بعد أربع سنوات من خطاب حكومي برَّر الإجراءات التي تحد من فرص إصدار تراخيص البناء في المدن القديمة، تفاجأ العاملون في نشاط المقاولات بسماح الحكومة في سبتمبر/أيلول الماضي بتيسير تراخيص هذا النشاط، ما أرجعه مصدر في وزارة الإسكان لقلق الحكومة من تباطؤ القطاع العقاري بعد الحد من استثمارات الدولة في هذا المجال.
وحسب مسؤولي وزارة الإسكان، فمن المتوقع أن تشهد أنشطة البناء في الأحياء القديمة نشاطًا محمومًا خلال الأشهر المقبلة، بعدما سيطرت المدن الجديدة على المشهد خلال السنوات الماضية، بينما يترقب العاملون في القطاع مزيدً من التيسير من خلال تعديل قانون البناء الموحد.
ماذا جرى لشروط البناء؟
يتلخص التطور الأخير في مسألة تراخيص البناء في إلغاء اشترطات البناء الجديدة التي صدرت في مارس/آذار 2021، بعد عام تقريبًا من خطاب للرئيس عبر فيه عن انزعاجه من البناء العشوائي المخالف للقانون.
كانت الاشتراطات تحظر البناء في المناطق كثيفة السكان، التي عادة ما تكون من الأحياء القديمة، وجزئيًا في المناطق متوسطة الكثافة، لكن مع إلغائها نعود للعمل بلائحة قانون البناء، 119 لسنة 2008، التي تنطوي على شروط أكثر تيسيرًا.
سبق قرار وزارة الإسكان بإلغاء شروط 2021 تطورات مهمة، إذ خرجت وزارة التنمية المحلية، وهي شريكة للإسكان في الرقابة على نشاط البناء ببيان في أغسطس/آب يبشر المواطنين بتيسيرات تختصر إجراءات الترخيص من 15 إجراءً إلى 8 فقط، وبعدها بأيام قليلة أيضًا أعلنت وزارة الإسكان أيضًا عن إلغاء القرار رقم 410 لسنة 2021، الذي كان يشترط تقديم عقد مشهر ضمن المستندات المطلوبة لاستخراج بيان صلاحية الموقع أو استخراج الترخيص والاكتفاء بتقديم أيٍ من المستندات الدالة على الملكية.
لماذا سمحت الدولة بالبناء في المناطق القديمة؟
روج الخطاب الحكومي لقرار التضييق على منح تراخيص البناء من منطلق مساهمتها في الحد من مظاهر البناء العشوائي، وهي بجانب تشددها في إصدار التراخيص الجديدة، كانت أيضًا تحدد ارتفاعات المباني بدور أرضي وأربعة أدوار، والبناء على 70% فقط من الأرض التي تزيد مساحتها على 175 مترًا، وتلزم ببناء جراج في العمارة، وهي جميعها شروط كانت تعزز من حق المواطنين في مساحات أكثر رحابة وفي الوقت نفسه تحد من استفادة ملّاك العمارات من الأصول العقارية التي يحوزونها.
لكن مع تباطؤ حركة البناء بسبب هذه الشروط، تحول الخطاب الحكومي للنقيض وبدأ في الترويج لمزايا التيسير، التي من أهمها إنعاش حركة البناء لتوفير فرص العمل، حتى وإن كان على حساب زيادة ارتفاعات المباني، أو البناء على كامل الأرض.
"الهدف من عودة العمل بقانون البناء الموحد هو تنشيط قطاع التشييد بصورة أكبر خاصة مع تراجع الإنفاق الحكومي على المشروعات العمرانية بسبب الأزمة الاقتصادية التي واجهتها مصر فى الفترة الأخيرة"، كما يقول مصدر مطلع في قطاع التشريع بوزارة الإسكان لـ المنصة.
كانت استثمارات هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة انخفضت بشكل حاد خلال العام المالي الجاري 2024/2025، نتيجة وضع سقف على إجمالي الاستثمارات العامة فلا تتجاوز تريليون جنيه، استجابة لتوصيات صندوق النقد الدولي الذي أبدى قلقه من الإنفاق المتسارع على المشروعات القومية.
وقال المصدر بوزارة الإسكان، الذي طلب عدم نشر اسمه، إن الدولة تهدف لتنشيط سوق المقاولات وصناعة مواد البناء، الذي يتضمن عشرات الحرف والمهن والمنتجات، معظمها يتم تصنيعه محليًا "عودة البناء مرة أخرى تعيد الحيوية لهذه الصناعات وتدفع في زيادة الإنتاج لها وتساهم في تشغيل عشرات المهن المرتبطة بقطاع التشييد والبناء".
وحسب بيانات وزارة التخطيط، فقد تباطأ نمو قطاع الإنشاءات، خلال السنوات الخمس الأخيرة، التي شهدت أزمتي كوفيد وشح الدولار، بعد انتعاش قوي خلال السنوات الخمس السابقة عليها.
ويؤكد رئيس شعبة الإسمنت باتحاد الصناعات، أحمد شيرين، على التداعيات الواسعة لعرقلة تراخيص البناء خلال السنوات السابقة، التي انعكست بشكل واضح على مبيعات مواد البناء، يقول لـ المنصة "مصانع الإسمنت لديها القدرة على إنتاج 90 مليون طن سنويًا لكنها كانت تنتج 60 مليون طن فقط خلال الفترة الأخيرة وربع هذا الإنتاج موجَّه للتصدير".
وتعرضت المشروعات القومية الكبرى لانتقادات واسعة بسبب انعكاس تكلفتها على الدين الخارجي للبلاد، الذي نما بقوة خلال العقد الأخير ليتجاوز 165 مليار دولار في 2022/2023 قبل أن يتراجع لاحقًا بنحو 10 مليارات دولار بدعم من صفقة رأس الحكمة.
موجة جديدة من التراخيص
"قبل تطبيق اشتراطات 2021 كان متوسط تراخيص البناء الشهرية، بدون المدن الجديدة، نحو 15 ألف شهريًا على مستوى مصر، ونتوقع عودته لمعدلاته الطبيعية خلال الفترة المقبلة"، حسب حداد سعيد، رئيس جهاز التفتيش الفني على المباني بوزارة الإسكان، لـ المنصة.
اشتراطات عام 2021 ساهمت في خفض أعداد تراخيص البناء لأقل من 30% من معدلاتها الطبيعية، وهو ما يؤكده سعيد، ويضيف "و في بعض الأحيان كان ينخفض عدد التراخيص شهريًا إلى ألف ترخيص فقط".
يعتقد سعيد أنه من الصعب توفير بيانات عن أثر تيسير تراخيص البناء في الوقت الراهن، لعدم مرور أكثر من شهرين على القرار، كما أن وزارة الإسكان ترصد أعداد التراخيص لفترات تتراوح بين ثلاثة إلى ستة أشهر، ومع ذلك يرى أن المؤشرات الأولية تشير لانتعاشة قوية في حركة البناء حاليًا.
ويتوقع مراقبون أن يسهم تيسير استخراج تراخيص البناء في خفض أسعار العقارات بسبب زيادة المعروض، لكن محمد سراج، مطور عقاري، يقول إنه من منطلق مشاهداته في نطاق عمله في محافظتي المنصورة وبورسعيد، فقد زادت الأسعار في بعض الحالات بنحو 10% "تزيد فرص ارتفاع السعر في مناطق الكثافة المرتفعة نظرًا لندرة الأراضي في هذه المناطق وقوة الطلب عليها" يقول سراج لـ المنصة.
وتظهر بيانات موقع عقار ماب، المتخصص في الترويج للعقارات وأراضي البناء، قوة الطلب على بعض المناطق عالية الكثافة، حيث يرتفع سعر المتر للأراضي في الدلتا وبعض مدن الصعيد الرئيسية، مثل سوهاج وأسيوط وأسوان، عن سعر المتر في مناطق بالقاهرة الجديدة والعاصمة الإدارية وأكتوبر.
مطالب بالمزيد من التيسيرات
لا يقتصر الأمر على إلغاء التعديلات المتشددة، لكن أعدت وزارة الإسكان تعديلات إضافية على لائحة قانون البناء بهدف زيادة تيسير حركة البناء، كما يؤكد سعيد، مشيرًا إلى أنه من ضمن التعديلات التي لا تزال تحت الدراسة هي السماح بزيادة الارتفاعات في بعض المناطق التي تحتاج لتوسعات ولا تمتلك ظهيرًا صحراويًا، أو مساحات تسمح بالتوسع الرأسي للمباني مثل بعض مناطق ومدن الدلتا، بهدف توفير المساكن بشكل أكبر.
فيما يأمل شيرين رئيس شعبة الإسمنت أن يسهم تيسير استخراج تراخيص البناء في إنعاش القطاع العقاري والقطاعات المرتبطة به، لكنه يحذر في الوقت نفسه من الاندفاع نحو تيسير التراخيص بقوة تُعيد مظاهر البناء العشوائي المخالف لأحكام القانون التي كانت تعديلات 2021 تهدف للحد منها.