بإذن من الكاتب
الكاتب علي قطب

كل ما يعرفه أحمد علي: حوار عن المثقف الانتحاري

منشور الأربعاء 10 أغسطس 2022

"وسط صخب الأفكار إحساسٌ ما يدفعني إلى الاقتراب من الحافة، عند طرفها أمدُّ رأسي في محاولةِ رؤيةِ أيٍّ من أوراقي التي ألقى بها أشرف، أو التعرُّف إلى قطعة من بقايا اللابتوب، أفتش بعيني فلا أجد لهما أثرًا، أمدُّ عنقي أكثر محاولًا توسيع رقعة بحث العين، أشعر بجسمي يميلُ إلى الأمام، يختلُّ توازني، أسقط".

هكذا تنهي شخصيّة الكاتب أحمد علي رواية كل ما أعرف، الصادرة عن دار العين 2021، للروائي علي قطب الذي بدأ مسيرته الأدبية مُبكرًا برواية الانتظار وهو لم يتخط العشرين بعد. اختار قطب أن تكون روايته الرابعة رواية أصوات، يتراوح السرد بين شخصياتها الرئيسة أحمد علي، الكاتب، وأحمد محفوظ، ابن خالته المُجرم، وياسر الغنّام، صديقه الغني، وغدير زوجته.

يمكننا تصنيف كل ما أعرف كنص اجتماعي- نفسي يتناول موضوع الخيانة الزوجيّة من وجهات نظر مختلفة، تجعل القارئ يحاول تكوين الصورة الكبيرة من خلال رحلة في دواخل كل طرف. لكن مع ذلك، يترك لنا صاحب رواية أنثى موازية، الحاصلة على جائزة ساويرس عام 2017، مصير شخصية الكاتب ملتبسًا: هل انتحر؟ هل سقط سهوًا؟ يمكننا رؤية فقط أن فعل التفتيش نفسه كان عبثيًا؛ لا أوراق أو لابتوب يمكن العثور عليهم في تلك اللحظة.

آذان ليست مغلقة بالكامل

غلاف الرواية

يشير عنوان الرواية كل ما أعرف إلى محدوديّة معرفة الأفراد، بحسب قطب الذي يقول للمنصة "حين أقول كل ما أعرف، فالطبيعي ألا أعرف كل شيء، وبالتالي علينا أن نقنع أننا لا نمتلك حقيقة كاملة ولن نمتلكها، وهناك بعض الأمور التي لن نعرفها كقراء عن مصائر الشخصيات أو معلومات حين يتحدثون عن أنفسهم أو الآخرين".

رغم ذلك يتعرف القارئ على بعض من أمور شخصية أحمد علي، ففي بداية خطبته الأخيرة قبيل موته، في تقييم لنفسه وما يفعله في الحياة، يشير إلى أن حياته فقيرة مقارنة بحيوات الآخرين التي تستحق التوثيق؛ يدرك أحمد علي عجزه وفراغ حياته التي يحاول مداراتها بالكتابة، يدرك عدم قدرته على فعل شيء، بعكس كل الشخصيات الأخرى.

رغم النموذج السلبي للمثقف في الرواية، فإن علي قطب يملك تصورًا إيجابيًا عن وضع المثقف أو الكاتب في مجتمعنا. بالنسبة إليه، المثقف، من خلال الثقافة بمعناها التنويري والعلمي والمنفتح، "يحمل قبسًا فيه وهج روح الإنسان الكلي، فهو يساهم في التقدم الحضاري أو يصنع الفلك الذي ينقذ فيه إنسانيته".

اختيار ممارسة الكتابة يراه قطب "ليس اختياريًا محضًا، فأي إنسان يشارك في أنشطة كثيرة منذ ميلاده كلعب الرياضة مثلاً، ويظل هكذا حتى تتجلى ميوله الحقيقية. نجيب محفوظ مثلاً كان أمله في الحياة حينما كان طفلاً أن يكون لاعب كرة أو مغني، لكنه في آخر المراهقة وجد نفسه متجه كلية إلى الفكر والفن".

مع ذلك يظهر ضعف وخواء شخصية أحمد علي في مواضع عدّة في الرواية، منها حين يرى صديقه كريم يُعتدى عليه ولا يفعل شيئًا، ويُقال له "أنت مش زي ابن خالتك خالص". يؤكد التعليق الأخير على اختلاف شخصيتي أولاد الخالة، وبعد ثلاث صفحات يبوح أحمد علي بأمنية تؤكد تواكله واعتماده عليه. في بداية الرواية أيضًا يقوم أحمد علي بمونولوج طويل كاشف لعلاقته بمحفوظ بأنه بفضله "لا يحتاج إلى اتخاذ قرارات" وأنه "يواجه الناس مكانه". عجز تام يُلقي بمسؤولية الحياة على الآخر، وبذلك يغترب عنها موكلاً دور العيش إلى من هو غيره.

الكتابة بديلاً عن الحياة

خلال أحداث الرواية، يكتشف أحمد علي خيانة زوجته، فيلجأ إلى طريق الكتب والثقافة والخيال في التعامل مع حياته؛ التخيل محورٌ أساسيٌ في منطق الشخصيّة، يصل إلى تفضيله على الواقع في موقف نكوصي. وفي نفس الصفحة التي يتمنى فيها أحمد علي أن يقدر على مواجهة العالم بدون ابن خالته، يستدعي الحوارات التي دارت بينه وبين الشخصية المثقفة الأخرى في الرواية، شخصية د. رافي "والده الروحي" الذي نصحه في البداية باتباع الموضة السائدة في الكتابة، أو "ركوب الترند"، بكتابة الرواية التاريخيّة، ثم اقترح عليه "العمل على مشروع إبداعي يدعمه أحد محاور تسامي فرويد"، الذي كان يعني في الواقع، عمليًا، وهب زوجته طواعية لصديقه الغني ياسر الغنّام، بعدما يتوقف عن ممارسة الجنس معها لفترة من الوقت. نرى هنا أن الوجه الآخر المشوّه للتسامي (الكتابة بديلاً عن الجنس) هو اختيار اللا فعل، أو الانحراف به إلى مواضع أخرى. التسامي هنا تعبير آخر للعِنّة التي تبدو كاستعارة للانسحاب من الواقع وما يتيحه من مُتَع وتواصل مع الآخرين.

يقول مؤلف رواية ميكانو إن "اللجوء إلى الخيال الأدبي أو بمعنى أشمل 'التسامي' هو محاولة للاندماج في مرجعية البشرية ككل، اندماج يجعل خلايا المبدع البيولوجية متحولة إلى خلايا روحيّة وفكريّة يسهم بها في تنمية البشريّة، لكن هذا لا يأتي بعزلة أو انحسار أو التخلي عن الحياة مع الآخرين، بقدر ما يجلب فيضًا من الحب للحياة والآخرين، فيض الحب هذا يجعله يبحث عن اندماج أكثر، حتى لو كان في منزله وحيدًا مثل أبي العلاء المعري، وذلك من خلال تقديم لغته، ليصبح هو صانع أوراق لعب للبشرية، سوف يراها آخرون ويتبادلونها، أي أنه من يدفع اللعبة لمزيد من التطور".

تثير الرواية مفارقة دالة، فالدكتور رافي، الأستاذ في كلية الآداب، يُطرد من الجامعة بسبب تحرشه الجنسي بإحدى الطالبات. الناصح بالتسامي عن الغريزة يفعل عكس ما ينصح به، وبشكل عاجز ومُخزي. المثقف في هذا العالم الروائي علاقته مشوهة بالجنس كما هي بالحياة: إما أن يمتنع عنه أو يقوم بالتحرش. إنّه لا يقوم بـ "فعل" جنسي فعّال ومكتمل وفي سياقه، وهذا له دلالته الأوسع داخل إطار الرواية بعدم القدرة على الفعل عمومًا. قرب نهاية الرواية يقول أحمد علي "رافقني الخوف كظل والعجز كرفيق، أرجو إلحاقي بمحفوظ؛ لأني لا أملك الشجاعة لتنفيذ ذلك". عدم شجاعته في "فعل" الانتحار كي ينهي حياته، تجعله ينفذه بطريقة ملتبسة وكأنها غير مقصودة مثل كل أفعاله المشوهة في الرواية.

ما يعرفه أحمد علي

علي قطب يقرأ من روايته

تتطور الأحداث وتظهر شخصيات جديدة، ونقابل نموذجًا ثالثًا في الرواية يحاول التمسح في الثقافة والظهور إلى من أمامه كمثقف وفق الصورة الدارجة في الوعي الجمعي، هي شخصية سعد، معاون الشيخ خالد، التي تدفع الظروف أحمد علي للتقاطع معه. يدور حوار سينمائي بين الشخصيتين، يشير فيه سعد إلى أن مشاكل 90% من الناس سببها "الحقبة الزمنية".

تمثل تلك الشخصيّة قطاعًا معتبرًا في مجتمعنا: تحاول الحصول على وجاهة الثقافة وتربطها بالعمق والمكانة، وفي النهاية تنتج خطابًا يعيد تدوير الكليشيهات والمحفوظات في شكل ساذج ومثير للسخرية، خطابًا سمعيًا حصّلته من البرامج التلفزيونيّة والأحاديث الرسمية وبعض ذكريات نصوص المدرسة. هذا النوع من الشخصيات يدرك جيدًا هشاشة موقع الثقافة ولا يتمادى معها، يأخذ منها صورة العمق والحكمة فقط دون أي تكريس حقيقي لتطبيقها أو تحليلها أو الاشتباك فعليًا معها.

يرى علي قطب أن الثقافة باعتبارها معرفة، فإنها تمنح صاحبها سلطة ما، لذا يبدو "ادعاء الثقافة نوع من البحث عن سلطة ضمن السياق الاجتماعي، ولهذا الادعاء مظاهر كثيرة منها أن تتحول الأفكار والعمق الجمالي والإبداعي إلى شظايا كلام، فنجد من يدلل بمقولات لمبدعين لا يعرف عنهم شيء إلا من خلال مجموعة من الاقتباسات المنسوبة إليهم، بالإضافة إلى ذلك فإن في الفترة السابقة حدث تفريغ ثقافي كامل إلا من خلال مجهودات شخصية من قبل مبدعين حاولوا سد هذه التفريغ بدرجة ما، والنظام المجتمعي في التربية والتعليم من قبل الأسرة والمدرسة من أهم أسباب حدوث هذا التفريغ الثقافي بالأساس. أما تأثير ذلك فأنه إذا تمكن مدعي الثقافة من حجز مكان له داخل المنظومة الثقافية فإنه يقوم بقطيعة حقيقيّة مقصودة وممنهجة مع تاريخ المعرفة، ويظهر ذلك بوضوح في خواء الأعمال الدراميّة من أي مضامين فكرية حقيقية، ويكون رد فعل ذلك تحميلها بإحالات ثقافية زائدة".

يدخل أحمد علي في موجة من التوهة بسبب عدم إدراكه لأساس معضلته، فيلجأ إلى الخيال للخروج منها "أتمنى العودة إلى نقطة الصفر، حين يقترح رافي الفكرة فلا أوافق عليها وأعود لأنام جوار زوجتي، (...) تسير الأمور على نحوٍ هادئٍ بعد هجراني للكتابة".

ختام المقطع يثير سؤالاً مهمًا: هل الرهان على الكتابة رهان أحمق، بل ومميت، يدفع صاحبه للانتحار؟ بمعنى آخر هل الرهان الحقيقي على "الثقافة" قرار انتحاري؟

يقول علي قطب إن "إجابة هذا السؤال تتوقف على إجابة سؤال آخر حول ما يريده المبدع في الحياة، فكل شخص يبحث عن شيء إذا وجد فيه ما يرضيه فالرهان لن يكون أحمق، وإن كان المبدع بطابعه متمردًا حتى على نفسه وعلى كتاباته والتاريخ يحكي عن أدباء أحرقوا أعمالهم أو لم ينشروا أوراقهم".

في رواية كل ما أعرف، يقول أحمد علي متحدثًا عن نفسه "أخبره أن الشخص الذي أمامه ميت بالفعل، خانه أقرب الناس له، ضاعت تجربته، راحت روايته التي بذل فيها مجهودًا لا يوصف وضحَّى قربانًا لها بعلاقاته المقربة، أستطرد، أنا شخصٌ مُنْتهٍ، ما أقدمت عليه كان أكبر مني وأعمق من استيعابي، لم يعُد لروايتي وجود وقد نلت الألم بلا مقابل".

تشير الرواية ليس فقط إلى موقع الثقافة الملتبس والانتحاري في مجتمعاتنا، لكن أيضًا مسافتها من الواقع. خطأ الكاتب والمثقف أحمد علي ليس في رهانه على الثقافة والكتابة، بل لكونه قد فصلهما عن الواقع: اعتباره الواقع أو الحياة في مكان والثقافة في مكان آخر، أي لعبه بنفس قواعد لعبة المجتمع الخادعة، ورهانه عليها بأقصى صورة لها، فأصبحت علاقته بالواقع والكتابة كلتاهما مُشوهة ومُنحرفة ودافعة للانتحار. وللأسف هذا كل ما يعرفه.