في سهرة ما بفندق سميراميس، ربما في الخمسينيات من القرن الماضي (لأن فاتن حمامة كانت لا تزال متزوجة من عز الدين ذو الفقار في ذلك الوقت)؛ خلعت تحية كاريوكا حذاءها وقذفت به سيناتورًا أمريكيًا ففقأت له عينه.
يحكي سمير صبري، في لقاء قديم جمعه بالإعلامي محمد الغيطي، أن فاتن وتحية، كانتا تجلسان إلى طاولة قرب المسرح، حين تقدم منهما أمريكي سكران يطلب الأولى للرقص فرفضت بهدوء وقالت له (لا شكرًا)، ولما أصر على طلبه "خلعت تحية جزمتها وألقته بها فانخلعت عينه، فقام الجرسونات بإخفائها، لأن الراجل كان عضوًا في الكونجرس الأمريكي، وهربت تحية، واختبأت عند هدى سلطان".
ثم يستكمل "دارت الأيام، وفي حفلة نظمتها السفارة الأمريكية، كانت هي مدعوة فيها، بمناسبة عيد الاستقلال في 4 يوليو، جاء شخص يخفي عينه، وقال لها (مسيز تحية، أنا فلان الفلاني إللى أنت خلتيني موشيه ديان)، فردت عليه (أنا آسفة)، قال لها لا لا، أنا كنت المخطئ، وأنا آسف، وأبلغي اعتذري للسيدة التي كنت أريد الرقص معها".
هذه الرواية المذكورة على لسان سمير صبري، أحد أقرب الفنانين لتحية كاريوكا، لا يمكن بالطبع نفيها، ولا يمكن أيضًا تصديقها حرفيًا، ولكن ما لا يختلف عليه هنا أنها ذُكرت في موضع الإشادة بجرأة هذه النجمة وعظمتها، ورفضها إهانة زميلة لها، حتى استبد بها الغضب ووصل إلى "فقء عين عضو كونجرس أمريكي". أظن أن أي نجم لن يتصرف هكذا تصرفًا لو كان في مكان تحية، أو دعنا نقول بالأحرى أنه لن تروى رواية عن نجم تصرف هكذا تصرفًا لو كان مكان تحية.
ثمة كم هائل من المواقف المنسوبة لتحية كاريوكا (بدوية تحية محمد علي النيداني كريم، المولودة في مدينة الإسماعيلية فبراير/شباط 1915)، لا أظن أن فنانًا حظي بها، تدور حول الراقصة الجريئة "المسحوبة من لسانها" التي لم توقر ملكًا أو زعيمًا أو رئيسًا أو نجمًا هوليووديًا؛ سواء في مواجهتها للسلطات المتعاقبة، أو نضالها السياسي وتعرضها للسجن، أو المطالبة بحقوق المواطنين، بالأخص الفقراء منهم، أو رد الكرامة المهدرة، أو الدفاع عن القضايا العربية والإنسانية.
هذه المواقف، وإن كان بعضها مختلقًا، هي بكل مبالغاتها ما يستخدمه الشعب أحيانًا في صياغة صورة بطله، أو الفتوة الذين ينوب عنه، في المواجهة!
تحية القضية
البطولة هنا ليست للوقائع في حد ذاتها، وقياس مدى صدقها من كذبها، وإنما الرواية هي البطل، القصة التي يتداولها الناس هي ما يهمنا؛ عشرات المواقف التي سُردت أو جرى تداولها على نطاق واسع، أو وردت في الكتب، وتروى على لسان شهود عيان أو أشخاص نقلوا على لسان الفنانة.
نذكر من بينها أيضًا، موقفًا آخر ورد في كتاب سليمان الحكيم "كاريوكا بين الرقص والسياسة"، وهو ضربها للأمير عكا حسن (أحد أمراء الأسرة العلوية الحاكمة في ذلك الوقت)، حيث تجرأ عليها أثناء رقصها، وهي لا تزال في أول عمرها، وقال لها "تعالي يا بنت هنا"، فردت له الإهانة بالضرب.
هنا الراقصة الصغيرة تضرب أميرًا علويًا، هل يمكن أن يمر هذا الأمر بسلام؟ هل حدث هذا بالفعل، لا أعرف لكنه مذكور في أكثر من مصدر موثوق.
دعونا نذهب لحكاية أخرى شهيرة عن جرأة تحية، والأمر هنا مع ملك مصر نفسه، حيث يُروى أنها نهرت الملك فاروق، حين كان يتنقل بين أكثر من كباريه، وقالت له إن "الملك مكانه في القصر، لا في الكباريهات". وهو ما استجاب له بالفعل الملك فاروق؛ هذه الرواية أيضًا لم يتثبت من صحتها. ويضعنا أمام سؤال: كيف يسمح ملكٌ ما لراقصة بأن توجه له هذه الإهانة في الكباريه أمام الحاضرين؟
مواقف تحية الشجاعة، التي لا تصدق، استمرت مع جمهورية ما بعد ثورة يوليو، من بينها مقولة نسبت إلى لسانها، ولم يعرف إن كانت قالتها حقًا أم لا، أنها تسببت في سجنها، فبعد أن جرت الإطاحة بالرئيس محمد نجيب، غضبت تحية وقالت "رحل فاروق وأتى فواريق" (المقصود مجلس قيادة الثورة). وهو ما تسبب في غضب الضباط، وسجنها (له قصة معروفة سنتطرق له فيما بعد).
لنصل الآن إلى واقعة ذات دلالة مهمة، هي الأشهر لتحية عندما فرشت الملاية للنجمة الهوليوودية سوزان هيوارد، وضربتها بـ"الشبشب الزنوبة" الذي ارتدته في مهرجات كان عام 1956، مع عرض فيلمها "شباب امرأة"، وارتدائها الملاية اللف في المهرجان الأوروبي الأبرز.
المتداول في هذه الحادثة أن سوزان هيوارد، تحدثت عن العرب والمصريين بشكل غير لائق، ووصفتهم بأنهم حيوانات، وناصرت الإسرائيليين، فما كان من تحية إلا أن انقضت عليها بالشبشب الزنوبة ولقنتها "علقة سخنة"، وكالت لها السباب والشتائم.
المهم في هذه الرواية، أن كل ما جاء فيها نفته الفنانة تحية كاريوكا بذاتها في أكثر من مكان، من ضمنها ما قالته لطارق الشناوي في كتابه "زمن تحية كاريوكا"، مستغربة تداول مثل هذه الشائعات عن حدث أعلنت كل تفاصيله مثل مهرجان كان.
من صنع هذه الرواية إذن؟ من ضخَّم ذلك الحدث بهذا الشكل؟ من أضفى هذه الهالة على فنانة وراقصة؟ بالطبع هي معروفة بمواقفها الداعمة لفلسطين وقضايا العرب، لكنها لم تقم بذلك السلوك، ولم تسجله الكاميرات ولا الصحفيون الحاضرون في المهرجان الشهير؟ هذا السؤال الذي لم تعرف تحية إجابته، يضعنا أمام ماهية المبالغة والتهويل في أفعال ومواقف من يصطفيهم الناس أبطالًا ويكسبهم الطابع الشعبي للبطولة.
"تحية" ذات الهمة
هل تستحق تحية هذه المكانة؟ الإجابة في نظري: نعم، لأن كل مواصفات الأبطال الشعبيين تنطبق عليها، فإن كانت المواقف المذكورة سابقًا تحتمل الصدق من عدمه، فلا يعوز كاريوكا العشرات والعشرات من المواقف الثابتة المعروفة عنها، لإنسانيتها وكرمها الباذخ وقوتها ودعمها للحقوق والمظلومين، حتى وصفها الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر بأنها "ست بمائة رجل".
وكما يوضح د. كارم محمود عزيز في كتابه "البطل الشعبي" (مكتبة النافذة) فإنه "لكي يصبح الإنسان بطلًا لابد أن يتحلى بالشجاعة الفائقة، ونبل الأعمال والصفات الأخلاقية الحسنة، كما يجب أن يساهم في تغيير مصائر الناس أو مصائر مجتمع معين...".
علينا هنا الوقوف أمام معضلة، وهي أن الهوية الأشهر لتحية أنها "راقصة مصر الأولى"؛ بالتأكيد لم ينتقص من تحية لدى المصريين التصاقها بمهنة الرقص، مع الاعتراف بهذه النظرة المجتمعية السلبية لمهنة "العوالم"، بل على العكس ربما أضافت مهنة "العَالمة" (الراقصة) هالة أكبر على المرأة الجريئة المعتادة على مواجهة الرجال، التي سرعان ما تفرش الملاية وترفع الشبشب دون مهابة أو خوف، حتى في وجه السياسيين والزعماء، حتى صارت بهذا الشكل الأكثر مطالبة بحقوق الشعب، بـ"لسانها الفالت"، لدرجة أنها "شخطت" في إحدى المرات في وجه الرئيس الأسبق حسنى مبارك في لقاء عام.
مفارقة تحية كاريوكا صورة "الراقصة" المعتادة (التي ترقص فقط وتقتصر شهرتها على مجالي الرقص والتمثيل)، يبين سببها المفكر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد في مقالته الشهيرة عنها، التي ربما تكون أهم ما حلل ظاهرة كاريوكا (المقال نُشر في "London Review of Books" عام 1990 وضمنها إدوارد كتابه "تأملات حول المنفى" ترجمة ثائر ديب).
يؤكد المفكر الذي تلقى تعليمه في مصر، أن كاريوكا "لا تنتمي إلى ثقافة الفتيات الرخيصات أو النساء الساقطات التي يَسهلُ تعريفها، بل إلى عالم النساء التقدميّات اللواتي يتفادين الحواجز الاجتماعيّة أو يُزلنها. فقد ظلّت تحيّة مرتبطة بمجتمع بلادها ذلك الارتباط العضوي، نظرًا لما اكتشفته لنفسها كراقصة ومحييةٍ للحفلات من دور آخر أكثر أهميّة. إنّه دور (العالمة)".
تحية بقيمة بنك
دور "العالمة"، التي لا تهاب أحدًا، هو ما رسم لتحية هذه الصورة؛ المرأة الفاتنة ذات الابتسامة الجريئة، القوية، العنيفة، المحبوبة، والمرغوبة، غير المبتذلة، بل الراقصة التي "أكسبت الرقص احترامًا اجتماعيًّا"، على قول موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب، ضمن أوراقه التي أعدها وقدم لها الشاعر فاروق جويدة ونشرت تحت عنوان "حياتي" (دار الشروق)، في إشادة بتحية كاريوكا الراقصة التي عد ظهورها ونجاحها "ظاهرة وطنية"، مبالغًا بأن "المصريين فرحوا بتحية كما فرحوا بإنشاء بنك مصر كظاهرة من ظواهر الاستقلال الاقتصادي.. (حيث أكسبت) الرقص والراقصة احترامًا اجتماعيًا لم يكن موجودًا قبل ظهورها".
كسرت تحية ذلك الحاجز "الأخلاقي"، وهي إن أعلنت أكثر من مرة أنها تزوجت 13 رجلًا، فإن أيًا من الشائعات المعهودة والفضائح، التي تلتصق عادة بالراقصات، لم يطلها، بالعكس ارتبطت بالشرف الوطني، "ارتبطت بتاريخ مصر"، كما يقول المفكر جلال أمين، وارتبطت كذا بمسيرة النضال الوطني، وبالقضايا الكبرى، ونسبت لها الكثير، من بينها نقلها المتفجرات والمؤن بسيارتها إلى الفدائيين على خط القناة لمقاومة المستعمر الإنجليزي، ما قبل ثورة يوليو، ودعهما النضال الوطني الفلسطيني بالمال والوجود.
يخص المفكر جلال أمين، تحية كاريوكا، في كتابه "شخصيات لها تاريخ"، بفصل تحت عنوان "تحية كاريوكا أو 80 سنة من حياة المصريين"، محاولًا التعرف على سر تعلق المصريين بها، مرجعًا ذلك إلى أنه إلى جانب جمالها وجاذبيتها، فإنها تمتعت بالذكاء وخفة الظل، وهما بالطبع من بين مواصفات البطل الشعبي عند المصريين العاشقين "للفهلوي الظريف". ويعلق أمين على حزن المصريين حين ماتت تحية عام 1999، لكونها "كان لها هذا الحضور القوي لفترة من الزمن والأهم ارتباطها بتاريخ مصر كلها".
ذلك الارتباط بتاريخ مصر، لم يكن لمكانة تحية الفنية فقط، ويكفي للدلالة عليه، لقاؤها الشهير بالرئيس الأسبق أنور السادات، في عيد الفن الأول الموافق 8 أكتوبر/تشرين الثاني عام 1976، حيث ذكرها بمساعدته في الاختباء لدى أخوتها في الإسماعيلية (صالح مرسي مذكرات كاريوكا.. عثر عليها محمد توفيق) (دار نهضة مصر).
ارتبطت تحية كذلك بالنضال السياسي ضد السلطة، وكانت قريبة من اليسار المصري، وألقي القبض عليها عام 1953 بتهمة الانضمام لحركة "حدتو"، وسجنت 96 يومًا، بعد العثور على منشورات في شقتها وكانت في ذلك الوقت زوجة مصطفى كمال صدقي، المقرب من الضباط الأحرار، حتى انقلب عليهم.
ويكتب الكاتب الصحفي سليمان شفيق عن أدوار تحية في دعم الحركة الوطنية، وعلاقتها باليسار، ومساعدتها المناضلين والمساجين بالمال، وتهريب المهددين بالسجن منهم، تحت عنوان "الوجه السياسي للست تحية كاريوكا" (جريدة البوابة، فبراير 2021) "لا أستطيع أن أنسى أبدًا أول لقاء مع العظيمة تحية كاريوكا، وكان أغلب اليسار معتقلًا بعد انتفاضة 1977، وكنت قد خرجت للتو من السجن في نهاية فبراير، بعد أن تم الإفراج عني، دعاني الزعيم خالد محيى الدين، في مكتبه وهمس في أذني: سوف أعطيك مكافأة، وأعطاني عنوان تحية كاريوكا، وقال: اذهب إليها ستعطيك شيئًا لنا، ذهبت إليها ولم أستطع تمالك نفسي وقبلت يديها، تركتني ودخلت ثم عادت حاملة ظرفًا أصفر مغلقًا، تعرفت عليَّ وسألتني عن ليلى الشال زوجة رفعت السعيد، وأوصتني عند زيارتها أن أنقل لها سلامها، وأخرجت أجندة تليفونات ودققت معي أرقام منازل بعض الرفاق، أتذكر منهم رفعت السعيد وزكي مراد ونبيل الهلالي".
.. وتحية للمواطن
مع تقدمها في السن، لم تتوقف تحية عن مشاغبة الحكام، ومن تلك المواقف ما جرى مع الرئيس الأسبق محمد حسني مبارك، الذي نقله أكثر من مصدر، من بينهم الموسيقار هاني شنودة الذي كان حاضرًا وحكى الموقف في حلقة ببرنامج "لدي أقوال أخرى" مع الكاتب الصحفي إبراهيم عيسى، فخلال لقاء عام وكانت كاريوكا تجلس على كرسي متحرك، توجه الرئيس حسني مبارك للسلام عليها، لكنها فاجأته أمام الحاضرين، بالقول "المواطن بينام دون عشا يا سيادة الرئيس". وهنا ارتبك مبارك من جرأتها، غير أنها واصلت الحديث في ذلك الشأن بجرأتها المعتادة.
هذه المواقف التي لا تنفد هي ما كونت "أسطورة" تحية كاريوكا، وجعلت المصريين يضمونها لقائمة أبطالهم الشعبيين، إذ إنها حققت كل صفات البطولة؛ "الشجاعة الفائقة"، و"نبل الأعمال"، والمساهمة "في تغيير مصائر الناس أو مصائر مجتمع معين"، وهو ما يثبت من مواقف كثيرة داعمة وكريمة من تحية.