المصدر: صفحة مجلس الوزراء على فيسبوك
مشروعات الدولة في منطقة الأعمال المركزية بالعاصمة الإدارية الجديدة، 2024.

الربح على حساب الدور الاجتماعي.. تسليع الدولة للأرض والسكن

منشور الأربعاء 14 فبراير 2024

في 2014 فتحت وزارة الإسكان باب الحجز لوحدات مشروع الإسكان الاجتماعي، المليون وحدة، الذي جدد أحلام الملايين بالحصول على شقة في المتناول، في ظل تضخم مزمن بأسعار العقارات يحول دون وصولهم لمسكن مناسب لدخولهم.

لكن تقريرًا صدر عن مرصد العمران، الشهر الماضي، قدَّر أن 21% من الوحدات السكنية التي تبنيها الدولة هادفة للربح، وهو ما يمثل تحولًا كبيرًا في سياساتها قبل تسع سنوات، التي كان يهيمن عليها الإسكان الاجتماعي.

لا يقتصر الأمر على السعر النهائي للوحدات السكنية، لكنّ حمى التسليع تمتد إلى الأراضي المطروحة من هيئة المجتمعات العمرانية، التي نما سعر المتر السكني فيها نحو 300% خلال عشر سنوات، حسب خبراء عقاريين. 

ويرى مستثمرون في القطاع العقاري، تحدثت إليهم المنصة، أن سياسات هيئة المجتمعات العمرانية في تسعير الأراضي والشقق السكنية مالت بقوة نحو التسليع خلال السنوات الأخيرة.

 في المقابل، يقول مسؤولون حكوميون إن الارتفاعات المتوالية في أسعار منتجات الهيئة العقارية كانت رد فعل طبيعيًا لزيادة التضخم في مواد البناء، والاحتياج القوي للموارد المالية، خاصة من النقد الأجنبي.

وتكتسب سياسات الهيئة أهميتها من ضخامة عدد المدن السكنية التي تقع تحت إدارتها، إلى جانب الأراضي السياحية.

تسعير الدولة للأراضي 

"تجاوز معدل النمو في أسعار الأراضي المطروحة للسكن من هيئة المجتمعات العمرانية نسبة 300%، خلال السنوات العشر الأخيرة، وبلغ 1000% في حالات الأراضي المميزة للنشاط التجاري والإداري ببعض المدن، على رأسها القاهرة الجديدة والشيخ زايد"، كما يقول الرئيس التنفيذي لشركة "The Board Consulting" للأبحاث العقارية، أحمد زكي، لـ المنصة.

ويشير زكي إلى أن معدلات الزيادة تلك تتجاوز النسب الطبيعية، التي عادة ما تدور حول 10-15% في السنة، و كذلك إلى غياب ما يبررها، خاصة وأننا لا نعاني ندرة الأراضي كما هو الحال في مدينة مثل دبي.

"تتراوح تكلفة توصيل المرافق للمتر السكني علي سبيل المثال بين 1000 و2000 جنيه تقريبًا، وهي التكلفة الوحيدة التي تتحملها الدولة. لذا لا يوجد مبرر لرفع سعر المتر ليصل إلى 50 و60 ألف جنيه في بعض الحالات، لأن الأرض في النهاية ملك كافة المواطنين"، كما يقول عضو لجنة الاستثمار العقاري باتحاد الغرف التجارية، داكر عبد اللاه، لـ المنصة.

ويضيف عبد اللاه أنه من المفترض أن تبيع الجهات التابعة للدولة الأراضي بهدف "توفير سكن جيد للمواطنين دون أعباء، لذا فإن رفع الأسعار المستمر لا يخدم أهداف التنمية".

وتساهم زيادة أسعار أراضي هيئة المجتمعات العمرانية في رفع أسعار الوحدات السكنية للقطاع الخاص المنشأة عليها، حيث "تمثل الأرض ما يتراوح من 40% إلى 50% من التكلفة الإجمالية للمشروع العقاري في الوقت الراهن"، كما يقول رئيس لجنة التشييد بجمعية رجال الأعمال، فتح الله فوزي، لـ المنصة.

نماذج لأسعار الأراضي المطروحة من هيئة المجتمعات العمرانية في فترات مختلفة
المنطقة وتاريخ الطرح سعر المتر
سعر المتر تجاري بالشيخ زايد في 2016 لإحدى القطع المميزة  6150 جنيهًا
 السعر للمتر التجاري في الشيخ زايد نهاية 2021  61695 جنيهًا
 سعر المتر السكني في مشروع بالشيخ زايد سنة 2018 2300 جنيه
سعر المتر السكني في مشروع بالشيخ زايد عام 2022  8555 جنيهًا

مساكن الدولة الفاخرة

لكن حتى على صعيد المشروعات السكنية المقامة على أراضٍ مملوكة للدولة، ظهر اتجاه التسليع بقوة خلال السنوات الأخيرة، فأطلقت الدولة أول مشروعاتها للإسكان المتوسط "دار مصر" في 2014، تحت إدارة هيئة المجتمعات العمرانية، لكن متوسط سعر الوحدات في هذه المشروعات وصل مؤخرًا إلى نحو 1.7 مليون جنيه، قبل الفوائد.

كما أسست هيئة المجتمعات العمرانية في 2018، شركة سيتي إيدج للتطوير والتسويق العقاري، التي ركزت نشاطها على العقارات الفاخرة، بحيث وصلت أسعار وحداتها إلى 5 ملايين جنيه.

وتمثل هذه الأسعار مستويات مرتفعة بالنسبة لدخل أسر الطبقة الوسطى، التي قدر البنك المركزي، في 2021، أنها تتمتع بدخل لا يتجاوز 14 ألف جنيه شهريًا.

ويقول عضو في شعبة الاستثمار العقاري إن الدولة باتت تنافس القطاع الخاص في زيادة أسعار العقارات الفاخرة. 

ويوضح عضو شعبة الاستثمار، الذي طلب عدم نشر اسمه، "الدولة تبيع وحدات سكنية في العاصمة الجديدة بأسعار أغلى من بعض المطورين، وذلك رغم أنها لا تدفع مقابلًا لسعر الأرض ولا رسومًا، مثل استخراج القرار الوزاري للمشروع، الذي تصل تكلفته لعدة ملايين من الجنيهات".

ويشير مطور عقاري في منطقة غرب القاهرة، طلب عدم نشر اسمه، إلى أنه "بجانب زيادة الأسعار، وضعت هيئة المجتمعات بنودًا مجحفة للمواطن في عقود شقق الإسكان الاجتماعي. في آخر إعلان تجاوز سعر الشقة نصف مليون جنيه دون ملكية للأرض، مع تقييد التصرف في الوحدة، والتنفيذ والاستلام بعد 3 سنوات أو أكثر".

ويرى خبراء أنه لا يوجد ما يبرر اتجاه هيئة المجتمعات العمرانية نحو تسليع أراضيها ووحداتها السكنية في ظل ما تتمتع به من وفرة الموارد.

"تقود الدولة القطاع الخاص نحو تزايد مستمر في أسعار العقارات، رغم أن هيئة المجتمعات العمرانية تحقق فوائض مالية في كل عام"، كما يقول المطور العقاري لـ المنصة.

ووفقًا للحساب الختامي عن العام المالي 2022/2023 حققت هيئة المجتمعات العمرانية الجديدة فوائض مالية بقيمة 5.7 مليار جنيه، وُجهت للمشروعات القومية.

كيف تحدِّد الهيئة سعر الأرض؟

مثلت صفقة تخصيص أرض مدينتي واحدة من أشهر المعارك القانونية لهيئة المجتمعات العمرانية، حيث أبطل مجلس الدولة في 2010 قرار تخصيص الأراضي، بسبب تقديمه للمستثمر بالأمر المباشر وليس اتباعًا لقانون المناقصات والمزايدات، وهو ما اعتبره البعض محاباة للمستثمر لتوفير الأرض بسعر رخيص.

لكن منذ 2019، اتجهت هيئة المجتمعات العمرانية لطرح الكثير من الأراضي بنظام جديد وهو التخصيص الفوري، التي تقوم من خلاله بتسعير الأرض بشكل مسبق قبل الطرح.

ويشرح أحد رؤساء أجهزة المدن الجديدة بشرق القاهرة، أن هيئة المجتمعات العمرانية تحت هذا النظام باتت تتحكم في سعر الأرض المقدم للمستثمرين، وتعطي الأولوية للربح من تسعير الأراضي.

"تتحدد أسعار الأراضي تحت نظام التخصيص الفوري عن طريق لجان بالإدارة العقارية والتجارية في هيئة المجتمعات العمرانية. وغالبًا ما يجري التسعير على أساس مدى تميز موقع الأرض وجاذبية المدينة وليس على أساس سد الاحتياج أو تكلفة المرافق السيادية للأراضي أو تكلفة التنفيذ للوحدات".

ويوضح المسؤول، الذي طلب عدم نشر اسمه، "لأن الطلب أكبر على القاهرة الجديدة والشروق وزايد وأكتوبر ارتفعت أسعار وحدات الدولة المطروحة فيهم مقارنة بالمطروح في مناطق أخرى".

ويضيف عضو شعبة الاستثمار العقاري أن التسليع يمتد إلى سياسات تحديد كمية الأراضي المطروحة "الهيئة تدرس الطلبات المقدمة شهريًا على الأراضي للاستثمار بالمدن المختلفة، وتجد أن هناك 100 طلب مثلًا، فتطرح في الشهر التالي 50 قطعة فقط، ليظل هناك تسابق محموم بين المطورين".

اتجاه هيئة المجتمعات العمرانية مؤخرًا لبيع الأراضي المتميزة بالدولار دفع المطورين للسوق الموازية

ويشير المطور العقاري في منطقة غرب القاهرة إلى أن الهيئة اتجهت خلال السنوات الأخيرة إلى وضع شرط في العقود بإمكانية زيادة نسبة الوحدة بعد إبرام التعاقد، وهو نموذج حاول القطاع الخاص اتباعه خلال فترة تصاعد معدلات التضخم.

"الهيئة بدءًا من الإعلان العاشر للإسكان الاجتماعي في 2019، وضعت شرطًا في التعاقد بإمكانية زيادة سعر الوحدة 10% في حالة زيادة سعر مواد البناء"، كما يقول المطور.

ويضاف إلى الأساليب السابقة اتجاه هيئة المجتمعات العمرانية مؤخرًا لبيع الأراضي المتميزة بالدولار، ما دفع المطورين للتسابق على شراء العملة الصعبة من السوق الموازية، في ظل شح النقد الأجنبي في البنوك، وهي الظاهرة التي بات يطلق عليها خبراء العمران "دولرة الأرض".

"رغم ارتفاع الأسعار بالفعل في بعض المدن الجديدة، فالمشكلة الأبرز التي يواجهها المطورون في الوقت الراهن هي الاضطرار لدفع قيمة الأراضي بالدولار وليس الجنيه المصري، وهو ما وصل بسعر المتر في بعض الأراضي المطروحة إلى 60 ألف جنيه إذا حُسب بسعر صرف السوق الموازية"، كما يقول رئيس لجنة التشييد بجمعية رجال الأعمال، فتح الله فوزي.

الدور الأصلي للدولة 

ويوضح مؤسس مرصد العمران يحيى شوكت أن توسع هيئة المجتمعات في النشاط التجاري يأتي على حساب الأدوار الرئيسية التي تأسست من جهتها، تحت القانون 59 لسنة 1979، من أبرزها المساهمة في الحد من العشوائيات، والتوسع في البناء المنظم خارج المناطق المزدحمة بالمحافظات.

"رغم وجود مساحات غير محدودة من الأراضي الخالية بالمدن الجديدة من الممكن بناء شقق عليها بأسعار ميسرة، لم تقم الدولة بهذا الدور بشكل واسع"، يقول شوكت لـ المنصة.

ويشير شوكت إلى أن العديد من المساحات الصحراوية جرى استغلالها في بناء العقارات الفاخرة، وانجذبت الدولة لبناء أبراج مرتفعة في مناطق خالية مثل العاصمة الإدارية الجديدة، ما يمثل هدرًا للموارد العامة "التوسع الرأسي ليس الحل الأفضل، وهو باهظ التكلفة عند التنفيذ، مما يثقل كاهل المطور ويؤخر عمليات التنمية ويرفع السعر النهائي للعميل، بينما التوسع الأفقي في مساحات صحراوية شاغرة قد يكون الأنسب للمطورين والعملاء".

رأي الدولة في الغلاء 

ويُرجع مصدر بقطاع الشؤون العقارية في هيئة المجتمعات العمرانية ارتفاع أسعار بعض الأراضي إلى كونها مميزة، ومن ثم تعتمد عليها الدولة لتوفير موارد مالية لمشروعات أخرى ذات طابع اجتماعي.

ويقول المسؤول بالهيئة، الذي طلب عدم نشر اسمه، "الأسعار ارتفعت بالفعل بنسب قد تصل لـ10 أضعاف، ولكن ليست لكل أنواع الأراضي، فقط المميزة منها، وهي غالبًا أراضٍ تجارية بالمناطق الرئيسية التي بها طلب مرتفع، والمناطق التي لا يمكن تكرارها، مثل المحور المركزي بالشيخ زايد وما حوله وشارع التسعين بالقاهرة الجديدة، وبعض المناطق المميزة في دمياط الجديدة المطلة على البحر، وبعض قطع الأراضي بأسوان الملاصقة لنهر النيل وبعض الأراضي المحدودة في الساحل الشمالي والعلمين الجديدة".

ويضيف المسؤول بقطاع الشؤون العقارية "اعتادت الهيئة على توفير فوائض مالية للخزانة العامة ومنح بعض الجهات تمويلًا من موازنتها في سنوات سابقة مثل صندوق التنمية الحضرية".

ويرى أن الزيادات في أسعار المتر السكني، التي بلغت 300% في بعض الأراضي المميزة، كانت مدفوعة بالارتفاعات القوية في التضخم خلال الفترة الأخيرة، مشيرًا إلى أن "أسعار الأراضي لا تتأثر بتكاليف مد المرافق فقط، ولكن بعوامل أخرى أيضًا، مثل تكاليف تمهيد الطرق الداخلية بالمدينة للوصول للمشروعات، وإنشاء محطات الكهرباء والمياه والصرف والغاز الطبيعي لإمداد المشروعات، وكل أوجه الإنفاق اللازمة لتنمية المدن".

ويوضح أن الهيئة اتجهت منذ 2016 إلى المساهمة بالأرض مع المطورين، نظير حصولها على نسبة من المشروع بهدف تخفيف عبء قيمة الأرض على المطور وتحقيق دخل مستمر سنويًا للهيئة.

وكانت هيئة المجتمعات بدأت هذا التوجه في مشروع مدينتي مع مجموعة طلعت مصطفى، وعادت لهذا التوجه بقوة منذ عقد الشراكة مع شركة ماونتن فيو لمشروع آي سيتي في 2016.

وتعليقًا على ظاهرة دولرة الأراضي، يبرر مصدر ثانٍ في هيئة المجتمعات العمرانية بقطاع الشؤون العقارية، طلب عدم نشر اسمه، بأن الهيئة مضطرة للعمل على جمع حصيلة بالنقد الأجنبي، للوفاء بالتزاماتها الدولارية.

ويضيف "هناك أقساط قريبة للقرض الصيني الذي حصلت عليه الهيئة لبناء منطقة الأعمال المركزية، بخلاف مكونات بعض المشروعات التي ننفذها بالمدن الجديدة والتي تحتاج لعملة صعبة لاستيرادها".

وكانت هيئة المجتمعات العمرانية حصلت على قرض بقيمة 3 مليارات دولار تقريبًا لتمويل إنشاء منطقة الأعمال المركزية بالعاصمة الإدارية الجديدة "تتضمن 20 برجًا"، وتم تسليم المرحلة الأولى من الأبراج قبل عدة أسابيع، ومن المقرر أن يبدأ سداد أقساط القرض فور انتهاء تسليم الشركة الصينية المنفذة للأبراج.

رغم كل المبررات التي تسوقها الدولة، يرى خبراء، مثل مؤسس صندوق إس دي سي للاستثمار، أحمد صقر، أن هيئة المجتمعات العمرانية تقع على عاتقها مسؤولية كبيرة في توجيه السوق العقارية وتسعير خدماتها المختلفة، بالنظر للدور الضخم الذي تقوم به في طرح الأراضي وبناء العقارات، لذا فإن أي توجه لدى الهيئة نحو التسليع يعد "أكبر ممارسة احتكارية في القطاع العقاري"، من وجهة نظره.