منذ سنوات التقيت كاتبة إسبانية لها رصيد من الروايات والشهرة والجوائز، ولأنها تعرف عملي بالترجمة ولاهتمامنا المشترك بالأدب، أسهبَتْ في الحديث عن الكُتّاب الإسبان الأحياء.
رصَّتْ أسماء عدد منهم بحماس قليل وتعمقتْ في الكتاب الكلاسيكيين، وحين سألتها عن خابيير مارياس شعرتْ بالصعقة: لا تقل لي إنك تحب أعماله؟ ثم أضافت "إنه كاتب سيئ ومصطنع". أكثر من الدفاع عن أدب خابيير مارياس، كنت أريد الدفاع عن ذوقي الجمالي في الأدب، عن الرابطة التي ربطتني بشخصياته، لذلك عدت أقرأه مجددًا على ضوء أنه "كاتب سيئ"، لأكتشف في المرة الثانية جمال أدبه.
طبقية معاكسة
ولد خابيير مارياس عام 1951، في عز الحكم الفرانكوي (نسبة إلى الجنرال فرانثيسكو فرانكو)، حيث لا مكان للمفكرين والكُتّاب المناهضين للحكم، ولا خيار إلا بين المنفى أو السجن. هو ابن للمفكر والفيلسوف الساطع خوليان مارياس، والبروفيسيرة والمترجمة المعروفة دولورس فرانكو. وعائلته من الأم والأب عائلة فنية ومثقفة، زبدة المجتمع الثقافي.
بذلك، ولد خابيير بملعقة من ذهب في فمه، بطريق ممهد ليكون شخصيةً بارزةً، وبمكتبة كبيرة في بيته. وبفضل الحكم الفرانكوي (لأن للمصائب أفضالها) رحلت عائلته في منفاها إلى الولايات المتحدة، ليعيش خابيير طفولته هناك، ويبدأ منذ الصغر اهتمامه بالأدب الأنجلوسكسوني. طريق مهّد له أن يكون مترجمًا ثم أكاديميًا، وأمدَّه بالأفق اللازم ليكون كاتبًا شهيرًا أيًا كانت كتابته أو النوع الكتابي الذي سيختاره.
هذه الخبرة المبكرة؛ هجْرُ الأرض والحياة في بلد غريب، أسست لدى مارياس مبدأه الأول: نقد السلطة والوقوف دائمًا على يسارها. ينتمي مارياس إلى ما سمي بجيل 68، وهو جيل الكُتّاب الذين تفاعلوا أو عاصروا في شبابهم انتفاضات الطلبة في فرنسا، وكانت نقطة تحول أوروبية ألقت بظلالها على مثقفي تلك الفترة.
هو أيضًا جيل الكُتّاب الذين شاهدوا انطفاء الفرانكوية، ولمعت أسماؤهم وغزر إنتاجهم الأدبي بعد موت فرانكو (1975)، فتميزت أعمالهم بالحرية والانطلاق، والقدرة على النقد دون خوف، والأهم من ذلك الانحياز الجمالي للرواية ومعاملتها كفن، لا كوثيقة سياسية، خاصةً بعد أن تراكمت روايات الحرب الأهلية الإسبانية في عقود سابقة.
ومارياس كان ألمع هذا الجيل، بجانب خوان مياس وبيلا ماتاس، وتميّز بموقفه الحاد من السلطة، حتى الجائزة الوطنية للرواية رفضها، وأعلن أن الأفضل للسلطة أن تؤسس مكتبات عامة بقيمتها.
لكنَّ السياق الذي ولِد فيه، الراحة المادية والعائلة المشهورة، كان سببًا لنفور الوسط الثقافي الإسباني منه. ولو أضفنا إلى ذلك حياته ككاتب منعزل، اكتسب شهرة بأنه كاتب متعجرف، لفهمنا لماذا رأت الكاتبة التي أحكي عنها أنه "كاتب سيئ ومصطنع"، وهو ليس رأيها وحدها، لكنه مبنيٌّ على ما هو خارج الكتابة، مؤسَس على صورة الكاتب كمناضل وفقير وعصامي، ثم ودود ومحب ومجامل. وهي ظروف وصفات لم يعشها مارياس ولم يكتسبها مع الوقت.
عزلة الكاتب وصورته
اختار مارياس لنفسه من البداية الانعزال عن عالم الكُتّاب، وكانت علاقته المباشرة بالكتب ودور النشر والقراء.
حققت روايته الأولى "سيطرة الذئب" (1971)، وكان دون العشرين حينها، نجاحًا ملفتًا وجدلًا، ثم جاءت "قلب ناصع البياض" لتحسم أنه أحد أهم الروائيين الإسبان الأحياء. هذا النجاح أكد له نظريته بأنه يكتب للقارئ، ولا ينتظر أحدًا غيره. وفي معادلة صعبة استطاع مارياس أن يحققها: كتب روايات ممتعة وفلسفية في نفس الوقت، فكك باقتدار المشاعر الإنسانية وحلل مضمونها بدون أن يتنازل عن الشرط الجمالي، انطلق من الساسبنس البوليسي ليصل إلى ما هو أعمق وأهم. هذه الوصفة "المارياسية" جعلته أستاذ الأسلوب، حسبما وصفه نقاد متعددون.
بحسب مقال للروائي إسحاق روسا، لم يغادر مارياس القرن العشرين رغم أنه عاش 22 عامًا في القرن الجديد، ورغم أنه دخل ذلك القرن في سن الخمسين.
لم تشكّل التكنولوجيا الجديدة جزءًا من عالمه، ولم يدرك العالم في صورته الجديدة. ظلت شخصيات مارياس تنتمي للعالم القديم، وظلت مشكلاتها وصراعاتها تنتمي لزمن فات. بل إن مارياس نفسه ظل الكاتب في صورته الكلاسيكية، الكاتب المتواري عن الأنظار الذي لا يربطه بالعالم إلا نصه. هذه الكلاسيكية لم تمنع ترجمته لـ 45 لغة، وترشحه لعدة مرات في جائزة نوبل، ووصول صوته عبر كتبه ومقالاته إلى القراء، وترجماته التي طال فيها كمترجم قامته ككاتب، حد أنه صار النموذج الأكمل للكاتب/المترجم، وصارت الترجمة بالنسبة له "تمرين يجب أن يلجأ إليه أي كاتب".
لكنَّ عزلته ككاتب لم تعنِ ضيق عالمه السردي، ولا حددت تجاربه الشخصية. استطاع مارياس أن يفعل بكتابته ما يفعله أي كاتب عظيم: أن يرصد كيف نتغير ونصبح آخرين، وأن ندفع ثمن هذا التغيير بنفس راضية. هذا المعنى هو ما ظل الكاتب الإسباني الأشهر يدافع عنه ويطارده من عمل إلى آخر، لأننا لا يمكن أن نصل إلى هذا التصالح مع الذات ما لم نفهم مشاعرنا. وكان هو أحد الذين ساعدونا كقراء على فهم هذا الالتباس.
الحب كحبكة روائية
في "قلب ناصع البياض"، رسم مارياس عبر شخصيته الرئيسية، خوان رانث، الشعور المسبق بوقوع كارثة، وفي "غراميات" حلل، من خلال الراوية وميجيل ديسفيرني، كيف يُهزم الحب ومن أي أحجار رملية يُشيد. وفي "غدًا في المعركة فكر فيّ" ينصح السيد روبتيريث الكاتب بيكتور بأن يعود إلى زوجته السابقة، لتبدأ رحلة نفسية وعاطفية يسودها الالتباس والقلق.
هذه هي المنطقة الأكثر خصوبة في نص مارياس، فهم الحياة عبر التجربة العاطفية، واستخلاص الفلسفة من هذا الاضطراب الناتج عن الحب والخيانة والهجر ومحاولة الإمساك بحكاية تهرب عادةً خيوطها، لكنه يعيد تشكيلها.
امتاز أسلوب مارياس في كل أعماله ببصمة واضحة: قدرته على صنع بنية سردية تسع الحكاية العاطفية والرواية البوليسية والأسطورة المجازية والسرد الرمزي، بحسب الناقد خيسوس فيرير، ورغم انطلاقه من الواقعية الكلاسيكية لكنه لا يستغنى عن البنية الدائرية، حيث يجد القارئ حكاية منثورة يلم تفاصيلها. ولعل الملمح الواضح في سردية مارياس هو إصراره على اللعب، ما عبّر عنه بقوله "كما ترون، ورغم سني، لم أفقد أبدًا المنظور الفطري: ربما لذلك كرست حياتي للكتابة، إذ أنها ملأى بكتير من اللعب وقليل من الواجب".
لذلك، فكتابة مارياس ينقصها الأهداف وتستسلم للإلهام، لأنه لم يصدق أبدًا أن الكتابة مهنة ولا مهمة يجب أن يؤديها. هو نفسه يقول "لا أخطط لمشروع كتابي، حين أنتهي من عمل لا أعرف ما العمل التالي ولا إن كان ثمة عمل تالٍ".
في مقال له بعنوان "سبعة أسباب لعدم كتابة رواية وسبب واحد لكتابتها"، يحكي مارياس عن محاسن ومساوئ مهنة الكتابة بالنسبة له. يعتقد أن كتابة الرواية نشاط مبتذل، فثمة كثيرون يكتبونها، وبالتالي فهناك روايات كثيرة. بالإضافة إلى أن كتابتها لا تمنح المكانة ولا المال، لا تحقق الشهرة ولا الخلود ولا تشبع غرور الكاتب، بالإضافة إلى عزلة الكاتب والمعاناة أثناء الكتابة والاستياء أمام الورقة البيضاء. مع ذلك فثمة سبب يدفع للكتابة: تجربة العيش في الخيال، وهو مملكة الحاضر التي لم توجد في الماضي، وربما تكون مستقبلًا ممكنًا للواقع.
بعيدًا عن القطيع
كل ما كتبه خابيير مارياس جدير بالقراءة، لأنه "كاتب سيئ ومصطنع" في رأي البعض، ولأنه "كاتب متعجرف" في رأي بعض آخر. وكاتب من هذا النوع لابد أنه كاتب عظيم، لأنه هرب من جمالية الاتفاق، وصار شريدًا بعيدًا عن القطيع، ولأنه، برغم كل ما وصفوه به، لم يكتب إلا ما آمن به: نص يلفتنا إلى ما صرنا إليه، ودفع الثمن.