ساهم آخر قرارات مجلس الوزراء بشأن تسعير شقق الإسكان الاجتماعي في وصول سعر الشقق المطروحة لمحدودي الدخل لمستويات تقترب من نصف مليون جنيه، وبلغ سعر وحدة متواضعة المستوى لا تتجاوز مساحتها 90 مترًا 450 ألف جنيه، بينما وصل سعر وحدة أقل في المساحة غرفتين وصالة 75 مترًا، إلى 400 ألف جنيه، وهو ما يقترب من أسعار مطوري القطاع الخاص، أو "الكومباوند".
وكان مجلس الوزراء وافق على زيادة الحد الأقصى لسعر بيع الوحدات السكنية لمحدودي الدخل، لتصل إلى تلك المستويات.
الأسعار المتوقع أن يبدأ التعامل بها في الطرح المقبل لشقق الإسكان الاجتماعي، مطلع 2023، تعد مرتفعة للغاية بالنسبة لمستويات الدخول المستهدفة، ويظهر هذا التناقض عند حساب قيمة الوحدة بالتقسيط، فبفرض أن مواطنًا يحصل على الحد الأدنى الرسمي للأجر، 2700 جنيه شهريًا، فهو يحتاج لنحو 14 عامًا لسداد قيمة العقار فقط، هذا قبل حساب فوائد التمويل العقاري وقيمة وديعة الصيانة، 5% من سعر الوحدة.
فما العوامل التي تحدد على أساسها وزارة الإسكان أسعار العقارات الموجهة لإسكان محدودي الدخل؟ وكيف قادت إلى صعودها لهذه المستويات؟ وهل لدى الدولة مبررات كافية للأسعار التي تطرحها على محدودي الدخل؟
زيادات متوالية في الأسعار
بالرجوع إلى آخر قرارات تسعير شقق الإسكان الاجتماعي، ضمن المبادرة التي بدأتها وزارة الإسكان في 2011، نجد أن سعر الوحدة بمساحة 90 مترًا كان في نهاية عام 2020 لا يتجاوز 310 ألف جنيه، أي أن السعر الجديد الذي أعلن عنه مجلس الوزراء في نهاية يوليو الماضي يزيد بحوالي 45% عن السعر السابق.
"تسعير شقق الإسكان الاجتماعي بهذه الأرقام مُبالغ فيه، خاصة أن الوحدات لا تشمل نسبة ملكية في الأرض، أي أن في حالة أي ضرر للعقار فهذه المبالغ لا يستفيد منها المواطن إلا بحسب فترة إقامته بالعقار"، كما يقول حسين جمعة، رئيس جمعية الحفاظ على الثروة العقارية
ويضيف جمعة أنه "بجانب عبء السعر فإن الحائزين لهذه الوحدات كثيرًا ما يشكون من ضعف مستوى التشطيبات واضطرارهم للإنفاق مجددًا على الوحدة لإصلاحها بمبالغ تصل إلى عدة آلاف من الجنيهات، مما يشكل عبئًا إضافيًا على المواطن".
لكن من وجهة نظر يحيى شوكت، الباحث العمراني ومؤسس مبادرة 10 طوبة، فالأهم من ارتفاع تكلفة تملك الوحدة على الفئات الأقل دخلًا مؤخرًا، هو استدعاء ذلك لوجود زيادة كبيرة في قيمة مقدم خاصة لأصحاب المهن الحرة، إذ يلزمهم القانون بسداد حوالي 40% من قيمة الوحدة مقدمًا، أي حوالي 180 ألف جنيه، خاصة إذا انخفض الدخل عن 2000 جنيه شهريًا، بينما عميل آخر محدود الدخل لكنه موظف بالقطاع العام بدخل يتجاوز 3500 جنيه يسدد 15% فقط من سعر الشقة كمقدم أي حوالى 67 ألفًا، بفارق 113 ألف جنيه تقريبًا بين الفردين.
وهذا الفارق الكبير لا يمكن لشرائح عديدة في المجتمع أن تتحمله، لذا يجب التركيز على أن يتم دعم هذا الفارق بدعم نقدي مباشر من الدولة، وفق ما رأى شوكت.
طول مدة التمويل التي تصل إلى 30 سنة في آخر مبادرة، والفائدة المنخفضة يمكن أن تساعد المواطن في سداد أقساط الوحدة على المدى الطويل، بحسب الباحث الذي تحدث إلى المنصة، لكن المشكلة الأكبر في قيمة المقدم الضخم المطلوب من أصحاب الدخول المحدودة، خاصة أن معدلات الدخول في مصر منخفضة بشكل كبير.
وكانت وحدات الإسكان الاجتماعي بدأت بسعر 135 ألف جنيه في 2014 مع بدء طرح أعداد صغيرة من وحدات المشروع
ويرى خبراء أن الزيادات المتوالية في أسعار الإسكان الاجتماعي كان من الممكن أن تخفف عبئها عن المواطن؛ من خلال طرح الشقق بنظم مختلفة، لا أن تقتصر الطروحات على التمليك "كان من الأفضل اللجوء لطرح الشقق بنظام الإيجار التمليكي، الذي يمنح المستفيد مدة إيجار 10 سنوات على وعد بالتملك بسعر مدعوم، حيث سيكون عبء الإيجار أقل بكثير من تكلفة التملك"، كما يقول جمعة.
الإسكان تراها رخيصة
لكن رغم تقديرات الخبراء لارتفاع أسعار الإسكان الاجتماعي، فإن وزارة الإسكان ترى أن مستويات الأسعار المعلنة تكاد تغطي تكاليف الشقق المطروحة، حيث قال لنا مصدر بصندوق تمويل الإسكان الاجتماعي ودعم التمويل العقاري، طلب عدم ذكر اسمه، إن الطرح المرتقب للشقق الجديدة في بداية 2023 استمر تأجيله لشهور انتظارًا لقرار رئيس الوزراء الأخير حتى تكون أسعار الوحدات مناسبة لتكاليف السوق الراهنة.
وكانت وحدات الإسكان الاجتماعي بدأت بسعر 135 ألف جنيه. كان ذلك في 2014 مع بدء طرح أعداد صغيرة من وحدات المشروع واستمر ذلك حتى طروحات 2015.
وشهدت وحدات الإسكان الاجتماعي إقبالًا متزايدًا من المواطنين، وخلال طروحات عام 2016 ارتفع السعر إلى 154 ألف جنيه، وهو الطرح الثامن الذي يعد الأضخم في تاريخ هذا المشروع حيث بلغ عدد الوحدات 500 ألف.
وفي 2018 صعد السعر مجددًا في الطرح التاسع للمشروع إلى 184 ألف جنيه، ثم تبقى عدة آلاف من الحاجزين لم تتوفر لهم وحدات، وتم فتح باب التحويل لهم للمرحلة التالية بسعر 225 ألف جنيه للوحدة، بشرط الانتظار 3 سنوات للاستلام، مع زيادة مؤكدة 10% على سعر الوحدة تحسبًا لارتفاعات أسعار مواد البناء خلال مدة التنفيذ، مع دفع قسط ربع سنوي حتى موعد الاستلام.
ثم أتى آخر إعلانات الوزارة مطلع 2021 بسعر وصل إلى 310 ألف جنيه، مع التعهد بتسليم الشقق خلال 3 سنوات، ومع نسبة زيادة أسعار 10%.
رغم هذه الزيادات المتوالية فإن احتياج محدودي الدخل للسكن، جعل لدى وزارة الإسكان قائمة انتظار طويلة لطالبي الشقق، التي لا تزال أسعارها أقل بكثير من الأسعار بالغة الارتفاع التي يطرحها القطاع الخاص، يقول المصدر "توقفت الوزارة لمدة تقترب من سنة كاملة عن طروحات محدودي الدخل نظرا لوجود قائمة انتظار طويلة لديها تتجاوز 300 ألف مواطن بين حاجزين للإعلان العاشر ومرحلين من التاسع وحاجزي الإعلان الرابع عشر".
ويضيف المصدر "توقف الطرح لشقق سكنية لمحدودي الدخل آخر 18 شهر منذ فبراير 2021 حتى الآن، لا يرجع فقط لوجود قائمة انتظار طويلة، بل انتظارًا لتعديل الأسعار خاصة بعد توقف بعض المناقصات لمنح المقاولين عمارات لتنفيذها بالعديد من المدن الجديدة منذ مارس/ آذار الماضي بسبب إعادة تسعير "مقايسة المشروع"، وهو ما كان مرتقبًا منذ بداية الربع الثاني من العام الجاري وقام مجلس الوزراء بالفعل بهذا التعديل الأخير للأسعار وزيادتها لتتناسب مع تكلفة التنفيذ الجديدة".
ما مبررات زيادة السعر؟
المبرر الأساسي الذي تطرحه وزارة الإسكان لزيادة الأسعار هو ارتفاع أسعار مواد البناء، بينما يرى خبراء أن تكاليف البناء خلال الأشهر الأخيرة لا تكفي لتفسير قرار مجلس الوزراء الأخير.
وساهمت الحرب الروسية الأوكرانية في زيادة أسعار مواد البناء عالميًا، من بينها الحديد الذي تأثر بنقص بعض المواد المستوردة من أوكرانيا
"السعر مرتفع مقارنة بالتكلفة الفعلية للتنفيذ، مع مراعاة أن سعر الحديد والأسمنت لا يمثلان إلا 30% فقط من تكلفة إنشاء المبنى" كما يقول حسين جمعة.
بحسب وزارة الإسكان فإن تكلفة الوحدة المعلن عنها هي بالأساس تعكس تكاليف مواد البناء والتنفيذ، والدولة تتحمل تكاليف المرافق وتمنح الأراضي بالمجان، بل وتقدم دعمًا نقديًا على الوحدة يصل إلى 40 ألف جنيه في طروحات عام 2021.
وساهمت الحرب الروسية الأوكرانية في زيادة أسعار مواد البناء عالميًا، من بينها الحديد الذي تأثر بنقص بعض المواد المستوردة من أوكرانيا، لكنَّ تأثير الحرب تراجع تدريجيًا لينخفض سعر طن الحديد لأقل من 18 ألف جنيه في الوقت الراهن، بعد أن كان قد تجاوز 20 ألف جنيه خلال أبريل/ نيسان الماضي.
يشير عضو مجلس إدارة الاتحاد المصري لمقاولي التشييد والبناء، محمد عبد الرؤوف، إلى أن سوق مواد البناء في مصر لم يستجب بشكل كاف لتراجع أسعار مواد البناء مؤخرًا، ما يعكس غياب واضح لدور الدولة في تنظيم هذا السوق واكتفائها برفع سعر وحدات الإسكان الاجتماعي.
"أسعار مواد البناء ومدخلات العقار انخفضت عالميًا ولم ينعكس هذا على السوق المصري، حيث انخفض النحاس 40% عالميًا ولا زال سعره مرتفع داخليًا، وكذا الأخشاب والنيكل وغيرها من المدخلات".
ويضيف عبد الرؤوف "العنصر الأكثر استخدامًا في كافة مراحل البناء هو الأسمنت، لا زال سعره أكثر من ضعف السعر العالمي، سعره العالمي 40 دولارًا أي حوالى 800 جنيه وسعره محليا 1700 جنيه تقريبًا".
ومن اللافت ارتفاع أسعار الأسمنت محليًا، بالنظر إلى أنه من المنتجات التي تعتمد بشكل رئيسي على مدخلات محلية الصنع، وساهمت الدولة في التشجيع على وجود أسعار مرتفعة للأسمنت، كما يقول عبد الرؤوف موضحًا "قرار السماح للشركات المصنعة بخفض الإنتاج للعام الثاني دفع لزيادة مؤكدة للأسعار، بعد أن تكبدت الشركات خسائر نسبية بسبب قرارات وقف البناء التي استمرت نحو عامين منذ 2019، فكانت زيادة الأسعار طريقة لكي تعوض نفسها عن هذه الخسائر".
غياب الشفافية حول طرق تسعير وحدات الإسكان الاجتماعي، يزيد الغموض حول مدى العدالة في طريقة إتاحتها.
ويظهر ذلك عند مقارنة أسعار وحدات الدولة ببعضها، فإذا قارنا سعر وحدات الإسكان الاجتماعي قبل الزيادة الأخيرة بـ 310 ألف جنيه، مع وحدات مشروع "طيبة الجديدة" التابع لهيئة المجتمعات العمرانية، سنجد وفقًا للبيانات المعلن عنها خلال العام الماضي أن تكلفة تنفيذ 7 آلاف وحدة بمشروع طيبة بلغت نحو 900 مليون جنيه، أي أن تكلفة الوحدة لا تتعدى 130 ألف جنيه، بحسب بيان صادر عن الوزارة في أغسطس/ آب الماضي، مع التأكيد المستمر على عدم تحميل المواطن تكلفة الأرض والمرافق كجزء من دعم الدولة له.
ويذكر أن وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، تطرح حاليًا بعض الوحدات السكنية "الجاهزة" للمواطنين ضمن مشروع الإسكان الاجتماعي، تحت اسم "سكن لكل المصريين"، بأسعار أقل من تلك المحددة فى قرار مجلس الوزراء الأخير.
وتعد هذه المرة الثالثة التى يتم طرح شقق جاهزة استلام فورى ضمن المشروع بأسعار مخفضة، حيث تكرر الامر خلال عامى 2019 و2020.
وهنا، نجد أن الدولة تبيع وحدات الإسكان الاجتماعي، التي من المفترض إنها مدعومة، بضعفي تكلفتها، وذلك قبل حتى حساب تكلفة الفوائد، ما يجعل وحدات "محدودي الدخل" تماثل نظيرتها في الإسكان الخاص أو الكومباوندز.