اضطر شعبان أن يغادر بلدته أسوان إلى القاهرة للعمل بها، في محاولة لتوفير سبل المعيشة لأسرته الصغيرة، لديه ولدان وبنت، ونجح بالفعل في العمل حارس عقار في حي المنيل، بفضل أقاربه الذين يعملون في الحي نفسه.
يعمل شعبان، الشاب الثلاثيني ذو البشرة السمراء والابتسامة الخجولة، دون أي عقد عمل، فقط بكلمة شفهية من صاحب العقار، وكان راضيًا رغم ذلك، غير أن مرضه المفاجئ، كما يقول "قلَّب عليه المواجع".
لا يعرف شعبان عن عيد العمال سوى أنه يوم إجازة للموظفين "حسيت بألم رهيب في بطني خلاني أروح للدكتور. وبعد الأشعة بلغني إن عندي حصوة ولازم عملية"، لكنه لا يتمتع بأي تأمين اجتماعي أو صحي، مثله مثل الملايين من العمالة غير المنتظمة التي تتخطى أعدادها العشرة ملايين.
ويضيف "مباخدش أي مقابل من صاحب العمارة، ودخلي بيعتمد على مبلغ شهري بتدفعه لي كل شقة، وفيه اللي بيدفع وفيه اللي بيرفض، وفي الآخر بجمع حوالي 2500 جنيه. وعلشان أزود دخلي بمسح العربيات واشتري احتياجات السكان، وده الحقيقة اللي معيشني، وبتحصّل منه على ألفين جنيه كمان أو أكتر شويه".
لا يعلم شعبان أن للعمالة غير المنتظمة المسجلة لدى وزارة القوى العاملة حق الحصول على إعانات
يؤرقه سؤال متكرر "المفروض أبعت فلوس لولادي وأنا كمان أعيش.. أنا كده كأني فاتح بيتين ومش عارف ليه البلد مش بتفكر فينا.. إحنا كمان عمال ومحتاجين نعيش ونتعالج، وحتى الزيادة الأخيرة اللي أعلنها الريس مشفناش منها حاجة".
كان الرئيس عبد الفتاح السيسي أعلن في مارس الماضي عن حزمة إجراءات لمواجهة غلاء المعيشة تضمنت تحسين دخول العاملين بالجهاز الإداري بالدولة بحد أدنى ألف جنيه، وزيادة المعاشات بنسبة 15%، ورفع حد الإعفاء الضريبي على الدخل السنوي من 24 ألف جنيه الى 30 ألف جنيه سنويًا، وزيادة معاشات برنامج "تكافل وكرامة" بنسبة 25%. وتقدر قوة العمل في مصر بنحو ثلاثين مليونًا، منهم أكثر من خمسة ملايين في القطاع الحكومي.
ولكن ثمة "ولاد حلال" يعيدون التوازن للحياة بشكل ما. ظهر لشعبان "ست طيبة من سكان العمارة هتتكفل بمصاريف العملية". ورغم ذلك ينتوي ترك العمل في العقار بعد إجراء الجراحة "علشان المالك رافض إنى أجيب عيلتي تعيش معايا، عشان منعملش دوشه"، علمًا بأنه لا يسكن في غرفة بالعقار، لكنه ينام في ممر طوله ثلاثة أمتار وعرضه متر وربع متر، يفترش الأرض، فيما تنتشر من حوله الحشرات. ويبتسم قائلًا "محدش لاقي شغل اليومين دول. ولو الواحد متعبش واشتغل وهو شاب هيتحمل أمتى؟".
لا يعلم شعبان أن للعمالة غير المنتظمة، المسجلة لدى وزارة القوى العاملة، حق الحصول على إعانات في حالة الوفاة أو العجز أو عند إجراء عمليات جراحية كبرى أو صغرى، تتراوح ما بين ألفين وعشرة آلاف جنيه.
ولم يسمع كذلك عن مشروع قانون العمل الجديد الذي لم يقر منذ أن طرحت الحكومة مسودته الأولى قبل تسع سنوات كاملة، ليستمر قانون العمل رقم 12 لسنة 2003 رغم ما فيه من خلل وانحياز للمستثمرين.
ولا يعرف ماذا سيفعل بعد أن يترك العمل، "مش عارف هصرف منين لحد ما ألاقي شغل جديد.. هعيش مؤقتًا عند قرايبي.. بس البيت في البلد مفتوح والمصاريف بتزيد"، في إشارة إلى الموجة التضخمية غير المسبوقة التي تضرب البلاد.
بلا ظهر
كان يُمكن لو أحيت الدولة نظام إعانة البطالة أن تحمي ظهر شعبان وقت الأزمة، فإعانة البطالة موجودة في التشريع المصري منذ عقود، ولكن قانون التأمينات رقم 148 لسنة 2019 يستثني منها، حتى اليوم، العمالة غير المنتظمة.
ولفتت مائدة مستديرة نظمها مركز العهد للمساعدة القانونية خلال أغسطس/آب الماضي، الانتباه إلى البعد النوعي في قضية العمالة غير المنتظمة ووضعت توصيات للنهوض بأوضاع عاملات هذا القطاع ومن أبرزها تغليظ عقوبات التحرش الجنسي داخل العمل، ودمج عاملات المنازل داخل الفئات المعترف بها قانونيًا للعمالة غير المنتظمة، وتمتعهن بكل الحقوق، وإصدار قرار وزاري يلزم الشركات والمؤسسات المتعاقدة مع الدولة للعمل في المشروعات القومية وغيرها ألا تقل نسبة العاملات عن 30%.
وزارة القوى العاملة أعلنت العام الجاري أنها تعمل على تسجيل 2.5 مليون عامل في المرحلة الحالية من بين 13 مليون عامل
وتعرِّف منظمة العمل الدولية العمالة غير المنتظمة بأنها "تشمل الوظائف غير المنظمة سواء في إطار منشآت القطاع المنظم أو منشآت القطاع غير المنظم أو الأسر المعيشية خلال فترة محددة".
ووفقًا لبيانات التعداد الاقتصادي عام 2017/ 2018، استحوذ القطاع غير الرسمي على نسبة 53% من إجمالي المنشآت في قطاعات الأنشطة الاقتصادية.
ورغم أن الحكومة المصرية أصدرت قرارا وزاريًا عام 2015 بتسجيل العمالة غير المنتظمة، فإنها لم تنجح حتى اليوم سوى في تسجيل 331 ألفًا و688 عاملًا. بل أن وزارة القوى العاملة أعلنت العام الجاري أنها تعمل على تسجيل 2.5 مليون عامل في المرحلة الحالية من بين 13 مليون عامل، مما يعني أن شعبان ورفاقه سيتعرضون لأبشع أنواع الاستغلال، خصوصًا في ظل الارتفاع الرهيب في الأسعار وانكماش الاقتصاد، وسيحرمون من حقهم الإنساني في التأمين الصحي والاجتماعي.
ورغم أن قانون تنظيم النقابات العمالية لعام 2017 أتاح إنشاء لجان نقابية مهنية، ولكن المضايقات الإدارية والأمنية قللت من عدد المنضمين للتنظيمات النقابية، وحسبما أورد تقرير أخير لدار الخدمات النقابية فقد تم شطب 1500 مرشح من قوائم الترشح للانتخابات النقابية الأخيرة التي أجريت العام الماضي، إلى جانب غياب حملات التوعية المنتظمة بمزايا التسجيل.
كما ترفض الحكومة مشاركة ممثلي العمال في صياغة وتنفيذ القرارات المتعلقة بهم، وليس سرًا أن مجلسي الشيوخ والنواب رفضا عقد جلسات استماع لطرح رؤية النقابات المستقلة في مشروع قانون العمل الجديد.
ولم تلتفت الحكومة إلى مطلب نقابيين بوضع آلية محددة في مشروع القانون لتسجيل العمالة غير المنتظمة، ولا إلى ضرورة تمثيلها في صندوق دعم العمالة المقترح إنشاؤه، فضلًا عن تجاهل مطالب إلغاء كل النصوص المتعلقة بشركات توظيف العمالة، التي لا تضمن أي حماية للعاملين.
كما توجد معوقات عملية لعملية التسجيل، حسبما يشير عمال تحدثت إليهم المنصة، وتحفظوا على ذكر أسمائهم، تتمثل في البيروقراطية وغياب الرقابة، وأشاروا إلى أنه في حال تقدم العامل بطلب إعانة يطلب مفتشو العمل تقديم أوراق عدّة، بدلًا من بحث الحالة بأنفسهم على أرض الواقع لإثبات صحة البيانات المقدمة من طالبي المساعدات.
وقد تتحسن أوضاع شعبان ورفاقه المعيشية في حال مد مظلة الحماية الاجتماعية لهم، ولكن أولادهم سيضطرون الى الدخول مجددًا إلى دائرة العمل بلا حماية، ما لم تتغير السياسات التي تنتج الفقر.