فالكتابة حسبه "عمل فَرْدى، ورواية واحدة يمكنها أن تصنع الفارق، يمكنها وحدها أن تصنع تيارًا أدبيًّا، أنْ تقفز تلك القفزة المدهشة، يمكنها أن تخلق حالة فنية، وفكرة مثيرة للشغف والحلم".
رغم ذلك لا تفصل تلك الرغبة الانعزالية الفخراني عن الكون وما يدور فيه، فالكاتب المغرم بالعوالم المتخيلة، ينشغل حاليًا بوضع اللمسات النهائية لرواية جديدة تعالج قضية تغير المناخ، وهو نص يصفه بـ"أغنية لكوكب الأرض"، كذلك يستكمل رواية عن المشردين كان توقف عن استكمالها بسبب "لا تمت قبل أن تحب".