يبشرنا مسح سوق العمل لسنة 2023، الذي صدر هذا الأسبوع، بأن معدل البطالة في مصر انخفض العام الماضي إلى 6.3%، وهو نصف معدلها تقريبًا قبل نحو ربع قرن. لكن الباحثين الذين شاركوا في إعداد هذا المسح لا ينسبون الفضل في ذلك إلى تحسن الاقتصاد، بقدر ما يفسرونه بتغير تركيبة السكان وعزوف الكثيرين عن البحث عن عمل.
فحسب نتائج المسح، خلَّف جيل مواليد الثمانينيات والتسعينيات، الذي كان يخلق طلبًا ضاغطًا على العمل، أعدادًا أقل في سن العشرينيات، ما قلل الطلب على الوظائف حاليًا. لكن ميل الآباء في بدايات الألفية للإنجاب أكثر سيجلب لنا طفرة شباب جديدة بعد سنوات، ما سيعيد تحدي البطالة إلى الواجهة مجددًا.
على الجانب الآخر والأهم، فإن الوظائف التي توفرها سوق العمل الحالية أقل جودة ولكن تضطر لقبولها الفئات الهشة، خاصة من النساء، فالمرأة في 2023 باتت تتوجه أكثر نحو الوظائف غير الرسمية أو العمل المستقل وربما يئست وفقدت الرغبة تمامًا في العمل.
في هذا المقال نحلل نتائج مسح سوق العمل الأخير، الذي يصدر منذ 1998 بالتعاون بين الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء ومنتدى البحوث الاقتصادية، بالإضافة إلى تعليقات الباحثين عليه خلال مؤتمر إعلانه هذا الأسبوع.
ماذا حدث لجيل الثورة؟
يذهب طيف واسع من الدراسات إلى أن طفرة الشباب في مصر كانت سببًا رئيسيًا في ثورة يناير 2011. والمقصود بطفرة الشباب هنا ارتفاع نسبتهم بين إجمالي فئات المجتمع، خاصة ممن يقعون بين سن 15-29 سنة ومثلوا نحو ثلث السكان خلال العقد الأول من الألفية. هذه الفئة عادة ما تواجه صعوبات في الالتحاق بالوظائف أكثر ممن يتمتعون بسنوات من الخبرة، لذلك فإن زيادة أعدادهم في اقتصاد غير كثيف التشغيل كانت تنذر بغضب شعبي واسع.
والسبب وراء هذه "الطفرة" هو أن جيل الثمانينيات كان ينجب بغزارة، أي بمعدل يتجاوز خمسة أطفال لكل امرأة، وفي الوقت نفسه كانت لدى مواليد هذه الحقبة فرصة أكبر للنجاة من وفيات المواليد بسبب انتشار التطعيمات وأشكال الحماية المختلفة، ما جعل هذا الجيل يسيطر على المشهد السياسي عندما اشتد عودهم إبان الثورة.
تغيّر هذا المشهد في الوقت الراهن. فمن جهة؛ بلغ أبناء هذا الجيل نهاية الثلاثينات من أعمارهم، ما حسَّن فرصهم في الالتحاق بوظائف أفضل بفضل خبرتهم الطويلة في سوق العمل. ومن جهة أخرى؛ ساهم انخفاض معدلات الإنجاب في الفترة من أواخر التسعينيات وحتى 2010 إلى نحو ثلاثة أطفال لكل امرأة، في خفض نسبة جيل الشباب الحالي من مجمل السكان ما قلل من ضغط الطلب على الوظائف.
"بعد فترة من الضغط الديموغرافي بسبب 'طفرة الشباب'، تشهد سوق العمل فترة راحة مؤقتة، إذ أصبحت ذروة الطفرة الشبابية الآن في الفئة العمرية بين 35 و39 عامًا"، كما تقول إحدى الدراسات المعلّقة على نتائج المسح، التي عُرضت في مؤتمر لمنتدى البحوث الاقتصادية.
المفارقة، أن ميل المصريين للإنجاب شهد زيادة خلال الفترة التالية لـ2010. صحيح أنها لم تصل إلى معدلات الثمانينيات، لكنها تظل أعلى من ذي قبل. هذه الزيادة لا نشعر بأثرها حاليًا لأن أبناءها لا يزالون في سن الصبا، لكن بمجرد أن يبلغوا سن الشباب سنشهد طلبات أكبر على التوظيف.
"يسمى الجيل الكبير، وهم أبناء جيل ذروة الشباب، بـ'الصدى'، وتتراوح أعمارهم حاليًا بين 5 و14 عامًا، سيصلون إلى سن العمل خلال العقد المقبل، مما سيؤدي إلى زيادة كبيرة في الداخلين الجدد إلى سوق العمل"، حسب إحدى الدراسات المُعلقة على المسح.
لذا توصي هذه الدراسات بعدم الاستكانة للنعمة الديموغرافية الحالية والعمل على إعادة هيكلة الاقتصاد لاستيعاب الداخلين الجدد.
انتهت طفرة الإنشاءات
في 2018، كانت التيمة الأساسية لمسح سوق العمل قدرة قطاع البناء والإنشاء على توفير العديد من الوظائف للحد من البطالة، لكنها وظائف رديئة إذ يقع أغلبها في الإطار غير الرسمي.
فيما يرصد مسح 2023 تراجع دور قطاع الإنشاءات في التوظيف، وهو أمر منطقي في ظل القيود التي فرضها صندوق النقد الدولي على استثمارات الدولة في هذا القطاع، بعد أن ظهرت مخاطرها على المالية العامة.
سمح تراجع زخم الإنشاءات ببروز دور قطاعات تقليدية مثل الصناعة والخدمات المالية، لكن ظهرت أيضًا قطاعات أخرى بشكل لافت مثل قطاع المرافق العامة، وهو ما تشرحه دراسة في تعليق على نتائج المسح بأنها وظائف تتعلق بإنتاج الكهرباء وإعادة تدوير المخلفات، وتأتي ضمن سياسة الدولة نحو التحول الأخضر.
تلاحظ الدراسة أن النقل كان أيضًا من بين القطاعات التي تنامت فيها الوظائف، وازدادت رغبة العمل فيها بشكل مستقل. لا تدخل الدراسة في تفاصيل الوظائف في كل قطاع، لكن العديد من الشواهد تؤكد تنامي التوجه نحو العمل الحر في مجالات مثل قيادة السيارات التشاركية، لتعويض نقص فرص العمل في المجالات البديلة.
هذا التحسن في التشغيل كان من الممكن أن يزيد في حال طبقت الدولة بعض الإصلاحات التي توصي بها الدراسة، ومنها دعم المشروعات الصغيرة باعتبارها من أبرز القطاعات القادرة على التشغيل، كما تحذر الدراسة ذاتها من التراجع الواضح في نمو وظائف التعليم نظرًا لأهميته في توفير العمل.
الدراسة تشير أيضًا لأهمية حماية الحقوق في العمل، إذ تبدو مسألة جودة العمل أكثر أهمية عندما يتعلق الأمر بعمل النساء، مع ما تعكسه البيانات من هشاشة تلك الفئة أمام ظروف العمل الحالية.
لماذا يرفضن البحث عن عمل؟
في 2012، كان 14% من النساء يعملن في وظائف غير رسمية، أي بلا حماية، ارتفعت هذه النسبة إلى 20% في 2018 واستقرت عند المعدل نفسه في 2023.
يعزى عدم التقدم في حماية النساء من العمل غير الرسمي إلى عوامل عدة منها تآكل الوظائف الحكومية، التي كانت ملاذًا لهن في توفير عمل لائق بشروط تراعي احتياجاتهن، إذ تراجعت نسبة المشتغلات في هذا القطاع خلال الفترة نفسها من 51% إلى 38%.
خارج الحكومة، يبدو القطاع الخاص أكثر قسوةً، إذ توضح آخر دراسة مشار إليها إلى أن "هناك حاجة إلى مبادرات موجهة لدعم قدرة النساء المتزوجات على الاستمرار في العمل في القطاع الخاص بعد الزواج والإنجاب، مثل توفير مرافق رعاية الأطفال، وترتيبات العمل المرنة، وإتاحة فرص العمل عن بُعد".
أمام هذه الضغوط، يبدو منطقيًا اتجاه العديد من النساء إلى أن يعملن بشكل حر، إذ ارتفعت هذه النسبة خلال الفترة نفسها من 10% - 18%.
وبينما يعاني الرجال في 2023 من معدلات أعلى من اللارسمية مقارنة بالنساء، بلغت نسبتها 36%، فإنها تقل بنسبة 11% عن مستوى اللارسمية في 2018، لذا تعلق الدراسة بأن النساء لم يستفدن من تحسن ظروف سوق العمل التي شهدها نظراؤهن من الرجال.
ولا تقل أهمية نسبة من عزفوا عن البحث عن عمل، والتي تبدو مرتفعة للغاية في حالة النساء، كما يتضح من نتائج المسح، التي تُظهر تراجع نسب المشاركة في قوة العمل، أي عدم رغبة المواطنين من كلا الجنسين في البحث عن وظيفة، لكن الأمر يبدو أسوأ في حالة النساء.
تؤكد ذلك واحدة من الدراسات "بالنسبة للنساء، فقد كانت معدلات المشاركة منخفضة بالفعل عند 23% في 2012، لكنها انخفضت أكثر في عام 2023 لتصل إلى 18%. وكان الانخفاض أكثر حدةً بالنسبة للنساء المتعلمات، اللاتي يواجهن تزايدًا في التحديات المتعلقة بالانخراط في سوق العمل".
لا يرجع هذا العزوف إلى أن النساء تنقصهن مهارات للعمل، فنسبة الحاصلات على مؤهلات جامعية في نتائج المسح على سبيل المثال 21% وهي قريبة من نسبة الرجال التي تبلغ 25%، ولكن هناك العديد من العوامل المؤدية إلى ذلك، من أهمها الإحباط من أن ظروف العمل لا تراعي على وجه خاص احتياجاتهن الخاصة بتربية الأطفال على وجه التحديد.
باختصار، تذهب الدراسات المعلقة على المسح إلى أن التحسن الظاهر في مؤشر البطالة يرجع لسببين رئيسيين؛ الانخفاض المؤقت في الطلب على العمل، وتزامنه مع خروج الكثيرين من قوة العمل، لذا تحذرنا الدراسات من أن هذا الوضع لن يدوم، وعلينا أن نطبق المزيد من الإصلاحات لزيادة قدرتنا على تشغيل أجيال العاملين والاستفادة من طاقاتهم المهدرة.