منشور
الأحد 11 أغسطس 2024
- آخر تحديث
الأحد 11 أغسطس 2024
رثى أمير الشعراء أحمد شوقي، شاعر النيل حافظ إبراهيم، بقصيدة مطلعها: قد كنت أوثر أن تقول رثائي.. يا منصف الموتى من الأحياءِ.
امتدح شوقي، حافظ، بأنه يُنصف الموتى من الأحياء، أي يدافع عمَّن غابوا في مواجهة الحضور، علامةً على الشجاعة والصدق.
بالحديث عن الموت والموتى، حلَّت في الخامس من الشهر الحالي الذكرى الثالثة لوفاة المهندس حسب الله الكفراوي وزير التعمير والإسكان الأسبق، الذي رحل عن عمر ناهز التسعين، بعد مسيرة مهنية حافلة وبالغة التأثير.
شغل الكفراوي منصب محافظ دمياط في 1976، في ظل رئاسة أنور السادات، ثم أصبح وزيرًا للتعمير في 1977، وهو منصب شديد الأهمية وقتها لأنه ارتبط بملف إعادة إعمار مدن القناة بعد انتهاء حرب أكتوبر، وإعادة النازحين إليها مع استئناف عمل القناة في 1975.
يتميز الكفراوي عن غيره ليس فقط بطول المدة التي شغل فيها منصبه الوزاري من 1977 إلى 1993، بل أيضًا لأنه بقي فيه مع تغير القيادة السياسية من السادات إلى مبارك، ليتعاقب عليه ستة رؤساء وزارة.
على أن أهمية الكفراوي لا ترجع فحسب لنجاحه في الاحتفاظ بالمنصب لسنوات طويلة، بل للبصمة التي تركها في نموذج التنمية العقارية في مصر، واستمرت بصيغتها الأساسية إلى يومنا هذا، وإن كانت بصورة أشد عمقًا وأكثر اتساعًا.
الأرض أصبحت سلعة
يُذكر للكفراوي ما عُرف عنه من نظافة اليد والأمانة والنزاهة، وهي كلها صحيحة بل واستثنائية إذا قُورن ببعض خلفائه مثل محمد إبراهيم سليمان، الذي سدد مليارًا و315 مليون جنيه للتصالح وتجنب السجن بعد إدانته في 2021 بالفساد، وأحمد المغربي الذي واجه أيضًا قضيةً مشابهةً أُدين فيها أولًا قبل أن ينال البراءة.
الأمانة والنزاهة لا تكفيان لفهم تركة الكفراوي التي كان أثرها في مجمله بالغ السوء
أما الكفراوي فقد كان رجلًا فذًا بحق، لأن عصره، وبسبب سياساته، شهد تسليعًا غير مسبوق لأراضي الدولة، تزامن مع استثمارات كبرى في مناطق مثل الساحل الشمالي والمدن الجديدة التي بدأت في عهده. ورغم أن هذه الفرص كانت ولا شك تمثل منفذًا للتكسب من المنصب العام، فقد خرج من الوزارة بعد سنوات خدمته الطويلة مُحافظًا على ذمته ونزاهته، ما جعل عامة الناس بعد ثورة يناير يعتبرونه مؤمن آل فرعون الذي لم يقع في غواية الفساد.
لكن الأمانة والنزاهة لا تكفيان لفهم تركة الكفراوي، التي كان أثرها بالغ السوء على كثير من الملفات الاقتصادية والاجتماعية.
يستتبع تنفيذ تصور بناء مدن جديدة في الصحراء ضخ استثمارات عامة بالغة الضخامة، إذ إننا نؤسس لمدن كاملة من الصفر، والهدف من هذا النمط المكلف من العمران كان جذب السكان من الوادي والدلتا إلى مجتمعات حضرية جديدة بعيدًا عن زحام وتلوث المدن التقليدية، وبأسعار تناسب الطبقات الوسطى.
ينسب هذا التصور بشكل أساسي للكفراوي، الذي شهد التخطيط ووضع حجر الأساس للجيل الأول من المدن الصحراوية، لذا جاءت أسماء هذه المدن محملة بدلالات تعود لعصر السادات، مثل 6 أكتوبر والعاشر من رمضان و15 مايو، ثم مدينة "السادات" بالطبع.
أكثر النتائج الصادمة عن مخرجات هذا التصور كانت فشل العديد من تلك المدن في جذب السكان، ففي 2014 أي بعد ما يزيد عن ربع قرن، كان لدى مصر 24 مدينة نسب إشغالها لا تتجاوز 10%.
وطبقًا لتقرير للمركز المصري للفكر والدراسات الاستراتيجية في 2024، فإن نسبة السكان في المدن الجديدة لا تزيد على 8% من إجمالي المستهدف، علمًا بأن المدن القريبة من القاهرة كالقاهرة الجديدة والسادس من أكتوبر كانت أنجح نسبيًا في جذب السكان، ولذلك فإن النسبة المتدنية هي متوسط يعود على كافة المدن الجديدة المتناثرة في صحراوات مصر الشرقية والغربية.
محاولة لتفسير الفشل
أحد أسباب فشل المدن الجديدة في اجتذاب عدد كبير من السكان، رغم ضخامة الاستثمارات التي وضعت فيها، يعود إلى التسليع الكبير الذي حدث للأراضي الصحراوية، والذي أدى في الكثير من الأحيان إلى رفع أسعار الأراضي الصحراوية عن نظيراتها في المدن القديمة في الوادي والدلتا، خاصة القاهرة، بما يناقض الهدف الأصلي لإنشائها.
قد تعود الارتفاعات الكبيرة في أسعار الأراضي الصحراوية إلى مرحلة أحمد المغربي، التي شهدت دخولًا كبيرًا لرأس المال الخاص إلى مجال التنمية العقارية، مع بدء اتجاه الدولة إلى التعامل مع مخزون الأراضي لديها من منطق استثماري. لكن رغم ذلك سيكون صعبًا أن ننسب التسليع للمغربي وحده، فقد ساهم الكفراوي أيضًا منذ السبعينيات في وضع الإطار التنظيمي لعملية التسليع تلك.
كان النموذج الذي أرساه الكفراوي هو بداية الخلط الشديد بين دور الدولة كمخطط لاستخدامات الأراضي من جهة، وكمستثمر ومطور من جهة أخرى. فلا ننسى أن تحويل الساحل الشمالي إلى قرى ساحلية مهجورة أغلب السنة يرجع تمامًا لعهد الكفراوي، الذي شهد إرساء "مراقيا"، أول نموذج لتسليع "الساحل".
كما أشرف الكفراوي على بيع مئات الكيلومترات المربعة لفاعلين مثل النقابات المهنية ونوادي هيئات التدريس وجهات أخرى في الدولة، لتوفير شاليهات ومنازل ساحلية لأعضائها، وهي الأراضي التي تحولت فيما بعد لأصل مرتفع السعر ومادة غنية للمتاجرة.
ولا يغيب عنا أن استثمارًا ضخمًا مثل مارينا على سبيل المثال ظل مملوكًا لهيئة المجتمعات العمرانية، قبل أن ينتقل نفس الاستخدام العقيم وغير التنموي للشواطئ إلى الشركات الخاصة في مناطق ما يُعرف بالساحل الشرير، مثل سيدي عبد الرحمن وسيدي حنيش.
كذلك يمكن القول عامة إن الأطر الأوسع للتنمية العمرانية والعقارية في مصر أرسيت في عهد الكفراوي مع صدور قانون هيئة المجتمعات في 1979 وقانون استخدام الأراضي الصحراوية في 1981، وكذلك الإطار المؤسسي العام القائم على تحويل الدولة إلى مطور عقاري من خلال شركات القطاع العام أولًا، ثم إلى مستثمر فمضارب على قيمة الأراضي الصحراوية فيما بعد، مع ولوج رؤوس الأموال الخاصة، وأخيرًا الخليجية، لتحل محل القطاع العام.
قد تفشل جهود التنمية لسوء الخيارات مهما اتسم المسؤولون بالأمانة والنزاهة، كما يُشهد عن حق للمرحوم، إذا تم تبني سياسات وقوانين ومؤسسات وضعت استخدام الموارد على طريق خطأ، وكما يبدو من الحالة المصرية، فإنه من الصعب للغاية إعادة رسم المسار، ومن هنا كان الطريق إلى جهنم معبدًا بالنوايا الحسنة.